تسارع موسكو من خطواتها لاحتواء النفوذ الإيراني في سوريا، قبل وصول الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، إلى البيت الأبيض، ضمن سعيها لفرض واقعٍ جديد في الخارطة السورية بترتيباتٍ أمنية يمكن البناء عليها في التفاوض مع أميركا حول الوضع السوري.

مؤخراً، بدأت القوات الروسية في الانتشار في منطقة البوكمال، التي تُعدُّ منطقة نفوذ للحرس الثوري الإيراني، والذي تعرض فيها لضربات جوية من إسرائيل ومن قوات التحالف أيضاً.

وسبق هذا الانتشار اجتماع ضباط روس مع قادة المليشيات الإيرانية، قضى بإنشاء نقاط عسكرية روسية على الحدود السورية- العراقية، واستبدال عناصر المليشيات التابعة لإيران بعناصر من الفيلق الخامس التابع لروسيا؛ وفي نفس الوقت استفاد الروس من امتعاض السكان في المنطقة من تواجد المليشيات الشيعية ومن كثرة الضربات الجوية التي تتعرض المنطقة، وبالتالي حاولوا كسب تأييد وجهاء العشائر وشيوخها في الميادين والبوكمال.

هذا التحرّك يحقق لروسيا عدة أهداف، منها السيطرة على الشريط الحدودي مع العراق، وضبط حركة الإيرانيين دون منعها، وبدء الحشد العسكري الروسي هناك لتولي مهمة القضاء على خلايا تنظيم داعش، وقد أعلنت موسكو استئناف أعمال التنقيب عن النفط في المنطقة، لإيهام واشنطن وإسرائيل بأن وضع المنطقة بات آمناً وتحت سيطرتها.

وفي نفس السياق، يمكن قراءة التحرك الروسي شمالاً في عين عيسى، بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية، واستغلال التهديدات التركية لها باقتحام المدينة الاستراتيجية، وذلك لعقد اتفاقٍ يقضي بدخول النظام والشرطة العسكرية الروسية إلى المدينة، الأمر الذي يبدو أنه تعطّل، بسبب الرفض الأميركي؛ حيث قدمت واشنطن دعماً عسكرياً لقسد، عقب اجتماع جرى في الحسكة بين مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية، والجنرال فرانك ماكينزي.

التحرك الروسي، سواء الانتشار في البوكمال، أو محاولة السيطرة على عين عيسى، كانا يهدفان إلى تعزيز التواجد الروسي شرق الفرات، وإقناع واشنطن بأنهم قادرون على محاربة تنظيم داعش ولجم النفوذ الإيراني، وبالتالي الاستعداد للحظة التوافق مع الأميركيين حول الانسحاب من المنطقة.

وفي خطوةٍ مماثلة لترتيب وضع المنطقة الجنوبية، نشرت روسيا دوريات على خط برافو، الفاصل بين قوات النظام وإسرائيل في الجولان. في حين أن الروس يفكرون إنشاء تشكيل عسكري موالٍ لهم في السويداء، على غرار اللواء الثامن في درعا، الذي يقوده أحمد العودة، ويتبع للفيلق الخامس، عبر طرح تسوية لأوضاع 40 ألف شاب مطلوب إلى الخدمة، وأغلبهم ضمن حركة رجال الكرامة الرافضين للخدمة ضمن جيش النظام في معركة لا تعنيهم.

هذه الخطوة الروسية إن تمّت، ستؤدي إلى نزعة إدارة ذاتية للجبل، الأمر الذي يرفضه النظام وإيران، ويعملان على منعه عبر مليشيا الدفاع الوطني التي تدعمها طهران.

بكل الأحوال، رَفَضَ وجهاءُ السويداء عرض الروس خوفاً من حالة انقسام أهلي واقتتال داخلي بين موالين لروسيا وآخرين لإيران، فضلاً عن امتعاض الأهالي من دور روسيا في استغلال حاجة الشبان المادية والأمنية وتحويلهم إلى مرتزقة، ومن اتهامهم روسيا وإيران بالضلوع بأحداث القريا- بصرى الشام، التي راح ضحيتها 15 شاباً من رجال الكرامة.

وبالتالي، على الروس التفكير في تسوية مقبولة أكثر لأهالي السويداء، تتعلق بحصر الخدمة في الجبل، وضبط الانفلات الأمني في المحافظة وانتشار المخدرات، وتأمين مقابل مادي جيد للشبان، الأمر الصعب التحقيق على روسيا.

ظلّ رهان روسيا الوحيد في سوريا على بقاء نظام الأسد، وسيطرته على كامل سوريا؛ وهي تدرك حجم العلاقة العضوية التي تربط دمشق بطهران، وتسعى إلى تجنب الصدام معها في معارك استنزاف لا تريدها موسكو، نظراً للتفوق القتالي لمليشيات إيران. وبالتالي هي تعمل على بناء توافقات جديدة معها، لاحتوائها، وهناك حديث عن محاولة روسيا إقناعها بتخفيض حجم تواجدها في دمشق، وإشراكها في اتفاق تسعى إليه موسكو مع النظام وإسرائيل.

إيران متضررة من كثافة الضربات الجوية الإسرائيلية ومنهكة من العقوبات الأميركية، وتستعد لتفاوض جديد مع إدارة بايدن حول برنامجها النووي، وتحتاج إلى الدعم الروسي، وبالتالي هي ترغب في التهدئة التي تعمل عليها روسيا؛ لكنها في الوقت نفسه لا تريد الخضوع لإرادة الروس حول التخلي عن نفوذها في سوريا، وعن ممرها البري إلى لبنان، وهي توجّه رسائل قوية إلى موسكو والعالم، ومنها دعوتها إلى فيصل المقداد، وزير خارجية النظام الجديد، لزيارة طهران، كأول عمل دبلوماسي له، الأمر الذي سبَّب امتعاضاً لموسكو.

هناك تنافس بين روسيا وإيران على صعيد حيازة الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية. استطاعت روسيا انتزاع أغلب العقود المتعلقة بالتنقيب عن النفط والغاز، ومشاريع الكهرباء، والفوسفات، والسيطرة على الموانئ والمطارات، وكان آخر تنافس بينهما هو قطاع الإسكان، حيث وقعت طهران مذكرة تفاهم مع دمشق حول تبادل المعلومات والخبرات في مجال الإسكان، ما دفع موسكو إلى توقيع مذكرة مماثلة، على هامش مؤتمر عودة اللاجئين في دمشق الشهر الماضي، تتعلق بإشراف موسكو على قطاع الإسكان والتعاون في مجال التشريعات القانونية والدراسات الفنية والمناقصات الدولية والتدريب والتأهيل.

لكن كلا الدولتين الداعمتين للنظام لا تملكان أموالاً لاستثمارها في قطاعات إعادة الإعمار في سوريا، وتحتاجان إلى تغيير في مواقف الدول المانحة، الغربية والعربية، وهذا يحتاج إلى حل سياسي.

تمكنت روسيا من تحجيم دور تركيا في سوريا، عبر تفاهمات معها، لكن الأمر ليس بهذه السلاسة مع إيران؛ فورقة طهران القوية في وجه روسيا هي قربها من النظام السوري، وتحكّمها في دوائر القرار في دمشق، وهو ما تسعى موسكو لتغييره؛ ولا يبدو أن بمقدورها فعل ذلك في المدى المنظور، خاصة مع حاجة روسيا إلى المليشيات الإيرانية لحسم معركة إدلب، والتي تم تأجيلها حتى يتضح الموقف الأميركي أكثر.

موسكو، التي تدخلت لدعم النظام وإيران في قتل الشعب السوري وتدمير البلاد، غارقة الآن، في الوحل السوري حتى رأسها. ألم يكن من الأسهل عليها التخلي عن النظام، وبالتالي عن إيران، وإرضاء المجتمع الدولي والأميركيين، وإسرائيل والعرب، على أن تبحث بين الدروب الشائكة عن صفقات مع إيران غير واقعية، وغير مضمونة النتائج، ومصيرها الفشل؟.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.