بعد انقضاء الاستحقاق الرئاسيّ السوريّ، والذي انتهى بتنصيب الرئيس بشار الأسد رئيساً للجمهورية لمدة سبعِ سنوات أخيرة، وفق الدستور الحالي، شهدت سوريا عدداً من المبادرات التي عكست الرغبة في تغيير حالة السكون القائمة في البلاد منذ ما يقارب العامين ونيّف، والعمل على إيجاد حلّ يلبّي مصالح كُلّ طرف من أطراف الحرب الرئيسيين.

العديد من المبادرات شهدتها الساحة السورية، وكانت متباينة بعض الشيء، ففي الشِّقّ المتعلق بمناطق الإدارة الذاتية لما تبقى من شمال وشرق سوريا، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد دخل على خط محاولة إرساء استقرار سياسيّ في شمال وشرقيّ سوريا، وحوكمة شاملة في هذه المناطق، بعد سنوات من حكم الحزب الواحد القائد، وإنْ بمشاركة أحزاب رديفة، لم يُلحظ لها أي دور خلال سنوات الحكم السبع.

تبدو فرنسا هي الأكثر حماساً للعب دور محوريّ في تثبيت حُكْم الأمر الواقع في المنطقة، ويمكن استشفاف ذلك من كون باريس كانت الدولة الأولى التي ساندت “وحدات حماية الشعب” (الكُردية) في حربها ضد تنظيم “داعش” في كوباني/عين العرب عام 2014 ومن ثم استقبلت عدداً من القيادات العسكرية والسياسية التي تحكم المنطقة، ومؤخراً وجّهت الدعوة للأطراف السياسية الكُردية الرئيسية في المنطقة، لكن الخلافات العميقة القائمة بينها حالت دون تحقيق هذه الزيارة.

جاء الاستقبال الفرنسي لوفد الإدارة الذاتية في توقيت مهم للغاية، وهو التزامن مع تجديد ولاية الرئيس السوري بشار الأسد، وفي وقت جدد فيه وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف دعوته لإجراء حوار بين الحكومة السورية والكُرد بهدف التوصل إلى اتفاقات بشأن كيفية “التعايش معًا في دولة واحدة.

مشيرًا إلى أن “العراق المجاور يشكل مثالا جيدًا يمكن الاستفادة منه في هذا الصدد” وفق تعبير الوزير الروسي، وكان لافتاً إشارة لافروف إلى نموذج إقليم كُردستان العراق الفيدراليّ لحلّ القضية الكُردية السورية.

ولعلّ تزامن المبادرة الروسية مع زيارة وفد الإدارة الذاتية لفرنسا يَشي بمحاولة روسية لخلط الأوراق، وهذا ما استخدمته موسكو مراراً مع كُرد سوريا، حيث إنها تبادر لفتح حوارات بين دمشق والقامشلي في كُلّ انفتاح أميركيّ أو غربيّ على “الإدارة الذاتية” أو “قوات سوريا الديمقراطية” وتتخلى عن أيّ التزام بمجرد زوال احتمال الاعتراف السياسيّ بالإدارة.

تريد باريس أنْ تستغل الوجود الأميركيّ في المنطقة، وأن تَجِد موطئ قدم لها داخل المنظومة السياسية القائمة في مناطق الإدارة الذاتية، ومستقبلاً في حُكْم سوريا عن طريق أحزاب مقرّبة منها.

بالمقابل، ترغب موسكو بسحب البساط من تحت أرجل كُلّ محاولة لشرعنة الإدارة الذاتية، وخاصة من الدول التي تقوم بدور فعّال في هذا المجال، وتأتي فرنسا في مقدمة هذه الدول، والهدف النهائي لموسكو هو أنْ تَصِل سلطات “الإدارة الذاتية” إلى قناعة مُطلقة أنْ لا حلفاء لها في المنطقة، وأنّ عليها الالتجاء إليها وحسب، وأنْ ترضى بكُلّ ما تُمْليه عليها.

مبادرة أخرى شهدتها العاصمة السورية دمشق، وكانت هذه المرة من الصين التي غابت عن الساحة السورية منذ بدايات الحرب، حين استخدمت عديد المرات حق النقض، رفقة روسيا، ضد محاولات الغرب لإصدار أي قرار يدين الحكومة السورية في صراعها مع مناوئيها، وقد احتفى الإعلام الرسميّ السوريّ بهذه المبادرة أيّما احتفاء، وترافق ذلك مع ضغط روسيّ على الحكومة السورية للتخلّي عن نهجها الرافض لأية تسوية سياسية مع المعارضة.

ومن الواضح أن دمشق إنما تريد استخدام ورقة التعاون الاستراتيجيّ مع بكين للتخلص من الضغط الروسيّ المتزايد عليها، والذي أجبرها في كثير من الأحيان على الالتزام باتفاقات مع الجانب التركيّ، رغم رفض دمشق.

نقطة أخرى في غاية الحساسية تحاول سوريا استثمارها، هي محاولة إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة عن طريق حلفائها الموثوقين في المنطقة، ومؤخراً تحاول الأردن لعب هذا الدور.

فالعاهل الأردنيّ عبد الله الثاني عرض على الرئيس الأميركيّ جو بايدن خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، الانضمام إلى فريق عمل يسعى للاتفاق على خريطة طريق للحلّ في سوريا، ودعا صراحة إلى ضرورة إعادة دمشق إلى المنظومة العربية، وطالب بانفتاح أميركيّ وغربيّ على حكومة الرئيس السوريّ بشار الأسد.

وهذا ما يثير مخاوف روسيا، والتي حذّر مستشار خارجيتها رامي الشاعر دمشق من مغبة محاولة التطبيع مع واشنطن، وكذلك فعلَ مع السعي السوري لإعطاء دور كبير للصين في سوريا، وانتقد كثيراً مقاربة الرئيس الأسد لمسار الحرب في بلاده، ودعاه إلى التحلي بالواقعية السياسية التي تقر بأن عديد المناطق هي خارج سيطرة الحكومة السورية، وأن ملايين السوريين اليوم نازحون داخل بلادهم، ولاجئون خارجها، وأن الحلّ العملاني الوحيد هو تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بحلّ الأزمة السورية.

مهما يكن، فإن الرئيس الأسد يقف اليوم أمام مفترق طرق خطير للغاية، وعليه المفاضلة بين حلفائه اللدودين روسيا وإيران والصين، وأن يراعي مصالح دول أخرى كبيرة في العالم والإقليم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا وتركيا والسعودية.

وهي معادلة دقيقة للغاية، فإما أن يجد حلاً لفك شيفرة هذه المعضلة، أو أنّ المستقبل سيكون مفتوحاً أمام سيناريوهات قاتمة للغاية، أصعب بكثير من الأزمة السياسية والاقتصادية القائمة حالياً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.