استهدف سلاح الجو” الإسرائيلي” مواقع عسكرية أواسط سورية في مساء يوم الاثنين الماضي، في مشهد بات مكررا ومعتادا، بعدما كشف نظام الأسد وحلفاؤه الإقليميون عن توجهاتهم ومواقفهم المبدئية، التي تهمل مواجهة الاحتلال” الإسرائيلي”، لصالح أولوية إحكام سيطرتهم على الدولة والمجتمع السوري، مهما كلف ذلك من ثمن، وبأي وسيلة وطريقة ممكنة، قتلا واعتقالا وتهجيرا. إلا أننا اليوم أمام تغيير في طبيعة التدخلات أو بالأصح الاعتداءات” الإسرائيلية” على الأراضي السورية، قد يكون مقدمة لجملة من المتغيرات العسكرية والأمنية وربما الجيوسياسية، الأمر الذي يستوجب تسليط الضوء عليه أولا، وتحليله ثانيا، وتحديد موقف واضح منه ثالثا. فقد كشف تقرير مصور تم بثه على إحدى المحطات” الإسرائيلية” العامة عن اعتداء” إسرائيلي” بري تم تنفيذه داخل الأراضي السورية الرسمية، وبالتحديد في منطقة المثلث الحدودي مع سورية والأردن، عبر دخول قوة عسكرية” إسرائيلية” من أجل تفقد موقع عسكري كانت قد استخدمته في وقت سابق.

إذا نحن أمام تغيير في طبيعة الدور” الإسرائيلي” في سورية، بعد سنوات من إتباع إستراتيجية الغارات العسكرية الدقيقة والمحدودة والنوعية، بمعنى الغارات ذات الأهداف المحددة، بغض النظر عن مدى صحة المعلومات الاستخباراتية ” الإسرائيلية”، وبغض النظر عن مدى صحة الأهداف المعلنة من قبلها أيضا. حيث تعبر مجمل التصريحات” الإسرائيلية” حول سورية على أولوية المسائل الأمنية وبالتحديد على أولوية الحد من نفوذ إيران وإبعادها عن الحدود المشتركة، الأمر الذي يتطلب تدخلا عسكريا جويا يقوض قدرات إيران العسكرية في سورية. وهو ما يرافقه تأييد أو تشفي أو قبول نسبي من قبل بعض الأوساط السورية الإعلامية والسياسية وأحيانا الشعبية، على اعتبارها تدخلات عسكرية تقوض الوجود الإيراني والقدرات العسكرية للنظام، متناسين الوقائع الميدانية التي تثبت عكس ذلك، أو على الأقل التي توضح عدم تعارض الدورين” الإسرائيلي” والإيراني داخل سورية، بما يخص تدمير البلد وتفكيك بنيته الاجتماعية ونهب ثرواته وأسر المجتمع وتكبيله.

لكن وبالعودة للتقرير المصور، نجد فيه استعراضا لأقوال قائد القوة العسكرية “الإسرائيلية” المعتدية على الأراضي السورية: “نحن نحاول إخراجهم من مواقعهم كي يشاهدونا ويظهروا أنفسهم، فإذا دخلنا الآن وتمكنا من إخراجهم من ثغورهم، فسنتمكن من القيام بعمليات اعتقال وضبط وعندها سنعرف رد فعلهم حيال قيامنا بعملية ما”. وعليه فالعملية استكشافية تعمل على رصد القدرات وردود الفعل المباشرة وغير المباشرة، بمعنى هي مقدمة لعمليات برية قادمة. ثم يتابع قائلا: “أعتقد أن الجزء المهم في هذا النشاط هو منع تموضع قوات مختلفة هنا في هذه المنطقة، سواء كانت إيران أو قوات أخرى نسمع عنها بالأساس في وسائل الإعلام، هذا النشاط يترك أثراً”. أي لا ينحصر الهدف بإبعاد الوجود الإيراني كما تروج الرواية” الإسرائيلية” عادة، بل يستهدف إبعاد أي وجود عسكري بما فيها وجود قوات النظام السوري. طبعا لا داعي للمرور على الموقف الروسي من الاعتداءات” الإسرائيلية”، فهو معروف ومعلن ويمكن تلخيصه بعبارة” تقدير مخاوفها الأمنية”، كما ندرك من خلال التصريحات” الإسرائيلية” والروسية والتسريبات الإعلامية أن الروس على دراية تامة بالخطوات”الإسرائيلية” قريبة المدى وربما بعيدة المدى أيضاً.

بالتالي لا يخفي القائد العسكري “الإسرائيلي” والتقرير المصور الذي تم عرضه تلفزيونيا، عن وجود مخططات “إسرائيلية” عسكرية لاقتحام الأراضي السورية مجددا، بل ويلمح التقرير إلى إمكانية احتلال أراضي سورية جديدة أيضا، تحت ذريعة الهاجس الأمني، وإلا فما هو الهدف من رصد القدرات العسكرية وتحديد مواقع تموضع الجنود، وكيف يمكن للجيش “الإسرائيلي” منع تموضع قوات عسكرية في هذه المنطقة وربما في غيرها أيضا، دون احتلالها مباشرة بقدراتها العسكرية، أو غير مباشرة عبر مليشيات متحكمة بها، أو من خلال قوات دولية، وربما عبر بناء جدار عازل على الأراضي السورية وتحت سيطرة أمنية” إسرائيلية” مطلقة ووحيدة. طبعا هذه مجرد احتمالات اليوم، لكنها احتمالات ممكنة لا يصح استبعادها، في ظل مجمل التوجهات” الإسرائيلية” وبحكم الدعم الدولي والروسي المطلق لها، ونظرا لاستحالة صدور إعلان رسمي واضح وصريح حول الخطوات” الإسرائيلية” القادمة في سورية حتى تنفيذها على الأرض. لكن يمكن ربط الخطوات” الإسرائيلية” بعضها ببعض، من قرار مضاعفة عدد سكان هضبة الجولان بحلول العام 2026، إلى الضربات الجوية الدورية، مرورا بالتدخل العسكري البري، وصولا إلى مخططات شبه معلنة تهدف إلى دعم إقامة حكم ذاتي في كامل المنطقة الجنوبية أي سهل وجبل حوران، وذلك عبر دعم قوى أو جهات قريبة منها أو ربما متوافقة معها. طبعا لن تقبل الغالبية العظمى من السوريين بذلك وعلى رأسهم أهالي مناطق جبل وسهل حوران، وقد عبر غالبيتهم عن رفض مثل هذه الأطروحات، لكن التخوف كل التخوف من قدرة المجتمع الدولي والاحتلال “الإسرائيلي” ضمنا على فرض مثل هذه الخيارات بشكل قسري مستقبلا، في ظل تحول سورية الدولة والأرض إلى ساحة نفوذ دولية وإقليمية.

بالمختصر لا يصح اعتبار طرد الوجود الإيراني من سورية ضمن الأولويات “الإسرائيلية” الراهنة، فالوجود الإيراني قديم وإن كان بشكل أقل فجورا وذي طبيعة تكاملية وتعاونية أكثر، أي لقد كان يمثل تهديدا أكبر في حينه، بينما طبيعته الراهنة احتلالية وتحكمية بصورة أكبر، كجزء من مشروع إيران التوسعي في مجمل المنطقة ولاسيما في لبنان والعراق بشكل أولي، وهو ما يجعل منه أقل خطرا على أمن الاحتلال “الإسرائيلي” كما كشفت تطورات السنوات العشر الماضية. كما يملك الاحتلال “الإسرائيلي” حلول كثيرة لإبعاد النفوذ الإيراني عن سورية، ربما أولها وأسهلها كان عبر منع التوغل العسكري الإيراني منذ البداية عبر تأليب المجتمع الدولي على نظام الأسد و إجباره على الرضوخ لمطالب المحتجين والثائرين السوريين. أو عبر دعم الدور الروسي التي تلجئ لها أحيانا من أجل فرض واقع سريع هنا أو هناك كما في اتفاق جنوب سورية، وكما في استعادة رفات جنديها وربما قريبا جنودها، وغيرها من الأمور والمسائل الأخرى.

لقد حان الوقت كي ندرك الأهداف” الإسرائيلية” في سورية، وكي نعي رغبتها في استثمار الوضع السوري الراهن، من أجل تعزيز نفوذها الجغرافي و الجيوسياسي والأمني، من خلال اقتطاع مزيد من أراضي سورية، أو عبر فرض سيطرة قوى محسوبة عليها على طول الشريط الحدودي وبعمق جغرافي كافي، وكأننا أمام سيناريو معاد لما فرضه الاحتلال “الإسرائيلي” في جنوب لبنان سابقا عبر دعم سيطرة مليشيات قوات لحد، أو عبر زرع سلطة أمنية وظيفية تشبه تلك القائمة اليوم في مناطق الضفة الغربية. وعليه فقد آن الأوان لفضح الدور “الإسرائيلي” وممارساتها العدوانية، وتحديد موقف وطني حاسم منها أولا ومن اعتداءاتها ثانيا، على اعتباره كيانا استعماريا إحتلاليا يهدف إلى إدامة تخلف المنطقة وتقسيمها، وبالتالي فهي غير معنية بحل أي من تناقضات المنطقة، بل على العكس يلعب دورا في إثارتها وتعزيزها وخلقها إن لم توجد. أي يجب على كل من توسم خيرا بالاعتداءات “الإسرائيلية” الجوية أن يراجع نفسه ويمعن النظر بالوقائع المثبتة ميدانيا، التي توضح عدم تأثر قدرات الأسد وحلفائه الإجرامية بهذه الاعتداءات، بل على العكس كانت ومازالت بمثابة ذريعة لمزيد من إجرام النظام، الذي يدفع ثمنه الشعب السوري من دمائه وثرواته المنهوبة. وإلا فصمتنا عن الاعتداءات “الإسرائيلية” اليوم قد يفسح المجال أمام بدء المرحلة الثانية من الإستراتيجية “الإسرائيلية” تجاه سورية، مرحلة فرض الوقائع ميدانيا ذات النتائج المؤلمة والمكلفة سياسيا ووطنيا وجغرافيا وأمنيا واقتصاديا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.