يعيش الفرد في العصر الحالي حالة من الاغتراب عن النفس، وعدم القدرة على التماثل مع أصالته وحقيقته حيث يَفرضُ النظام الرأسمالي والعلاقات الاجتماعية الحديثة حالة مستمرة من البحث عن القيمة المجتمعية وإضفاء صفات غير موجودة على الشخصية الإنسانية فيلجأ الفرد لتبني سلوكيات ومواقف لا تشبهه، بهدف الحصول على القبول الاجتماعي والثقة، لتتحول العلاقات بين البشر لعلاقات بين الأشياء كلٌ يتحول إلى أداة لتحقيق رغبات الآخر والصورة التي يرغبها عن نفسه، وبالنسبة لأولئك الأشخاص الذين لا يستطيعون الوصول لمكانة اجتماعية عالية، يستعيضون عنها بفرض مكانتهم في المنزل، فالرجل في منزله هو ملك المكان والمحور الذي يستطيع أن يدير من حوله ويتحكم بمصائرهم ليشعر بأنه ذو قيمة أو مكانة عالية، والمرأة هي الموضوعة التي يصب كل رغبته بالتفوق والتسلط عليها فيتفنن بالسلوكيات التي تزيد من ثقته بنفسه وتضطهدها وتخضعها لأوامره.

«كلما اقتربت الساعة من الخامسة مساءً وهو موعد قدوم زوجي من العمل، يتحول المنزل إلى مكان يشبه السجن، الأطفال يجلسون في زاوية وأنا أحضر له الطعام بخوف، كل شيء يجب أن يكون جاهزاً  كي لا أضطر لسماع وابلٍ من الشتائم والاتهامات».

تعيش “هدى سعيد”(اسم مستعار)، والتي تبلغ من العمر سبعاً وعشرين عاماً مع زوجها و طفليها حياةً ملؤها الخوف، تمثل حياة هدى مع زوجها حالة الكثير من النساء السوريّات، حيث يلجأ أزواجهنَّ للتحكم بحياتهنَّ والتعامل معهنَّ كأشياء، تتابع “هدى”:

«أشعر بأني من لحظة استيقاظي حتى اللحظة التي أنام فيها عبارة عن آلة، تقوم بالأفعال بما يتناسب مع رغبات شخص أناني لا يفكر سوى بنفسه، أصل حتى نهاية اليوم منهكة لا أشعر بشيء وأعيد الكرة يومياً».

الشخصية المسلوبة

ليعيش الإنسان تجربة الحياة بشكل حقيقي عليه أن يكون على تماس مباشر مع العالم المحيط، وأن يدرك هذا العالم من خلال أناه الفردية بعيداً عن التزييف وأن يتفاعل مع الأحداث من حوله وفق مشاعره وقيمه الخاصة، لكن في حالة هاته النسوة يختلف الأمر فهنَّ يعشن علاقة غير مباشرة مع العالم فالرجل هو الوسيط الذي من خلاله يمارسن حيواتهن، فلا وجود لرأي خاص بهن ولا رغبات أو طموحات يستطعن تحقيقها وحدهن، فالحياة الخاصة بهنَّ هي الحياة التي يقررها رجلهن، حتى أشكالهنَّ ومظهرهنَّ يصبح من اختصاص الرجل ووفق ما يرغب برؤيته، حتى أن هناك بعض النساء يجبرن على تجميل معين أو لباس محدد ليرضي أزواجهنَّ غرورهم.

«يمنعني زوجي من إقامة صداقات مع جاراتي أو زملائي في العمل، وحتى أخوتي يفرض علي دائماً أن تكون علاقتي بهم سطحية، ويبرر ذلك بأنه أكثر استقراراً وراحة لنا».

“نورا اسماعيل”(اسم مستعار)، تصف العلاقة التي تربطها بزوجها وطبيعة حياتهما، بعد زواج عن حب دام لسنتين ليتحول بعد ذلك إلى تسلط من قبل زوجها.

لا يتوقف الأمر هنا بل يتعدى ذلك ليصل إلى علاقة الأم بأبنائها أيضاً فطريقة تعامل الزوج مع أولاده هي المثلى لتقتدي بها الزوجة وتتخذها نموذجاً للتربية الصحيحة، تتابع “نورا”:

«يصفني دائماً بالغبية أمام أبنائي، وينفعل لأي سلوك أفعله بحجة أنني لا أجيد التعامل مع الأطفال ومع الآخرين، في الكثير من الأحيان يهينني أمام الآخرين ويبدو عليه وهو يفعل ذلك مزهواً بنفسه بشكل غريب».

يستخدم معظم الرجال هذه الأساليب للتعامل مع المرأة دون إدراك النزعة الداخلية التي تدفعهم لذلك فهم ودون وعي منهم يحاولون إثبات تفوقهم على المرأة مدفوعين بشعورهم بالنقص والضعف أمامها، وبذلك تتحول المرأة من كائن له استقلاليته وكيانه وإرادته الفردية الخاصة، إلى شخص مسلوب الإرادة يعمل وفق رغبات غيره، لا يمتلك انفعالات وأحكاماً وآراءَ شخصية وإنما آراؤه وأحكامه تتشكل وفق ما يمليه عليه الآخرين، يعد هذا تشويهاً لحياة المرأة واستغلالاً لها ولطاقتها.

الهرب من العجز إلى السلطة

يلعب المجتمع والدين في سلوكيات الرجل هذه دوره المعتاد، فتكريس المرأة كتابع للرجل ووصايته عليها يشرعان أفعاله هذه، إلا أن هناك جانباً نفسياً آخر يَظهر بوضوح في هذا النوع من العلاقات، فالرجل بطبعه أناني يميل لأن يحقق المجد والمكانة الاجتماعية والاقتصادية المهمة، بالإضافة للرغبة بأن يكون محط أنظار والتي هي من ضمن الصفات البشرية عامة، العجز الذي يواجهه الرجل في الخارج بسبب تحول العلاقات الإنسانية إلى استغلال، و تحول النظام العالمي إلى نظام رأسمالي، وصعوبة تحقيق مكاسب ونجاحات على المستوى الشخصي خاصة في بلد كسوريا، يؤدي بالضرورة إلى رد فعل على هذا العجز بالتسلط وتحقيق الذات بشكل آخر عبر التحكم بزوجته واستعبادها، فتصبح هذه السلوكيات ملجأ لتعزيز النفس الضعيفة، فكلما زاد شعوره باللاجدوى والضآلة في الخارج يزيد من قسوته وتغذية أناه بالنشاط على زوجته في داخل المنزل.

«بقيت لخمسة وعشرين عاماً أعيش على طريقته، لم أكن أجرؤ على العيش كما أرغب، بالرغم من أنني كنت أمتلك طاقة كبيرة للمغامرة والذهاب بحياتي للأقصى، تعلمت الكتابة والقراءة بعد زواجي وبالرغم من ذلك بقي يسخر مني وهو الذي لم يحصل على الشهادة الثانوية، حياتي مضت وأنا أحاول أن أبعد المشاكل وأسمعه حتى النهاية، الآن اكتشفت أن كل ما عشته معه كان خطأ، مجموعة من القيم الكاذبة والأفعال غير الحقيقية، حتى عواطفنا تجاه أبنائنا كانت مزيفة، لم يبق أحد منهم حولنا».

“إيمان سعد”(اسم مستعار)، سيدة في السادسة والخمسين من العمر، تصف علاقتها بزوجها والذي اعتاد على أن يعاملها كتابع وصورة له، يمكننا رؤية الكثيرات يعشن بذات الطريقة فاقدات لأنوثتهنَّ وذواتهن، متماهيات مع الرجل مع نكران تام لصفاتهنَّ الخاصة وما يردنه من هذه الحياة.

لا يمكن العيش في مجتمع تعيش نساءه مسلوبات الإرادة، مكتفيات بجزء ضئيل من العالم يتحركن ضمنه بحركات مدروسة يدرن في المكان ذاته جاهلات لاتساع المكان وقدراتهنَّ على السفر والطيران خارج حدود رجالهن، فرضُ إرادة بشرية على إرادة بشرية أخرى هو أسوأ ما يمكن أن يرتكبه الإنسان، والسبب الرئيسي لجميع الصراعات في هذا العالم، لن ينتج عن ذلك سوى مجتمع مهزوز، ممتلئ بالثغرات والضعف وأطفال يمتلكون بنى نفسية معقدة ينقصها وجود الأم وحيويتها ورأيها وفكرها الخاص.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.