في ريف إدلب، تحدق أم أمل في الأطفال الصغار الذين يمشون عبر الطرق الموحلة وتتذكر باكية أن ابنتها لن تعود إلى ديارها أبداً. فقد انتحرت أمل في وقت سابق من هذا العام في سن 21 عاماً، بعد أن أمضت مراهقتها في منطقة حرب ونجت من زواج القُصّر، ثم أُجبرت على الفرار من منزلها والاستقرار في مخيم للنازحين في شمال غربي سوريا.

“كانت أمل فرحة حياتي. كانت محبوبة من قبل الجميع. كم أتوق لرؤية ابتسامتها مرة أخرى”، تقول أم أمل، التي طلبت عدم نشر اسمها الحقيقي ولا اسم ابنتها بسبب حساسية الموضوع.

ويقول الخبراء إن وفاة أمل جزء من ارتفاع مقلق في حالات الاكتئاب والانتحار بين الفتيات والنساء في شمال غربي سوريا.

وعلى الرغم من عدم وجود بيانات كاملة عن المشكلة، قال ثلاثة ممارسين وباحثين جميعاً لموقع صحيفة “The New Humanitarian” بحسب ما ترجم موقع “الحل نت” إنهم شهدوا زيادة كبيرة في محاولات الانتحار والوفيات بين الفتيات والنساء خلال العام الماضي أو نحو ذلك في المنطقة، حيث يوجد عدد قليل من المتخصصين المتاحين للمساعدة.

وبعد سنوات عديدة من الحرب، من المحتمل أن تكون مشاكل الصحة العقلية منتشرة بين الرجال في جميع أنحاء سوريا، لكن الخبراء يقولون إن الانتحار يشكل مصدر قلق خاص بالنسبة للنساء والفتيات في الشمال الغربي، بسبب الأعباء الإضافية والانتهاكات والزيجات التي يواجهونها.

غالبية حالات الانتحار من فئة واحدة

وقد قال ما يقرب من ثلث الأشخاص الذين تمت مقابلتهم من قبل منظمة “Women Now For “Development من أجل تقرير جديد صدر مؤخراً عن منظمة “Plan International” غير الحكومية، إن زواج القصّر، هو “سبب رئيسي” لزيادة إيذاء النفس والانتحار بين المراهقات في هذه المنطقة.

باتت منطقة شمال غربي سوريا مستقراً لحوالي 4.4 مليون شخص، بما في ذلك 2.8 مليون نازح داخلياً، وكثير منهم يفتقرون إلى السكن اللائق والمياه النظيفة والوظائف. وبينما خفت حدة العنف منذ ذروته في أوائل كانون الثاني/يناير 2020، عندما شنت القوات الحكومية وحلفاؤها الروس هجوماً ضد المتمردين الذين يسيطرون على إدلب ومحيطها، لا تزال هناك غارات جوية عرضية، ولا تزال أرواح المدنيين معرضة للخطر.

قد يهمك: تعهدات منتظرة من تركيا مقابل إتمام صفقة سلاح مع الولايات المتحدة

وفي بيان أصدرته في أواخر نيسان/أبريل الماضي، قالت منظمة “أنقذوا الأطفال” إن غالبية الوفيات الناجمة عن الانتحار في المنطقة، من إجمالي 246 حالة وفاة و1748 محاولة في عام 2020، كانت بين النازحين داخلياً. وتشدد سندس فلفلة، خبيرة الدعم النفسي والاجتماعي السورية والتي عملت مع منظمات غير حكومية مختلفة في مجال الصحة النفسية والعنف القائم على النوع الاجتماعي في شمال غربي سوريا، على أن النزوح القسري صعب بشكل خاص على النساء.

وتقول فلفلة لموقع الصحيفة: “العديد من النساء يشعرن أنهن مضطهدات في مجتمعاتهن الجديدة ويفتقرن إلى الدعم، لأن عائلاتهن تقيم في مناطق أخرى. كما أُجبرت النساء أيضاً على تحمل مسؤوليات الرجل التقليدية، وأصبحن المعيل الوحيد. وهذا يؤدي إلى ضغوط على النساء يصعب التعامل معها”.

ضغوط جديدة

كذلك تشير فلفلة إلى أنه في الوقت الذي انخفض فيه مستوى العنف العام في معظم أنحاء سوريا، فإن العديد من الناس -بعد أكثر من 10 سنوات من الحرب- يتعاملون مع الصدمات ويكافحون من أجل البقاء بسبب التدهور السريع للاقتصاد. ففي إدلب، الظروف باتت أصعب من المعتاد، حيث تنهار الليرة التركية، التي تم اعتمادها جزئياً في حزيران 2020، إلى مستويات منخفضة جديدة.

كل هذه المشاكل تضيف ضغطاً جديداً على أولئك الذين اضطروا إلى الفرار من منازلهم وأبعدوا عن أنظمة الدعم، مثل العائلة والأصدقاء وزملاء العمل.

وتعاملت أمل مع كل هذه القضايا وأكثر! فقد تزوجت لأول مرة في سن 13، حيث قالت والدتها إن الأسرة اعتقدت أن هذا سيوفر لها حياة أفضل مما يمكن أن توفره لها، لكنها انفصلت بعد فترة وجيزة. ولم تكن قادرة على الذهاب إلى المدرسة، وتزوجت ثانيةً في سن 17، وأصبحت أماً لثلاثة أطفال، واضطرت إلى الفرار من منزلها في جنوب إدلب قبل عامين، في ذروة هجوم القوات الحكومية على المنطقة.

وتقول أم أمل إن عائلة ابنتها كافحت من أجل الحصول على المال في المخيم الذي تعيش فيه، ولم يسمح لها زوجها بمغادرة خيمتها. فتطلقت منه في النهاية، لكنها خشيت أن تفقد حضانة أطفالها. “بعد طلاق ابنتي، بدأ مجتمعنا يتحدث بشكل سلبي عنها وعني”، تضيف أم أمل.

وعادةً ما يكون من المستحيل تحديد سبب الانتحار، حيث غالباً ما تكون هناك عوامل متعددة، لكن حنين السيد، الصحفية السورية وعاملة الإغاثة التي تنشر تحت اسم مستعار وطلبت استخدامه هنا، تؤكد بأن حياة أمل تتبع نمط مألوف في المنطقة للأسف.

اقرأ أيضاً: جحيم النفط السوري يسمم مناطق الشمال!

فبينما يتعامل جميع السوريين مع جروح الحرب، ترى حنين السيد، التي تبحث وتكتب عن الانتحار بين النساء في شمال حلب، إن النساء والفتيات في المخيمات غالباً ما يعانين من انعدام الخصوصية، ولا يستطعن التحرك بحرية بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة أو قيود من عائلاتهم، والعديد منهن غير قادرات على الذهاب إلى المدرسة.

وبالنسبة للفتيات، يمكن أن يؤدي النزوح أيضاً إلى الزواج المبكر، عندما لا يعتقد الآباء فقط أن إطعامهم يعني تقليل عدد الأفواه ولكنهم يعتقدون في كثير من الأحيان أنه سيحسن حياة بناتهم. وأصبح زواج الأطفال أكثر شيوعاً خلال الحرب السورية، وفي السنوات القليلة الماضية خاصة في الشمال الغربي وكذلك في مجتمعات اللاجئين.

وتقول منظمة “Plan International” إن المقابلات التي أجرتها تشير إلى “زيادة كبيرة” في زواج الأطفال. وبينما عارض 50 في المائة من الأمهات اللاتي تمت مقابلتهن في الشمال الغربي هذه الممارسة لبناتهن، عارضها 43 في المائة في أوقات السلم، لكنهن أيدنها أثناء الحرب. وجاء في التقرير: “أوضحن أن ذلك سيحمي المراهقات من التحرش المتزايد الذي يتعرضن له أثناء النزوح وسيقلل العبء الاقتصادي على الأسرة، وخاصة بالنسبة للأسر التي تعولها سيدات”.

وقد اعتقدت أم أمل أن الزواج من ابنتها في سن 13 كان خيارها الوحيد. فـ “زواج البنات الصغيرات يخفف من الأعباء الاقتصادية للأسر، وخاصة في الريف”، على حد قولها.

من جانبها، ترى حنين السيد إن هذه التجربة غالباً ما تكون صادمة للغاية بالنسبة للفتيات الصغيرات، حيث تقول: “إن أولئك الذين يتزوجن صغاراً من المرجح أن يجدن أحلامهن قصيرة وعليهن التعامل مع العنف المنزلي، ويمكن أن ينتهي بنم الأمر بمجموعة من المشكلات النفسية، التي غالباً لا يتم علاجها. ففجأةً، تجد فتاة صغيرة نفسها في مخيم مع العديد من الخاطبين الذين يحاولون الزواج منها، بينما هي غير قادرة على تحقيق أحلامها لأنها لا تستطيع إكمال دراستها”.

انعدام خيارات العلاج

رغم الضغوط التي لا تعد ولا تحصى التي تواجهها الفتيات والنساء في سوريا، إلا أن هناك نقصاً حاداً في خيارات علاج الصحة النفسية للنازحين في إدلب وحولها. ويقول عمر سعيد يوسف، مختص نفسي في شمال غربي سوريا، عمل مع العديد من المنظمات غير الحكومية ومنظمة الصحة العالمية لتطوير برامج الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، إن هناك حالياً طبيب نفسي واحد فقط يقيم بشكل دائم في المنطقة. وهناك طبيب ثاني يسافر بين تركيا وسوريا، لكنه غالباً لا يكون في البلاد لعدة أشهر في كل مرة.

وهناك خدمات أخرى متاحة، حيث يشير كل من فلفلة ويوسف إلى أن هناك عدداً قليلاً من المراكز التي تساعد النساء ضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، على الرغم من قلق يوسف من أن هذه المرافق غالباً لا تحيل النساء للحصول على دعم أكثر شمولاً للصحة العقلية، نظرا لقلة الخيارات.

للقراءة أو الاستماع: ما الذي ينتظر اللاجئين السوريين بعد تقارب دمشق وعمّان؟

وحتى تلك المرافق التي تقدم علاجاً للصحة العقلية قد لا تكون مستعدة تماماً للتعامل مع مستوى العنف والاضطراب الذي أجبر السوريون على مواجهته على مدار سنوات الحرب. ويقول يوسف إن هناك نقص في الأخصائيين السريريين، ويتم تدريب معظم علماء النفس باستخدام معلومات قديمة لا تغطي صدمة الحرب، موضحاً بأن “بعضهم لا يحمل حتى التراخيص المناسبة لممارسة المهنة”.

قضية مجتمعية

مع دخول الحرب السورية عامها الحادي عشر، غالباً ما تكون الصدمات متعددة الأجيال، حيث يرى يوسف بأن الانتحار لا يؤثر على الأسرة فحسب، بل يؤثر أيضاً على مجتمعات بأكملها.

لهذا السبب يعتقد أنه من المهم تخصيص الموارد لبناء الوعي بالصحة العقلية والانتحار، بما في ذلك توجيه الناس نحو تلك الموارد المتاحة، وتقليل وصمة العار لأولئك الذين يسعون إلى علاج الصحة العقلية أو لديهم مشاكل. ويتابع يوسف موضحاً بأن “أكبر فكرة خاطئة عن الانتحار هي أنه قضية فردية في حين أنه في الحقيقة قضية مجتمعية. فالمجتمع لديه مسؤولية مشتركة لرعاية جميع أفراده. وإذا ركزنا فقط على الانتحار باعتباره قضية نفسية أو فردية، فإننا لا نضع جهودنا الكاملة في المكان المناسب”.

من جهتها، تبين فلفلة بأن وصمة العار التي تحيط بالصحة العقلية غالبا ما تستمر بعد الموت. وقد تعاملت مؤخراً مع حالة أسرة أصبحت منبوذة في مجتمعها بعد أن ماتت ابنتهم منتحرة، حيث قيل لهم إنها تعاني من “قلة الإيمان” أو أنها “مريضة”.

وفي الواقع، تقول حنين السيد إن هذا الشعور بالخزي فيما يتعلق بالصحة العقلية والانتحار، جنباً إلى جنب مع السكان المتدينين للغاية في الشمال الغربي والذين يميلون إلى الاعتقاد بأن الانتحار خطيئة، يعني أن العديد من وفيات الانتحار لا تدخل في الإحصاءات الرسمية. فعلى الأقل في شمال حلب، حيث تعمل، تضيف السيد إن المستشفيات غالباً لا تبلغ عن الوفيات بالانتحار بناءً على طلب العائلات، مما يعني أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من الإحصاءات. وتضيف موضحةً: “الدين يهيمن على المجتمعات في شمال سوريا التي لا تقبل الانتحار كموت مسموح به. وعائلات ضحايا الانتحار يتعرضون لضغوط من وصمات المجتمع للكذب بشأن أسباب الوفاة”.

من جانبها، تمنت أم أمل لو فعلت المزيد لمساعدة ابنتها، فهي لم تكن تعلم بخطورة مشاكلها ولم تتدخل للمساعدة. وتختتم حديثها بالقول: “”ينفطر قلبي لأنني لم أستطع مساعدتها. آمل أن تسعى الفتيات والنساء اللائي يعانين من مشاكل الصحة العقلية إلى الحصول على الدعم من الأشخاص الذين يمكنهم مساعدتهن، حتى لا يعانين مثل أمل”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.