قام ستة سجناء فلسطينيين، بتاريخ السادس من أيلول/سيبتمبر 2021، بالهرب من سجن “جلبوع” الإسرائيلي شديد الحراسة. بعد أربعة أيام تمكنت السلطات الإسرائيلية من القبض على أربعة من الفارّين، وبعدها بتسعة أيام، قبضت على الاثنين المتبقيين.

ثلاثة عشر يوماً فقط كانت كافية لتحديد مكان المطلوبين الستة، على أرض مساحتها ليست بالعملاقة، لكنها مساحة مفتوحة. أو على الأقل هكذا يفترض أن تكون. ثلاثة عشر يوماً كانت الزمن الكافي لإسرائيل لإلغاء جهد السجناء، الذي لا يمكن للعقل تخيل تفاصيله، والذي استمر على مدى شهور أو سنين.

ماذا يعني أن يتمكّن ستة سجناء من حفر نفق في سجن ذي حراسة قصوى، على فترة مديدة من الزمن، دون أن ينكشف أمرهم. ثم أن يتطلب الأمر ثلاثة عشر يوماً فقط لكشف مكانهم بعد هربهم؟ (نقول ثلاثة عشر يوماً، لكن في الحقيقة معظم “الخرق” تم رتقه بعد أربعة أيام فقط).

 

“فلسطنة” المحكومين

سبق للفيلسوف الفرنسي “جيل دولوز” في مقاله “المزعجون”، الذي كتبه في سياق الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، الحديث عن استحالة كون الفلسطينيين «شركاءً حقيقين في محاورات السلام». وذلك لأنهم لم يُمنحوا أي خيار سوى الموت، الاندثار، الاختفاء من على وجه الأرض. ينهي “دولوز” مقاله بنقل الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني الى مرتبة المثال المرشد للصراعات المستقبلية، بين السلطات الحاكمة ومحاولات التمرد عليها، قائلاً: «المقاتلون الفلسطينيّون منحدرون من اللاجئين. وتزعم إسرائيل أنّه لا يمكنها هزيمة المقاتلين إلاّ عبر إيجاد آلاف من اللاجئين الآخرين، الذين سينحدر منهم مقاتلون آخرون. ليست علاقاتنا بلبنان التي تجعلنا نقول إنّ دولة إسرائيل تغتال بلدا هشّاً ومعقّداً. ثمّة أيضاً بعد آخر. هو أن نموذج إسرائيل-فلسطين محدِّد بخصوص المشاكل الحاليّة المتعلّقة بالإرهاب، حتّى في أوروبا. فالتفاهم العالمي بين الدول. وإعداد شرطة وتشريع دوليّين ضد الإرهاب، يفضيان ضرورةً إلى “توسيع”، يتمّ بمقتضاه اعتبار مزيد فمزيد من الناس إرهابيّين محتملين. وهكذا نجد أنفسنا في وضع مشابه لوضع حرب إسبانيا، عندما اعتُمدت الأخيرة بوصفها مخبر تجريب لمستقبل أشدّ فظاعة. تقود إسرائيل اليوم هذا التجريب. إنّها تضبط نموذجا للقمع، سيتمّ تسويقه وأقلمته في بلدان أخرى».

وبالفعل تكلّم كثيرون بعد دولوز عن “الفلسطنة”، بوصفها سلوكاً للسلطة تجاه محكوميها. يعتمد ذلك التعميم، أي تعميم النموذج الاسرائيلي-الفلسطيني، على منطق يقول إن اسرائيل هي جزء من شبكات القوى العالمية. وهو قول ليس بتلك البديهية (أو التفاهة) التي يبدو عليها للوهلة الأولى. فاعتبار أن  بلداً ما  جزءٌ من شبكة عالمية من السلطات، يعني أن إمكانياته وطرقه في فرض سلطاته تتحدَّدُ بإمكانات وطرق الشبكة/المنظومة بأكملها، وتعيد تحديدها في الوقت نفسه. وبالتالي فلا يمكن لإسرائيل أن تستعمل سوى أدوات سلطوية (تكنولوجيا، بنى، أساليب، إلخ) موجودة أولاً، ومسموحٌ بها ثانياً، ضمن تلك المنظومة. وباستطاعتها، في الوقت نفسه، ابتكار آليات أو سياسيات تحكّم جديدة. هو ما يدفع بعجلة التقدم السلطوية، دائمة الحركة، نحو الأمام. فكل محاولة لإعادة رسم الحدود والإمكانيات تفيد جميع السلطات وبنى القوة في العالم. سواء عبر التعلّم والافادة غير المباشرة، أو من خلال تبادل الخبرات والأدوات المباشر (تجارة السلاح، استقدام خبراء وتقنيين أجانب، الخ).  كل هذا يجعل ظاهرة خاصة مثل اسرائيل مرآة لما يمكن تسميته بـ”واقع” السلطة والتحكّم بشكل عام في عالم اليوم.

يتطلب هذا وجود بنية تحتية، تسمح لآليات وتقنيات السلطة بالوجود من الأساس. ولا تشمل تلك البنية الأدوات المادية (أسلحة، تكنولوجيا، طاقة بشرية) فحسب، بل البنى الأيديولوجية أيضاً. التي هي نتيجة للبنى المادية، وتعيد إنتاجها في الوقت نفسه.

 

الذات في الحيّز

لعل أبرز نقطة لتقاطع التقنيات المادية والأيديولوجية للسلطة هي الذات. فعلى مستوى الأدوات المادية، تقوم السلطات الحديثة، بوصفها “مجتمعات تحكّم”، حسب تعبير دولوز، بالعمل  بمنطق الآلة: تستقبل المدخلات، وتنتج المخرجات. ووظيفة هذه الآلة إنتاج “بروفايلات” عن محكومي السلطة، أي أنها تطبّق الدعوة الإغريقية القديمة “اعرف نفسك”،  بدلاً عنك. هي تعرفك وتُعرّفك. فجميعنا ننتج كميات هائلة من البيانات: العمر، الجنس، الدين، الأصدقاء، الاهتمامات، تاريخ تصفّح عملاق على الإنترنت، محتوى ووتيرة محادثات ودردشات، أمراض، أحلام، الخ. وتشكّل هذه البيانات المواد الخام لعمل آلة السلطة. أي مدخلاتها. ومن ثم تعمل الآلة على معالجة تلك المدخلات، منتجةً منها مخرجات تتناسب مع مصلحة مشغليها.

من أفضل الأمثلة المعاصرة عن هذا آليات عمل مالكي الحيز/منتجي السلع. فموقع غوغل مثلاً يمثّل حيزاً مملوكاً لشركة معينة. ويؤدي سلوك المستخدم في ذلك الحيز إلى بناء ملف عملاق عنه : ماذا يكتب، علام يضغط، كم يستغرق وقتاً في القراءة. ويمكن اعتبار ذلك الملف أعظم محاولة عرفتها البشرية للجواب عن سؤال “عمَّ أبحث؟”، والذي بدوره يستخدم للإجابة على السؤال الأهم:  “من أنا؟”.

يأتي جواب سؤال “من أنا” في غوغل على شكل إعلانات: أنا الشخص الذي يشرب هذا ويأكل ذاك، يلبس هكذا، يسافر إلى هناك، الخ. هكذا يصبح بإمكاني أن أشتري “أنا” كاملة. تم تصنيعها على مقاسي، الذي أُخذ (ولا زال يؤخذ ويُعدّل بشكل مستمر) من قبل الآليات الرقابية للسوق. لا تقتصر تلك الـ”أنا” على السلع التقليدية. من لباس ومأكل ومشرب وخدمات، بل تشمل طيفاً كاملاً من الذاتية: آراء سياسية، فنية، حس كوميديا. أي كل ما يمكن استهلاكه من السلع غير الملموسة.

يمكن تعريف تلك الـ”أنا” بوصفها طريقة للوجود في الحيز، أو بالأصح وجهاً يجب ارتداؤه للظهور فيه. ولا يجب فهم “الحيز” بوصفه مساحة يمكنك الدخول فيها والخروج منها بحرية. فنحن دائما موجودون في حيز ما: المدينة، الانترنت، المساحات الخاصة (مثل المنازل). وقد تم مؤخراً، بطرق متعددة، خصخصة كل أشكال الحيز. كي نصبح المستهلكين/المُراقَبين فيه.

الوجود في الحيز المخصخص بات فعلاّ أدائياّ: عندما يصير الواقع سوقاً. فإن قواعد السوق تحكم بأن قيمة السلعة تقاس بمقدار ظهورها.  بمقدار الـ”access” (قابلية الوصول) الذي تملكه. وبالتالي فكل فاعل في الحيز يجب أن يكون له بروفايل أدائي يمتلك قابلية وصول عالية. من هنا يمكننا فهم أهمية التسويق والحملات الإعلامية.  فيصبح انتاج صورة السلعة وهالتها بحد ذاته مركز اهتمام المنتج. عوضاّ عن انتاج السلعة ذاتها.

يمكننا تشبيه السوق/الواقع بمنصة لاستعراض الغرائب (a spectacle of curiosities)، كلما ازدادت فيها فرادة الذات جذبت الاهتمام أكثر. وبالتالي يزداد سعرها وقيمتها السوقية. وهذا ما يحدث حرفياً في حالة “المؤثرين” وصنّاع المحتوى. إضافة الى هذا فإن السوق بذاته قائم على مبدأ التفرّد والتنافس “الحر” بين الذوات. أي أن وجود الذوات لا نهائية التفرد هو شرط لوجود السوق، وما يضمن استمراره وغزارة الانتاج فيه. وبالتالي غزارة الربح.

 

دروس ما بعد الحداثة

كل ما سبق هو تنظير ليس بجديد، فقد كان تحطيم مفهوم “الذات”، والتخلّص من تسلّطها، هدفاً لعديد من المشاريع ما بعد الحداثية. سعى مفكرون من أمثال ميشيل فوكو وجيل دولوز للتنظير لواقع فوضوي لا مركزي. يتمكّن الإنسان فيه من تجاوز الذوات والهويات المفروضة قبلياً، وكلّ ما تفترضه من تراتبية للقوى (الأبويّة، عقدة أوديب، الخ). لكن الجديد أنّ منظومة السلطة والتحكّم قد تمكّنت على ما يبدو من ابتلاع محاولة الانفلات ما بعد الحداثية، وإعادة انتاجها بوصفها جزءاً من المنظومة ذاتها.

يُستخدَمُ الآن الخطاب الراديكالي لما بعد الحداثة لإنشاء ذوات أكثر جاذبية من الذوات التقليدية. فلا يقدم السوق “أنوات” للبيع فحسب، بل يشجّع على الهروب من “الأنا” بشكل دائم، لاستهلاك “أنا” جديد. ما يتيح تدويراً أسرع لرأس المال المُستثمر في صناعة “الأنوات”.

الذاتوية الجديدة تعلّمت الدرس بعد حداثي بسرعة: حافظت على المكوّن الفعّال من الذات القديمة، أي السعي لتأصيل (أو تفريد) الذات. عن طريق تغذيتها بجميع أنواع السلع الملموسة وغير الملموسة، وفي الوقت نفسه تقلبُ محاولات الهرب من الذاتيّة، موجهةَ إياها نحو الداخل. لتصبح ضرباّ من الذاتيّة السلبية: تتحول الذات إلى ثقب أسود. يمتصّ أي محاولة لتعريفها بشكل ايجابي، وتسمح لها فقط بتعريف سلبي.

يعني  التعريف الايجابي للذات تأسيسها على مبدأ القدرة على الفعل. أي وعيها من زاوية ما تستطيع فعله. وبالتالي إمكانية (أو ربما حتمية) ربطها مع آخر خارجها. هو شرط لابدّ منه لتحقيق قدرة النفس على الفعل. «صيرورتك آخر بالضرورة»، حسب قول دولوز.

فيما يحيل التعرف السلبي للذات إلى النظر إليها من زاوية “المفعول به”. فهي محض نتيجة لفعل قام به آخر قوي، فيصبح تعريف الأفراد لأنفسهم:  «أنا من وقع عليه الظلم». عملية “التذويت” السلبية هي عملية لانهائية، كبئر لا قعر له، فكل ما أفتح جرحاّ في ذاتي أرى تحته جرحاّ  أعمق. لا مكان هنا للآخر سوى أن يلعب دور الظالم الشرير (الذي يجب أن يشعر بالذنب، ويظهر الشفقة اتجاهي). أو أن يكون “حليفاً” لي. بوصفه  مظلوماً مثلي، ولكنه فعلياً ليس مثلي في شيء. حتى مظلمته لا تشبه مظلمتي، نظراً لـ”فرادة” كل ذات سلبية. لذا فكلّ ما يمكن لحليفي في التظلّم أن يفعله هو أن يستمع لشكواي، ويطبطب عليّ، وأنا بالمثل طبعاّ.

لا تختلف عملية “التذويت” السلبية من ناحية الغرض النهائي عن مثيلتها الإيجابية. إذ تسعى الأخيرة لإثبات الذات وربطها بأساس أدائي هو “النجاح” (بمعناه الليبرالي)، الذي يمثل فحوى الذات في الشرط ما بعد الحداثي. وهو الأمر نفسه الذي تسعى إليه الذات السلبية. ولكن بشكل أكثر خبثاً. فهي تؤسس للنجاح (أو كسب رأس المال) على أساس التظلّم والضغينة. لا يؤدي ذلك لانعدام سبل التواصل الفعّال مع الآخر فحسب، بل لانعدام الأفق المعرفي أيضاً. أي أن “خبث” الذوات السلبية ليس مشكلة على الصعيد المجتمعي/السياسي فحسب، بل هو أيضاً مشكلة على المستوى المعرفي (الابستمولوجي)، حيث لا يتم التوصّل لأي نتيجة جديدة فعلاّ، وكل شيء معروف مسبقاّ: أنا مظلوم (أي خيّر) وهو ظالم (أي شرير)، تلك بداية ونهاية كل المعارف.

 

في العجز عن الهرب

تعمل تركيبة السلطة-السوق إذاً على التأكد دوماً من امتلاك محكوميها وجهاً او بروفايلاً ما. ومن الطريف هنا تذكّر أن الترجمة الحرفية لاسم موقع فيس بوك هي “كتاب الوجه”. باختصار يضمن الحفاظ على “وجهية” المحكومين عمل ماكينة السلطة-السوق، بوصفها ماكينة إنتاج للمستقبل. يعني ذلك ضمان عدم هروب المحكومين من “زمن السلطة” وحيزها. وبقاءهم مرئيين وظاهرين دائماً لأجهزتها. كما أن الوجه الهستيري المستجد للذات المعرّفة سلبياً، في سعيها الفصامي لتحقيق رغباتها، وبكائها الدائم على الظلم الذي لحق بها، يضمن استمرارية السوق، وزيادة ربحه، عن طريق إنتاج مزيد من السلع. المناسبة للأداء الذي يتطلبه ذلك النمط من الذات.

السجناء الفلسطينيون لم يستطيعوا الهرب من زمن السلطة، رغم أنهم تمكنوا، بعمل أقرب للمعجزة، من إحداث ثقب في أكثر أشكالها المادية تحصيناً. اخترقوا أرضية السجن وانطلقوا إلى ما حسبوه العالم الواسع  خارجه. ولكنهم اكتشفوا أن لا حيز في ذاك العالم أكثر تحرراً من سجنهم القديم. وأن السجون لم تعد وحدها موطن السلطة. فكل ما فعلوه واستهلكوه. كل اتصال قاموا به، بنى لهم بروفايلاً ووجهاً، مكّن السلطات الإسرائيلية من التعرّف عليهم وإعادتهم إلى السجن. يمكن اعتبار هذا أفضل مثال عن الانتقال من “المجتمع الانضباطي”، الذي تحدث عنه ميشيل فوكو، والذي كان نموذجه الأساسي السجن. إلى “مجتمع التحكّم” بحسب تعبير دولوز، الذي صارت فيه السلطة سائلة ومنتشرة، و”تحت الجلد”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.