بعد أن دمرها القصف، بدأت مدينة #الموصل، المعقل العراقي السابق لتنظيم “داعش”، بإعادة بناء نفسها ببطء منذ رحيل الجهاديين في عام 2017، ولأول مرة منذ تحرير المدينة، سيتم الاحتفال بقداس عيد الميلاد في كنيسة القديس “توما”، والتي كانت بصمودها إحدى معجزات المعركة ضد التنظيم المتطرف.

“يلا شاي”، يصدح بشكل ميكانيكي صوت “أبو يوسف” منادياً ابنه بمجرد أن يقترب أحد المارة من صالون الشاي الخاص به في شارع النوري بمدينة الموصل.

هذا الشارع يحتضن الجناح الأيمن من المسجد الكبير المدمر، والمعروف بكونه المركز الأيديولوجي لتنظيم “#داعش” إبان احتلاله للمدينة.

ويتجمع الموصليون في المدينة القديمة يومياً على المقاعد الخضراء القديمة في صالون الشاي هذا الواقع في وسط كومة الأنقاض والمباني التي دمرها القصف.

يجلس هذا الرجل بشعره الأسود مرتدياً سترة راكبي الدراجات النارية ذات اللون الكاكي والمصنوعة من جلد الغزال، وهو معجب بملصقاته القديمة لمدينة الموصل من السبعينيات والتي تم لصقها على جدران متجره قبل خمسة عشر عاماً.

«قبل وصول تنظيم داعش، كان متجري هذا ملتقى طرق للأديان والثقافات»، وكان المسلمون والمسيحيون في المنطقة يروون لبعضهم البعض ذكرياتهم وأيام شبابهم في المدينة القديمة، ويطلقون النكات أثناء احتساء الشاي”، يتذكر الرجل الخمسيني.

وخلال فترة “الخلافة”، بين شهر حزيران 2014 و2017 في الموصل، استمر “أبو يوسف” في استقبال زبائنه في صالون الشاي هذا، على الرغم من تهديدات “الحسبة”، شرطة الأخلاق التابعة لتنظيم “داعش”.

أين الدولة؟

«عندما كان الجهاديون يقومون بجولات في الحي، كانوا يأتون دائماً إلى هنا، لأن رائحة السجائر تفوح من متجري».

هذه كانت تعتبر جريمة، لذلك حبسوني لمدة سبعة أيام في سجن في “الطاهرة”، أقدم كنيسة في الموصل، على بعد شوارع من صالون الشاي الخاص بي”، يتابع أبو يوسف.

ومنذ سقوط التنظيم، يكافح أبو يوسف لاستعادة زبائنه في فترة قبل الحرب، حيث يقول: «لقد مات الكثيرون، كما يعيش البعض منهم على الضفة الأخرى من نهر دجلة. لا يستطيع المسلمون تحمل تكاليف إعادة بناء متاجرهم ومنازلهم، وقد عاد القليل منهم للعيش هنا. لقد وعدتنا الحكومة بإعادة بناء البلدة القديمة ولكن لم يتم فعل شيء. لقد كذبوا علينا!».

وتعيش مها أحمد، الأرملة ذات 28 عاماً والأم لثلاثة أطفال، ذات الظروف المأساوية. فقد أعدم الجهاديون زوجها بعد محاولته الفرار مع أسرته قبل شهر من إطلاق سراحه في شهر تموز من العام 2017.

ومنذ ذلك الحين، تعيش مها في منزل أهل زوجها، الذي أعادت المنظمات الدولية بناؤه بعد أن دمرته غارة لطيران #التحالف_الدولي خلال معركة الموصل.

وترتدي هذه الأم الشابة ثوباً طويلاً مزخرفاً بألوان زاهية يعلوه حجاب كريمي، مطلقةً غضبها في غرفة جلوس العائلة، قائلةً: «عندما قتل تنظيم داعش زوجي، طلبت معاشاً من الحكومة العراقية كتعويض، لكنني لم أتلق شيئاً».

وبعد ثلاث سنوات من الحرب، لم يتم إعادة بناء المنازل والمستشفيات والمدارس، ولا توجد خدمات عامة حتى الآن. «أين الدولة؟».

ومع ذلك، لا تتخيل مها رؤية أطفالها يكبرون بعيداً عن مسقط رأسهم، فتتابع بأسى: «بالرغم من كل هذه المعاناة، هذه مدينتنا وهي جذورنا. أريد أن يكبر أطفالي مع التراث والإرث الثقافي لأسرتهم».

مدينة ألفية

وبالرغم من حجم الدمار، لم تقم مدينة الموصل القديمة الحداد على ماضيها المعماري. فهذا إرث لا يريد أهلها تركه في حالة خراب. وهناك أكثر من 350 طالب وعامل ومهندس معماري ومهندس مدني منهمكون حالياً في إعادة إعمار المنازل والمباني الدينية مثل مسجد النوري وكنيسة الطاهرة الأقدم في الموصل.

ويهدف هذا المشروع العملاق المدعوم من “اليونسكو” إلى إعادة وقوف هذه المدينة القديمة على قدميها.

«لقد احتفظنا بكل حجر من هذه المباني المدمرة لإعادة بنائها دون حرمانها من جوهرها التاريخي. ويتم إعادة بناء مسجد النوري وكنيسة الطاهرة ومنازل البلدة القديمة من الحجر الجيري المرمري والجبس ورخام الموصل، التي كانت مصدر فخر محلي لعدة قرون»، تشرح ماريا أسيتوسو، المهندسة والمسؤولة عن مشروع إعادة الإعمار في اليونسكو.

تتابع قائلةً: «يجب أن تتم عملية إعادة الإعمار هذه من قبل العائلات الموصلية ومن أجلها».

كذلك يقوم طلاب الإحصاء من جامعة الموصل بإجراء إحصاء من أجل مدينتهم، من خلال مسح أراء السكان وتوقعاتهم من حيث إعادة الإعمار والهندسة المعمارية لمدينتهم. وبالنسبة لـ”آلاء محمد”، الطالبة التي تجري استطلاعات الرأي في شوارع الموصل الكبرى، لا يمكن إعادة الإعمار بدون دعم السكان المحليين.

وتقول هذه الطالبة البالغة من العمر 26 عاماً موضحةً: «إذا أعيد بناء البلدة القديمة بنفس الروح ونفس المعالم الثقافية والدينية كما كانت عليه قبل وصول تنظيم داعش، فسوف يعود أهل المدينة ويستقرون فيها».

الموصل بستان كبير

لا تستطيع آلاء تخيل إحياء المدينة القديمة دون عودة المسيحيين، الذين طردهم جهاديو تنظيم داعش قبل ست سنوات: «الموصل بستان كبير به أصناف متعددة من الزهور المسيحية والسنّية والشيّعية والإيزيدية. فإذا فقدنا زهورنا المسيحية، فإننا نفقد جوهر مدينتنا”، تقول الشابة ذات البشرة الشاحبة والعيون الخضراء».

وتتابع مضيفةً: «آمل أن نتمكن من العيش معهم يوماً ما». وهذا أمل يتقاسمه معها الأب بيوس عفاص، كاهن كنيسة القديس توما، والذي يُطلق عليه اسم “معجزة الموصل”، حيث بقي حارساً لهذه الكنيسة منذ ما يقارب من خمسين عاماً.

فبعد عدة أشهر طويلة من العمل في المبنى المسيحي الوحيد المتبقي بعد المعركة الأخيرة ضد تنظيم داعش، سيحتفل الأب عفاص بأول قداس عيد الميلاد منذ تحرير المدينة في شهر حزيران 2017. «آمل أن يملأ المسيحيون كنائسنا الجديدة وذلك بالعودة للاستقرار في الموصل. ربما لن أكون في هذا العالم في ذلك الوقت، لكنني مقتنع بشدة أن هذا اليوم سيأتي»، يقول القس البالغ من العمر 82 عاماً.

كما يأمل كذلك الأب عفاص بأن يزوره البابا فرنسيس، المقرر زيارته للعراق في شهر آذار المقبل، وأن يبارك كنيسته للاحتفال بتجديدها، بعد ثلاث سنوات ونصف من سقوط تنظيم داعش وخلافته المزعومة.

المصدر: (ليبراسيون )

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.