“عندما اعتقلت باريس طفلة قالت إن لكل فرد الحق في التصرف في قلبه”

أشارت إحصائية أُجريت عام 1690 إلى وجود 3 آلاف سيدة مُحتجزة في مستشفى “سالييتريار” من الفقيرات والمشردات والمتسولات، وأنه في مستشفى “سان بول” توجد 20 عاهرة، وأن مستشفى “حي لامادلين” تحتجز 91 عجوزاً وسيدة تعاني من إعاقة، ومستشفى “سانت جوينفييت” تحتجز 80 امرأة متصابية، وأنه في مستشفى “سانت هيلار” توجد 80 امرأة منحرفة، وفي مستشفى “سانت كاثرين” توجد 20 فتاة غير قابلة للإصلاح، و69 امرأة بلاهيئة!.

الإحصائية أعلاه وردت في كتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي للفيلسوف والباحث الفرنسي “ميشيل فوكو” والصادر عام 1961. “فوكو” تتبع في كتابه الفريد تاريخ الجنون في المجتمعات الأوروبيّة خلال عصر النهضة والعصر الكلاسيكي.

اعتقال 1% من سكان باريس

يعيد “فوكو” حكاية أوروبا مع مشافي المجانين في العصر الكلاسيكي (القرنين 17-18) إلى عام 1661 عندما ظهر في باريس المشفى العام المُخصص للفقراء والمجانين والحمقى الخارجين عن العادات والتقاليد، والذي ضم حينها 1% من سكان مدينة باريس أي ما يقارب 6 آلاف شخص.

يبيّن “فوكو” أن المشفى العام كان سجن وإصلاحية ومارستان ومورِسَت فيه جميع أنواع القمع، وأنه بعد مشفى باريس تم إنشاء عدة مشافي مشابهة في معظم المدن الأوروبّية التي كانت مهمتها إدارة الفقراء والمجانين ومراقبة الأخلاق.

يقول الفيلسوف الذي فحص تاريخ الأفكار والمؤسسات والأعمال الأدبية والفنية المرتبطة بالجنون: «أصبحت إدارة الأخلاق عمل اقتصادي وتجاري، وأصبحت الفضيلة قضية تتخذ الدولة الإجراءات لفرضها بالقوة، ونُظر إلى جميع الخارجين والخارجات عن العرف والعادات والتقاليد على أنهم مجانين أو مهابيل أو حمقى أو بلهاء أو أغبياء، وبالتالي يجب احتجازهم!!».

زوجةبودان” الحمقاء الشهيرة

دوّن “فوكو” الكثير من قصص الاعتقال الغريبة، لكن يمكن اعتبار زوجة “بودان” من بين أكثر السجينات شهرة، يحكي “فوكو” قصتها كما رواها الضابط “دارغرنسون” الذي احتجزها: «هي امرأة تبلغ 16 عاماً، زوجها اسمه “بودان”، أعلنت جهاراً أنها لا تحب زوجها، وأنه لا يوجود قانون يجبرها على حب زوجها، وأن كل فرد له الحق في التصرف في قلبه كما يشاء، وأن الحب من جانب واحد يعد جريمة».

ويضيف الضابط: «تحدثت معها مرتين، وعلى الرغم من أنني تعودت على الخطابات الوقحة والعبثية، إلا أن ذلك لم يمنعني من الاندهاش من تفكيرها، إنها تقول إن الزواج ليس قدراً نهائيا!».

أصر “دارغرنسون” على سجنها ومعاملتها كما يعامل الحمقى، وقال: «أعتقد أنها مجنونة لما في خطابها من وقاحة، إنه الجنون الأخلاقي القائم على فعل أو قول شيء منافي للأخلاق».

طالب “دارغرنسون” بوضع زوجة “بودان” في المشفى «ليس لأنها مختلة في سلوكها، بل لأن جنونها يصل حد السخط الذي قد يقودها إلى الانفصال عن زوجها أو قتل نفسها في أول فرصة تتاح لها».

“السخط”.. التهمة الأكثر شيوعاً

يشير “فوكو” إلى أن كلمة “ساخط أو ساخطة” أكثر الكلمات التي تواترت في مذكرات الاعتقال، وهي كلمة تُشير إلى الفوضى غير المحددة في السلوك أو القلب أو الأخلاق أو الذهن.

ففي القرن 17-18 كان من حق العائلة زج أحد أفرادها في السجن لأنه “ساخط” على تقاليدها، وكانت السلطة الملكية تستجيب لسجن الساخطين أو المبذرين أو البخلاء أو الخائنين أو النساء الراغبات بالطلاق أو المتصابيات أو النساء اللواتي بلا هيئة!.

ولم تتم الثورة على هذا المبدأ إلا مع نهاية القرن 18 عندها بدأت السلطة الملكية تتنصل من طلبات العائلة، وفي عام 1784 تم إعلان: أن «يقوم رجل راشد بزواج معيب أو أن يبذر رجل أمواله أو ينحرف في سلوكه أو أن يعيش بين الأنذال، فإن ذلك لا يبيح حرمانه من حريته أو حقوقه والأمر ذاته ساري على النساء».

في القرن الـ19، أصبح الخلاف بين الفرد وأسرته أمرٌ شخصي، وفي حال وصوله إلى الشرطة يتخذ شكل قضية لا تمس الأمن العام للدولة، ففي هذا القرن تحول الجنون من جريمة أخلاقية إلى مرض نفسي.

الموسيقى والرقص علاج المجانين في الشرق

ويمرُّ الكتاب سريعاً على تاريخ مشافي المجانين في الشرق، مُشيراً إلى أنها تواجدت أولاً في “فاس” بالمغرب في القرن السابع ثم ظهرت في بغداد بالعراق خلال القرن الـ12 ثم في القاهرة بمصر خلال القرن الـ13، وأنها كانت تعالج مرضاها بالموسيقى والرقص والاستماع إلى الحكايات العجيبة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.