تبدو الكتابة عن طه حسين ملائمة هذه الأيام، ليس فقط لمرور ذكرى رحيله قبل أيام 28 تشرين الأول / أكتوبر1973، أو لاقتراب ذكرى ميلاده 15 تشرين الثاني / نوفمبر 1889، بل إلى الحاجة للكتابة عن طه حسين الناقد الفذ والمتمكن من حقوله البحثية والمعرفية، في زمن يتراجع النقد فيه لتتقدم مراعاة الحساسيات والخصوصيات الدينية والاجتماعية والتراثية، وفي مرحلة يصلح فيها إطلاق لقب “المادح” بَدَل الناقد على مجموعة من النقاد لم يُعرَف لهم موقف نقدي طوال مسيرة طويلة من حَمل هذا اللقب الصعب.

افتتح طه حسين مسيرته مطلع القرن العشرين برسالة ماجستير عن أبي العلاء المعري، وهو الذي تجمعه به علاقة خاصة إذ رغم تسعة قرون تفصل بين الرجلين إلا أن اللغة والأدب والمواقف النقدية يضاف إليها فقدان البصر كانت جوامع أساسية بينهما، خلقت آراء طه حسين الشاب التي وردت في رسالته تلك والتي عرفت عنه خلال تلك المرحلة له عداوات كثرة، تسببت في النهاية إلى حرمانه من درجة العالمية التي كان يمنحها الأزهر لطلابه.

غير أن الناقد المتمكن من حقل عمله الأساسي وهو النقد الأدبي والتاريخي سيواصل مسيرته، وهذه المرة مغادراً #مصر باتجاه #فرنسا التي سيحصل فيها على درجة الدكتوراة، بعد أطروحة قدمها عن ابن خلدون عنوانها “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية تحليل ونقد.” وكان من مشرفيها واحد من أهم علماء الاجتماع إميل دوركهايم، وفي هذه الرسالة انتقد طه حسين الباحث الشاب يومها ابن خلدون ومواقفه وتحليله، بل تجرأ ووصفها بالمحدودية وفي هذا حقق سبقاً على غيره من الباحثين والنقاد الذين سيأتون بعده ويتعاطون مع ما قدمه ابن خلدون في مؤلفاته، لا بل إن حسين اعتبر تمايز ابن خلدون نتيجة لانحطاط عصر هذا الأخير وليس لنبوغ خاص يميّزه وهذا بكل الأحوال موضع خلاف كبير، لا مجال لعرضه هنا، إلا أن الطريف في مقدمة طه حسين لرسالة الدكتوراة سطر صغير يعتذر فيه عميد الأدب العربي من القارئ الفرنسي، إذا لاحظ ركاكة في أسلوب كتابته الفرنسية لأنه كما يشير :” ما كنت إلا غريباً وأعمى.” هذا السطر والذي تداوله كتاب ومهتمون على وسائل التواصل الاجتماعي هذه المدة منوهين بحساسية طه حسين ورهافة تعاطيه مع قارئه.

بعد عودته إلى #مصر خاض حسين مجموعة من المعارك الفكرية، ربما يكون أهمها تلك التي تبعت نشر كتابه النقدي الهام “في الشعر الجاهلي”، والذي اعتبر فيه أن ما وصل إلينا من شعر تحت عنوان الشعر الجاهلي ما هو إلا شعر منحول، وكانت هذه الفكرة كفيلة لتأليب عدد من النقاد والمشايخ عليه ومحاكمته بتهمة الإساءة للدين، لكن المحكمة برّأته من هذه التهم.

يضاف إلى هذا، كتابه الهام “مستقبل الثقافة في مصر”، وفيه ربط طه حسين مصر وربما المشرق العربي من خلفها بثقافة البحر المتوسط أو الثقافة المتوسطية، وفي هذا رد مبكر على ما يمكن أن نسمعه في أيامنا هذه عن وجود حضارة مادية في الغرب وأخرى روحية في الشرق، وأن العالم العربي والإسلامي يتوسط هاتين الحضارتين، أو تلك النظريات التي تدعو لتقسيم العالم بشكل خشن إلى حضارة غربية وأخرى شرقية، وقد ثبت تهافت النظريتين.

هكذا كان طه حسين في جانب من جوانب عمله البحثي مهموماً بالشّكّ المُنتج إذا جاز التعبير، إلا أن الناقد الفذ كان سياسياً تقدمياً أيضاً، وخلال تدريسه الجامعي وتوليه وزارة المعارف آمن طه حسين دائماً بمبدأ ديمقراطية التعليم، وسعى لتأمينه بالمساواة للجميع واعتبره “كالماء والهواء حق لكل مواطن”.

لا يمكن في هذه العجالة الإضاءة على العميد ونتاجه الفكري والنقدي والأدبي بالتأكيد، إنما فقط التذكير ببعض من مواقف حياته، وبمنهجه النقدي الصارم الذي تجرّأ به على مساءلة الحدث التاريخي ونقده منذ كتابيه “عن الشعر الجاهلي” و “عن الفتنة الكبرى”، وحتى مواقفه السياسية التقدمية والمنحازة للعدالة في وقت تحاصر الرجعية والتخلف والظلم المنطقة وتمزقها وتجد من يبرر أفعالها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة