صندوقُ “باندورا” الإيراني: أيّ مَصيرٍ يَنتظِر طهران بسبب ميليشياتها؟

صندوقُ “باندورا” الإيراني: أيّ مَصيرٍ يَنتظِر طهران بسبب ميليشياتها؟

منذ انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الخميني عام 1979 وإزاحة إمبراطوريةّ الشّاه محمد رضا بهلوي، ودَيْدَنُ حُكْم جمهوريّة “روح الله” هو تصدير “ثورة ولاية الفقيه” إلى حيث تَصِل قدرة حكّامها، مستخدمينَ في سبيل غايتهم هذه، دُوَلاً وأحزاب وميليشيّات تعيشُ جَسَداً في بلدانها، بينما تتنفّس من رئة طهران، ولا أدَلّ من الحالة العراقيّة كنموذجٍ بَيِّنْ على طبيعة المشروع الإيرانيّ في المنطقة، والذي يمتدُّ ليشملَ سوريا، ولبنان واليمن، ودولاً أخرى، بِنِسَبَ متفاوتة.

وقد شَكّلَ سقوط نظام الرئيس العراقيّ السّابق صدّام حسين فرصةً ذهبيّة للجمهوريّة الإسلاميّة كي تحصلَ على ما عجزتْ عنه طوالَ حُكْم البعث، سواءً في سنوات الحرب الثّماني، أو السِّلْم الهَشّ الذي تَلاه.

وكان لها ما أرادت، فقد استأثرتْ طهران بمفاصل الحُكْمِ الرئيسيّة في العراق، وأنشأتْ أحزاباً تدور في فَلَكها، وميليشيات متعدِّدة الولاءات المحلّيّة، تلتقي كُلّها، أو جُلّها، في العمل خدمةً لمصالح إيران الإقليميّة، ناهيكَ عن دعم مرجعيّات مذهبيّة بعينها داخل البيت العراقيّ الواحد، في مواجهة أخرى مختلفة معها حول هيمنة الحُكْم الأوتوقراطيّ الإيرانيّ في بغداد.

لَم يَكُن دَوْر هذه الميليشيّات مُفيداً دوماً لطهران في المنطقة، فقدْ باتتْ ممارساتها في الدّاخل العراقيّ عنواناً للصّراع الطّائفيّ المُستدام منذ عام 2003 وأجَّجَتْ الصِّراع بين إيران ودُوَل عربيّة عِدّة، وخاصّة الخليجيّة مِنها، وامتدّ الانقسام هذا إلى شعوب المنطقة، والتي باتَ العديد منها تتوجّس مِن الدّور الإيرانيّ في بُلدانها، وتصدّرَ ملفّ مواجهة النّفوذ الإيرانيّ في المنطقة أولويّات هذه الدُّوَل، وعنواناً لتقارب عددٍ مِنها مع إسرائيل، بعدَ عقودٍ مِن الامتناع عن الاعتراف السياسيّ بها.

أصبحتْ الميلشيات الإيرانية بمثابة صندوق “باندورا” مليء بالأفاعي، والذي مِن المُمكن أن يوزّع شروره على الجميع، دونما رادع.

لا بَلْ زادتْ هذه الميليشيات مِن حِدّة الصِّراع مع الولايات المتّحدة، ووصلتْ إلى مستوياتٍ غير مَسبوقة، حين قتلتْ كتائب “حزب الله العراقيّ” مواطناً أميركيّاً شماليّ العراق، إبان سلسلة تظاهرات شهدتها بغداد، مناهضة لمنظومة الحُكْم العراقيّة، وللوجود الإيرانيّ في البلاد، ووصلتْ ذروة التوتّر بين الجانبين، عندما قتلتْ واشنطن قائد فيلق القدس في الحرس الثّوريّ الإيرانيّ، والرّجل الأبرز في ملفّ الميليشيات الإيرانيّة في الخارج، قاسم سليماني، إضافة إلى نائب رئيس هيئة الحشد الشّعبيّ العراقيّ أبو مهدي المهندس في غارة جويّة استهدفتْ موكبهما بالقُرب من مطار بغداد في كانون الثّاني/يناير من العام 2020 ما استدعى ردّاً إيرانيّاً بقصف قاعدة عين الأسد الأميركيّة في الأنبار، وأخرى في كُردستان العراق، كانت حصيلة الضحايا فيها صِفريّة.

في الجانب الاقتصاديّ تعاني طهران مِن عجز كبير جرّاء العقوبات الأميركيّة الأخيرة، والتي سَنّها الرئيس السابق دونالد ترامب عقب تراجعه عن اتفاق فيينا النّوويّ الذي عقدته مجموعة (5+1) مع إيران عام 2015 في عهد الرئيس الأميركيّ السّابق باراك أوباما.

العقوبات المفروضة على إيران عَزَلْتَها عن النِّظام الاقتصاديّ العالميّ، ولَمْ تَعُدْ تستطيع خَلْق خطط اقتصاديّة لمواجهة الأزمات القائمة، إضافة إلى العَجْز الناتج عن تمويل الميليشيات التّابعة لها، والتي عادةً ما تصنع الحروب وحَسْب، وتكون أبعد ما تكون عن إيجاد أُفق اقتصاديّة أو سياسيّة.

كذلك فإنّ المظاهرات التي تخرج عديد المرّات في طهران تطالب حكومة بلادها بالالتفات للوضع الاقتصاديّ المُتَردّي لشعوبها، وتَرْك تمويل الميليشيات في الخارج، والتي تكون على حساب قوت الإيرانيّين.

من المُمكن أنْ تواجه طهران خطراً جدّيّاً مِنْ هذه الميليشيات، وتهديد مصالحها في عديد من الدّول التي تنشط فيها، وربما في الدّاخل الإيرانيّ هذه المرّة

تعوّل طهران على تغيير الواقع الرّاهن بِناء على مواقف الرئيس الأميركيّ جو بايدن، الذي صرّح في عدّة مناسبات أنّه يودّ إبرام اتفاق نوويّ جديد مع طهران، على أُسس غير تِلْكَ التي تشدَّدَ بها سَلَفه ترامب، وهو ما لاقى ردَاً إيرانيَاً إيجابيّاً، تجلّى في تصريحات كِبار القادة الإيرانيّين، وفي مقدّمتهم المُرشد علي خامنئي.

لكن ما الثّمن الرئيسيّ الذي تريده واشنطن مقابل العودة للتفاهم مع طهران؟ خاصّة في ضوء الاستفادة التي من المُمكن أنْ تحصل عليها إيران، وربما إخراجها مِن عنق الزُجاجة، في المجال الاقتصاديّ على وجه التحديد.

أغلب التقديرات أنّ الولايات المتّحدة تريد تحييد الميليشيات الإيرانيّة في كُلّ من سوريا والعراق، وهو ما قد يُغيّر من المعادلة الإقليميّة القائمة حالياً، فالأذرُع الإيرانيّة المُمتدّة في المنطقة، والتي تُشكِّل بغداد رأس حَربتها هي الدّاء في حالة النِّزاع القائم، ومن المُرَجَّح أنّ هذا الداء سيبقى، وربّما سيتطور بشكلٍ أكبر، بهدف عرقلة أيّ حَلٍّ قادم مع طهران، فهكذا تنظيمات تعتاش على الحروب، ولا مكان لها في عالم السِّلْم، وبالتّالي فهي قد تنقلب على داعميها في سبيل الحفاظ على بيئة حياتها الطبيعيّة، لذا فنجد أنّ استفزازتها للقوّات الأميركيّة وحلفائها في المنطقة تزداد مع كُلّ بارقة أملٍ في تفاهمات مع الجانب الإيرانيّ، وهي فعلياً أصبحتْ بمثابة صندوق باندورا مليء بالأفاعي، والذي مِن المُمكن أن يوزّع شروره على الجميع، دونما رادع.

لذا فمن المُمكن أنْ تواجه طهران خطراً جدّيّاً مِنْ هذه الميليشيات، وتهديد مصالحها في عديد من الدّول التي تنشط فيها، وربما في الدّاخل الإيرانيّ هذه المرّة، في ضوء الانقسامات الحاصلة داخل المجتمع الإيرانيّ جرّاء القَمع السياسيّ، والوضع الاقتصاديّ السيّء، وهو ما قد يشَكِّل تحدّيّاً غيرَ مسبوق في حال حصوله.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.