«حتى اللحظة لا يزال يلاحقني مشهد ليلتي الأولى من الزواج، ملامحه ورائحته راسخة في ذاكرتي، وذلك الخوف الذي أصابني من وجود رجل غريب يقترب مني وعجزي عن فعل شيء، فمباركة أهلي تكفي لألتزم بالأعراف وأصمت، أمضيت الليل بأكمله أبكي واستيقظت بوجه حزين، هذا ما رافقني طيلة حياتي».

“عفاف السعيد”(اسم مستعار)، سيدة من ريف دمشق، تبلغ 48 عاماً، أم لثلاثة أبناء، تتابع لـ(الحل نت): «كنت في السادسة عشر من عمري عندما قرر والدي تزويجي لأحد معارفه من بلدة مجاورة، لم أكن أمتلك الوعي الكافي لفهم ما يحدث، ولم يكن لدي خيار الرفض، بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً لم أستطع أن أحبه».

تتشارك “عفاف” مع الكثير من نساء سوريا تجربة الزواج بالإكراه الذي بقي حتى وقتنا الحالي موجوداً، يحدث هذا الزواج فقط برغبة الأهل دون الأخذ بعين الاعتبار بما تريده الفتاة، غالباً ما يتم لفتيات في عمرٍ صغير، والحرب زادت من نسبته بسبب صعوبة الأوضاع المعيشية وخوف الأهالي على بناتهم، تنعكس آثار هذا النوع من الزواج على حالة الفتاة بالدرجة الأولى، بالإضافة لأثره على حالة الأبناء أيضاً.

العواقب النفسية للزواج بالإكراه

يعتبر قرار الزواج والعيش مع شخص واحد لبقية الحياة من أصعب القرارات التي يمكن أن يتخذها الإنسان بعد تفكير ومعرفة بالآخر، ولا يمكن اعتبار الزواج طبيعياً إلا بقناعة الطرفين وقرارهما، يفتقد الزواج بالإكراه لهذه المقومات، وعلى العكس لا يمكن تحميل الفتاة مسؤولية زواج أُجبرت عليه.

“نسرين علي”(اسم مستعار)، 29 عاماً، أجبرتها عائلتها على الزواج من أحد الأقارب في عمر الخامسة عشر، تقول لـ(الحل نت): «لا أستطيع الاعتياد على حياتي معه، زواجي منه أفقدني الكثير من الأشياء التي كنت أرغب بفعلها في حياتي، واضطررت لترك تعليمي، والعيش في ظروفٍ سيئة، أنجبت منه طفلين ولا يزال يعاملني بتسلط وعنف، كلما حاولت أن أعبر عن نفسي أمام الآخرين، يتجاهلني وكأنني غير موجودة، حتى أنا بدأت أشعر بهذا الشيء».

الغياب التام للشعور بالقيمة الذاتية شعور يرافق النساء المتزوجات بهذه الطريقة، لا رأي لهن، نساءٌ يُستخدمن كأدوات أو أشياء لإرضاء الرجال من حولهن سواء كانوا أباً أو أخاً أو زوجاً، تقابَل أي محاولة للخلاص أو الرفض بالعنف والاتهام بتدنيس شرف العائلة، فقدان القيمة الذاتية يؤدي إلى انعدام الثقة بالنفس وعدم احترام الذات والإحباط، لا يمكن لامرأة في هذه الحالة إقامة أسرة وتربية أبنائها بشكلٍ سليم.

التأثير الجسدي

أولى نتائج الزواج بالإكراه هي ممارسة الجنس دون رغبة بذلك، حيث تجد الفتاة نفسها مُجبرة على ممارسة الجنس مع رجل لا يربطها به أي شيء، تصبح أصغر التفاصيل الحياتية في هذه الحالة غاية في الصعوبة والمعاناة، حياة مشتركة مفروضة، علاقة الزوجين الجنسية في زواج يحدث دون موافقة الطرفين بمثابة اعتداء جنسي، قد يترافق أحياناً مع عنف جسدي ولفظي.

تقول “نسرين” واصفة علاقتها بزوجها: «لم أستطع تقبله في البداية، بقيت لفترة طويلة تنتابني قشعريرة وخوف كلما اقترب مني، وكانت علاقتنا الجسدية هي أكبر مسبب لخلافاتنا، لم أكن أشعر بأية رغبة تجاهه، وهو لم يكن يراعي رغباتي أو يهتم لما أحس به، بقيت كذلك حتى اعتدت في النهاية على ذلك، مستنفذة طاقتي في إخفاء مشاعري ومحاولة عدم التأثر».

الكبت الجنسي والخيانة الزوجية هما أقل ما يمكن أن ينتج عن هذا النوع من العلاقات، حيث تتأقلم النساء مع الحياة التي فُرضت عليهنَّ وتبحثن عن أي متنفس قد يخفف وطأة ذلك الواقع عليهن.

الإنجاب بالإكراه

يحكم مجتمعنا على الفتاة بضرورة الإنجاب طالما تزوجت، وإن لم تفعل ذلك تصبح الشبهات تدور حول قدرتها على ذلك ويتهمونها بالنقص، ليس الزوج وحده بل جميع أفراد العائلة يصبح هدفهم أن تنجب لهم أطفالاً يحملون اسم العائلة.

«لقد ظلمت أبنائي، كان من الأفضل لو أنني رفضت إنجاب الأطفال من رجل لا أحبه، أربعة أبناء بعد أن كبروا أدركت بأنهم يفتقدون للحب والعاطفة العائلية، حياتهم مشتتة حُكم عليها بالفشل بسببي ووالدهم، كان رفضي وكرهي له ينعكس عليهم، كنت قاسية معهم ولم يكن منبع عنفي سوى كرهي لحياتي الزوجية التي أُجبرت عليها».

“بشرى عباس”(اسم مستعار)، متزوجة منذ 22 عاماً، تصف عائلتها بالمفككة، والسبب في ذلك زواجها من رجل لا تحبه في عمر الرابعة عشرة، وتتابع لـ(الحل نت): «كنت مُجبرة على إنجاب طفل كل سنتين، لم أستطع أن أعطي أياً منهم الاهتمام الكافي، ووالدهم شخص غير مسؤول، وأنا لم أكن أستطيع العمل، لم يحصلوا على شيء في طفولتهم، وكانت تلك الأوضاع السيئة تزيد من عنفي عليهم، الآن أراهم مشتتين بلا هدف أو حب يجمع بينهم».

يمكننا رصد الكثير من الأسر المفككة في المجتمع السوري، قد تتعدد الأسباب، لكن أبرزها هو غياب الحب بين الزوجين، حيث يصبح كل منهما عاجزاً عن تقديم الحب للأبناء ضمن علاقة يشوبها الرفض، ولا يمكن لأطفال لا يلمسون الحب والمشاعر العاطفية بين أبويهم أن ينموا بشكل سليم وصحي نفسياً، سيبقى هؤلاء الأطفال يبحثون عن الحب في كل مكان طالما أنهم لم يجدونه في بيتهم وعائلتهم، ونقصه سيؤدي إلى نقص فاعليتهم ونجاحهم في كل مجالات الحياة.

بسبب اعتبارات دينية وأخلاقية توضع المرأة دائماً موضع شك وخوف، ويقوم معظم الآباء بتزويج بناتهنَّ رغماً عنهنَّ خوفاً من المجتمع، فالمجتمع السوري يحتوي على الكثير من الأسر التي بُنيت بتلك الطريقة الخاطئة بإكراه الفتاة على الزواج والإنجاب من رجل لا يوجد بينها وبينه أي انسجام أو تفاهم، تدريجياً تفقد تلك النساء رغباتهنَّ وحيويتهنَّ وتخضعنَ لنمط الحياة الذي وضعن فيه وتصبح أفعالهنَّ عبارة عن ردود أفعال على ما فُرض عليهن تمارسنه على أبنائهنَّ دون علم منهن، إكراه المرأة على الزواج انتهاك لحقوقها وإنسانيتها وشرعنة للعنف والاعتداء الجنسي باسم الأعراف والدين، لا يمكن للحلول أن تكون مجزأة في قضية المرأة، فكل سلوك أو فعل يُمارَس ضدها هو انتهاك لحياتها وحريتها، يجب إيقافه وإيجاد القوانين التي تحميها من أفعال مشابهة، على الرغم من تصنيف الزواج بالإكراه في الإعلان العالمي لحقوق المرأة كأحد أشكال العنف المرفوضة، إلا أن مجتمعنا لا يزال في معظمه قائماً على علاقات زوجية تمّت بالإكراه، الكثير من النساء يخضعن ولا يزلن حتى الآن غير قادرات على الرفض ورد هذه الممارسات عن أنفسهن.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.