«لحظة دخوله إلى البيت أُشعر إن كان سيضربني اليوم أم لا، لهذه الدرجة أصبحتُ أفهم انفعالاته، أعرف تماماً بأن اللحظة التي سأقاومه فيها سيزداد شراسةً وعنفاً، مؤخراً بدأتُ أحاول أن أجد حلولاً، أن أقنع نفسي بأن هذا طبيعي وعليّ تقبله، بعض الأشياء في حياتنا لا يمكننا رفضها، لأن خسارتنا بعد الرفض ستكون أكبر بكثير، علينا أن نتلقاها وكأنها مقدَّرة لنا ونصمت حابسين الحرائق بداخلنا، نحن النساء مصيرنا ليس بيدنا، وإن كنا نرغب بذلك فلن نحصل على ما نرغب مع هذا الواقع وهذه المفاهيم التي تحيط بنا، ربما بعد زمن طويل تستطيع بناتنا أن تعيش بأمان وسعادة أفضل منا».

تقول هذه الكلمات سيدة خمسينية، متابعة:

«رغم أني لم أعد صغيرة لأتحمل عنف أحد، إلا أنني بعد هذا العمر لا أرغب بأن أخلق مشاكل أكبر، في النهاية سيفهم بأنه مخطئ وأن ما يفعله ظلم، وأنا أحب الحياة والعيش مع أولادي وحمايتهم رغم كل شيء، كبرنا وستنتهي حياتنا فعلى ماذا نحزن».

«مائة وخمسون متراً فقط يبلغ امتداد الشارع الذي أقطن فيه، على جانبيه ثلاث أبنية من جهة اليمين وبناءان من جهة اليسار، تتخلل الشارع محال تجارية صغيرة، تجتمع بعض النساء في أحدها مساءً، يمكنك أن تلتقط من أحاديثهم الكثير عن عنف رجالهن وتقييدهم لحركتهن وحياتهن، نساء يتشابهن جميعاً بصفات واضحة، ملامحهن تحكي قصصهن، وحيدات ولم يعرفن معنى الحب يوماً، حياتهن ليست ملكاً لهن، في مشيهن وكلامهن عنف وخوف متداخلان، بعضهن ولشدة تعرضهن للعنف أصبحن عنيفات، يسلكن مسالك الرجال وكأنهن يثبتن بأنهن قويات، ويبالغن في إظهار ذلك، تسمع سردهن لقصصهن وكأنهن يحكين قصصاً عن نساء أخريات، ليختمن حديثهن بتبريرات لرجالهن يحاولن أن يقنعن أنفسهن بها، فالحياة صعبة، والرجل بطبيعته عصبي وعلينا مداراته، وبعضهن يمدحن ذلك العنف ويتحببن له».

«أستيقظ في السادسة صباحاً من كل يوم على صوت امرأة في الشقة المجاورة لي، تؤنب ابنها ذو السبعة أعوام، يبدأ التأنيب خفيفاً ثم يتطور ليصبح صراخاً وعنفاً جسدياً، نفس المرأة يتعالى صوتها وزوجها ليلاً، لا يصلني من كلامهما شيء واضح، شتائم تختلط بلوم وتعنيف، ينتهي المشهد ببكائها وخروجه لتعاد الكرة في اليوم التالي».

يشكل العنف سلوكاً يومياً لدى الكثير من العائلات السورية، معظم النساء لا يصرحن بذلك، والبعض الآخر يصدّر ذلك الخلاف الزوجي اليومي إلى الخارج، على شكل تفاهم وانسجام، السنوات الأخيرة شهدت اهتماماً بمشاكل المرأة في سوريا، وبدأت النساء بالحديث عما يتعرضن له، العنف هنا يكاد يكون عامّاً وأخلاقياً، وإن لم نجد عنفاً جسدياً فالعنف اللفظي موجود، بالإضافة إلى تقييد المرأة وتنميطها ضمن أعمال وحدود مرسومة مسبقاً، ولا يمكنها الفكاك منها بسهولة.

لماذا يمارس الرجال العنف؟

في البداية يبدو السؤال بسيطاً، لكن عندما تسأل هاته النسوة اللواتي يتعرضن للعنف “لماذا يمارس زوجك العنف عليك؟” أغلبهن يفكرن صامتات ثم يجبن “لا أعرف”.

تختلط المفاهيم والأخلاقيات المجتمعية بالعادات والدين هنا، فتنتج في النهاية حالة يتبناها معظم هؤلاء الرجال حسب ما صرحت به بعض النساء ومفادها، «أنا الرجل وأنت امرأة، أنا الحلقة الأقوى القادر على أن أكون منتجاً وحامياً لك، أنا مصدر أمانك وسعادتك ويحق لي في لحظات انفعالي أن أعنفك، فأنت أضعف من أن تكوني مساوية لي في أي شيء، وغير قادرة على فهم رغباتي وحالتي النفسية وما أتعرض له في الخارج، وبهذا عليك أن تتحملي ما أفعله بك».

هذا الحالة أصبحت طبيعية ومبررة في المجتمع، حتى النساء وبشكل من الأشكال متأقلمات معها، لا خيار آخر لديهن، مقتنعات بأن الانفصال ليس حلاً جيداً ويمكنهن تحمل العنف على أن يتحملن تبعات الانفصال، في ذات الوقت الذي لا توجد فيه قوانين تحمي حقوقهن.

يمكننا تتبع التمييز بين الرجل والمرأة والذي يؤدي بشكل حتمي لهيمنة الرجل في أبسط الأشياء وأكثرها تأثيراً، “اللغة” الكلمات التي يصف كل جنس الآخر بها، كيف تطورت ونشأت، هي ترسيخ طويل لسلوكيات أصبح من الصعب الخلاص منها طالما هي متجذرة في لغتنا وألفاظنا اليومية، والعنف اللفظي سائد وموجود لدى الجميع.

“رب الأسرة” أحد المصطلحات التي يمكننا تتبع ما ينتج عنها من تمييز، مصطلح يحمل الكثير إذا ما تأملنا بمعناه، “الرب” الإله الذي بيده كل شيء، والمتحكم بمجريات حياة البشر، رب الأسرة هو ترميز بسيط لسلطة الرجل وهيمنته، لا يقتصر هذا المعنى على اللغة، بل يمتد ليكون واقعياً، دلالته بالأفعال التي يمارسها الرجل ليتحكم بحياة المرأة، بأفعالها وطموحاتها وإنجازاتها، وما الذي عليها قوله والذي لا يجب أن يكون لها رأي فيه، فهي تابع له ووجودها امتداد لوجوده، قد يكون “رب الأسرة” أباً أو أخاً أو زوجاً وفي بعض الحالات ابناً، وبالرغم من جميع المحاولات التي تُبذل لإدراك المرأة لحقوقها، ورفضها للعنف الممارس عليها، إلا أن نتائج هذا تحتاج لوقت طويل، فالتربية تفرض على الشباب مسؤوليتهم تجاه النساء، ويمكننا اعتبار ذلك موروثاً جمعياً مترسخاً في المجتمع العربي، في ذات الوقت بعض النساء معتادات على أن يكن الأضعف، لا يمكنهن أخذ القرار وتحمل مسؤولية حياتهن طالما أنهن يدرَّبن منذ بداية حياتهن ليكن مطيعات، لذلك يحتاج هذا إلى وقت لتفكيكه وإعادة بناءه بشكل آخر.

«بعد شهر من الزواج بدأ بتعنيفي، كانت حجته بأن لا تفاهم بيننا، وكأن فتاة في الثالثة عشر عليها أن تفهم رغبات رجل في الثلاثين، كان يضربني كل يوم وكنت أحاول الهروب إلى بيت أهلي، إلا أنهم منعوني بالاتفاق معه، فبرأيهم يجب أن أتقبل ما يفعله بي، أثناء الحرب قتل زوجي، لم أعرف حينها إن كان يجب أن أحزن أم لا، الآن أعيش وحدي مع أولادي إلا أن القيود على حياتي أصبحت مضاعفة، فأهل زوجي يراقبون تحركاتي بشكل دائم، منتقدين جميع أفعالي، وهكذا انتقلت من مرحلة العنف اليومي لمرحلة الاتهام والشعور بأني مذنبة طوال الوقت».

“آمال” تبلغ من العمر الآن خمسةً وثلاثين عاماً، تقطن في البناء المقابل لي، في وجهها وحركتها حب للحياة وطاقة غريبة للعيش بأقصى ما تملك، تعيش “آمال” الآن مع أربعة أولاد من زوجها الذي أرغمت على الزواج به وهي في سن الثالثة عشر.

العنف اللفظي

لا يقتصر العنف على الأذى الجسدي، وإنما يمتد ليشمل العنف اللفظي والذي وبحسب دراسات علمية أثره أشد وأطول على الحالة النفسية للمرأة، هذا العنف لا يمارسه الرجل فقط على المرأة، بل يأخذ أشكالاً متعددة، بدءاً بالعنف اللفظي الذي يمارسه الأهل وامتداداً إلى المجتمع وما يمارسه من عنف بتقييد حركتهن وحياتهن ضمن حدود أخلاقية، ونعتهن بصفات مسيئة في حال خروجهن عن السائد، تتحول هذه الألفاظ إلى صور مادية ومحسوسة تتجلى في أفعال هاته النسوة، الخائفات والمترددات، أو تؤدي إلى تحويل جميع أفعالهن إلى ردود فعل هدفها إثبات عكس ما يفرضه عليهن هذا المجتمع، وبهذا تصبح بعض الفتيات انفعاليات وغير متوازنات، وبالرغم من وعي المرأة لذاتها وإمكانياتها أكثر من ذي قبل، إلا أن هناك بعض القيود التي تتصف بالثبات والرسوخ بسبب طول ممارستها عليهن، والتي تحتاج لوعي وجهد أكبر لتجاوزها والمضي دونها بالتوازي مع قوانين تضمن حقوق المرأة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.