يخلّف التلوث أرضاً مسمومة في شمال شرقي سوريا، ويؤدي إلى حصد الأرواح وتدمير البيئة في البلاد التي مزقتها الحرب.

بحسب صحيفة “الاندبندنت” البريطانية، فقد تم تشييع جنازتان جنباً إلى جنب بعد ظهر أحد الأيام على طول ضفاف نهر من النفط الأسود اللامع تذكيراً بالتأثير المميت للتلوث على هذه القطعة من شمال شرقي سوريا. 

لقد امتد المعزّون، برؤوسهم المصابة بالدوار بسبب الأدخنة الخانقة، تحت خيمتين في قرية خراب أبو غالب، التي كانت تنعم بالمراعي الخضراء مثل العديد من الأماكن في البلاد، إلا أنها اليوم ملطخة باللون البني بسبب تسرب النفط.  

وعلى طول المجرى المائي في المنطقة، هناك لونٌ واحد فقط يطغى على انعكاس أشعة الشمس على النهر، إنها الألوان المتمازجة فوق البقع السوداء التي تسبب بها تسرب نفطي من منشأة تخزين كبيرة قريبة في العام الماضي. 

ويلقي السكان المحليون باللوم على هذا المجرى المائي الملوث في زيادة عدد الوفيات في المنطقة. وهو ادعاء يتردد صداه في قرى شمال شرقي سوريا التي تضررت أيضاً جراء ارتفاع معدلات التلوث. 

وفي غضون الأيام الماضية، توفي رجل مسن وسيدة في منتصف العمر بسبب معاناتهم من صعوبات في التنفس ومشاكل في الصدر وفشل كلوي. ويقول أيمن، ابن شقيق أحد المتوفين، للصحيفة البريطانية أن عشرة أشخاص لقوا مصرعهم في هذه القرية خلال العام الماضي، وهو عدد كبير خارج عن المألوف. كذلك هلكت الثروة الحيوانية وأًصبحت الأراضي الزراعية قاحلة. 

“لا نعرف بالضبط سبب وفاتهم، لكننا ندرك أنه مرتبط بهذا التلوث الذي يُضعف رئتينا وجهاز المناعة لدينا”، يشرح أيمن بينما يقف إلى جانب النهر السام. ويتابع قائلاً: “لا يمكننا النوم في الليل بسبب الرائحة. نحن قلقون لأنه يزيد من فرصة تعرضنا للإصابة بفيروس كورونا”.

وتقع هذه القرية بالقرب من حقل نفط رميلان العملاق وعلى بعد ستة أميال (10 كيلومترات) من كر زيرو، وهي منشأة تخزين النفط الرئيسية في شمال شرقي سوريا والواقعة ضمن الأراضي التي تخضع لسيطرة “الإدارة الذاتية”. هذه القرية هي واحدة من القرى العديدة التي دمرها التلوث الناجم عن استخراج النفط.

وبينما يشكل النفط المورد الرئيسي الذي يُبقي هذه الدولة التي مزقتها الحرب واقفة على قدميها، فهو في الوقت ذاته السبب في قتلها.  

وتضخ الرافعات النفط على مرأى النظر بينما ترتفع وتنحني على الأرض بانتظام صارم ومزعج. وتتزاحم تلك المضخات في الأفق الذي تزخرفه في الليل أكوام مشاعل الغاز الشاهقة التي تحرق الغاز، بالإضافة إلى مئات من مصافي النفط المؤقتة، حيث يتنقل العمال بوجوههم الرمادية من خلال ضباب النفايات السامة بينما الهواء لاسع والرئتين تحترقان ويصعب التنفس.

أدى الصراع فيما بعد إلى أضرار في إنتاج النفط الذي كان يقارب الـ 400 ألف برميل يومياً ما قبل الحرب، بينما يقدر الآن أنه انخفض إلى ما بين 20 و30 ألف برميل، بحسب خبراء. 

وكذلك أدت الأزمة الاقتصادية المتزايدة والقتال المستمر ونقص الاستثمار، الذي كان غالباً بسبب مخاوف تتعلق بالعقوبات المفروضة على البلاد، إلى قلة فرص إعادة الإعمار أو الصيانة للمنشآت القليلة التي لا تزال قيد الخدمة، الأمر الذي أدى إلى تسريبات نفطية لا يمكن تجنبها وانتشار ظاهرة إلقاء نفايات النفط بشكل كبير. 

كما أدى تدمير مصافي النفط الرسمية وخط الأنابيب الواصل إلى المصفاة الرئيسية في حمص إلى ظهور الآلاف من المصافي المؤقتة التي تقذف كل منها النفايات في الأرض، بما في ذلك المعادن الخطيرة المعروفة بأنها تسبب السرطان مثل الزئبق والرصاص والزرنيخ. أما الغازات مثل ثاني أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروجين والمنتجات الثانوية لإنتاج النفط وتكريره، فيتم حرقها أو إطلاقها في الغلاف الجوي. وقد تفاقم كل هذا بسبب الجفاف الغير معهود في سوريا هذا العام، الأمر الذي أدى إلى نقص حاد في المياه التي من شأنها تخفيف التلوث وإزالته من قاع النهر. 

“صناعة النفط هي القوة الدافعة للبيئة وهي قاتلتها في الوقت نفسه بسبب تلوث الهواء والأرض”، يقول ويم زوجين نبورغ، من منظمة “السلام الهولندية – باكس” والذي كتب تقريراً في شهر حزيران/يونيو الماضي يحذر فيه من التأثير التراكمي للتلوث النفطي في الشمال الشرقي للبلاد. 

ويضيف قائلاً: “لقد ازداد الأمر تعقيداً فقط بوصول الوباء في عام غير مسبوق من الجفاف، حيث جعلت الانسكابات النفطية من الصعب على القرى الواقعة أسفل المصب الحصول على المياه النظيفة اللازمة لمكافحة الفيروس”.

وبحسب خبراء في صناعة النفط، فإن الأشخاص الذين يديرون منشآت النفط يفتقرون إلى التمويل والموارد والدعم اللازم لمواجهة مثل هذه المشكلة المعقدة، وأنهم بحاجة إلى مساعدة دولية.

في غضون ذلك، تُركت قرى مثل خراب أبو غالب تحترق في الأراضي القاحلة السامة. ويبين السكان المحليون أنه في الفترة التي سبقت الحرب كان هناك جهود لمعالجة التلوث النفطي الذي عصف بهذه المنطقة منذ فترة طويلة، إلا أن المعارك في السنوات الأولى من الحرب والذي أعقبه سيطرة تنظيم داعش في العام 2014 أدت إلى تدمير مضخات متخصصة في معالجة نفايات النفط. 

وبحسب تحقيقاً أجرته باكس، منذ ذلك الحين كان هناك العديد من الانسكابات والفيضانات النفطية على مر السنين بما في ذلك العام الماضي. ومن ثم أدى سوء الصيانة لمنشأة كر زيرو إلى انفجار الأنابيب، الأمر الذي أدى إلى تلويث ما يزيد عن 18 ألف متر مربع من الأراضي، بما في ذلك القنوات والجداول المجاورة والنهر الذي يبلغ طوله 100 ميل والذي يمر عبر خراب أبو غالب.  

وأدى تلوث التربة والمياه والهواء مجتمعين إلى تلف المحاصيل بأكملها، بما في ذلك حقول الحبوب. لقد قتل الأنهار وسمم الهواء وتسبب بازدياد حالات السرطان والتهابات الصدر وفشل الأعضاء الداخلية، بحسب السكان المحليون.

“نسائنا قلقات من زيادة التشوهات الخلقية لدى الأطفال. يعاني الناس من مشاكل في الصدر. هناك أربعة أشخاص في هذا الحي مصابين بالسرطان واضطروا للسفر إلى دمشق لعدم وجود وحدة أورام في المنطقة”، يقول محمد حسين، ذو الستة وسبعون عاماً والذي تعيش أسرته بأكملها في خراب أبو غالب.

ويتابع قائلاً: ” ليس لدينا مناعة ضد أي نوع من الأمراض وليس فقط ضد فيروس كورونا. حتى المياه الجوفية أصبحت سامة الآن”. 

ويقضي علماء البيئة في الغرب سنوات في دراسة المواقع الصناعية التي يحتمل أن تكون خطرة لتأكيد ما إذا كانت هي السبب في تجمّع الأمراض في المكان، وغالباً ما يتم الفصل في القضايا تلك في قاعات المحاكم. وبالرغم من صعوبة إسناد حالات فردية من الإصابة بالسرطان أو أمراض أخرى إلى حالات تلوث محددة، إلا أن أطباء الأورام السوريون المحليون قالوا لصحيفة “إندبندنت” أن تلك الحالات تتسبب في إضعاف جهاز المناعة وسط انتشار الجائحة في هذه المنطقة من البلاد، التي لا توجد فيها مستشفيات متخصصة بالأورام السرطانية ولا توجد معابر رسمية للمساعدات الدولية لتزويد المنطقة بالإمدادات الطبية. 

“تضاعفت أعداد حالات الإصابة بالسرطان على مدى السنوات القليلة الماضية”، يقول دانيش إبراهيم من عيادته المزدحمة في مدينة القامشلي، موضحاً أنه كان ثاني طبيب أورام في شمال شرق سوريا في العام 2017، لكن هناك الآن أربعة، ويتعامل جميعهم مع آلاف الحالات.

“نحن وهم جميعاً يرون علاقة بين مصافي النفط ومخلفات النفط في الأنهار وأدخنة السيارات والزيادة في حالات السرطان، التي تتركز معظمها في المناطق المحيطة بحقول النفط. إن التلوث يلعب دوراً كبيراً في إضعاف جهاز المناعة. نحن قلقون من أنه يجعل المزيد من الناس عرضة للإصابة بفيروس كورونا”، يضيف الطبيب إبراهيم.

وهذا شائع جداً في المصافي المؤقتة، حيث يعتمد العمال على مسكنات الألم لإتمام يومهم. وهناك بحيرات مفتوحة من النفايات النفطية، بعضها مشتعل جزئياً والبعض الآخر تخترقه أشعة الشمس الحارقة فتنشر الهواء السام فوق المناظر الطبيعية المحترقة. ويقف الأشخاص، الذين يلفون وجوههم بطبقتين من الأوشحة لحماية أنفسهم من أسوأ أنواع الأبخرة السامة، على المراجل التي تنتج البنزين والديزل منخفض الجودة للمولدات والذي يستخدم أيضاً بديلاً لغاز الطهي الغير متوفر. 

يوجد الآن 300 محرقة عاملة في هذه المنطقة من البلاد والتي تُنتج مواد تستخدم محلياً إلا أنها تُرسل أيضاً إلى المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة دمشق وكذلك المناطق التي تسيطر عليها جماعات المعارضة.
 

وبالإضافة إلى المواد السامة، يواجه العمال عدداً كبيراً من المخاطر القاتلة، بما في ذلك انفجار براميل النفط. ويقول عمال مصفاة قرب القامشلي إن الكثيرين يعانون أيضا من مشاكل تنفسية خطيرة لكن ليس لديهم خيار آخر.

“تساعد إحدى هذه المصافي ثلاثون عائلة. إذا ما أوقفت هذه المصفاة غداً، فإن ثلاثون عائلة سوف يتضورون جوعاً أو يتحولون إلى مجرمين”، يوضح أحمد، ذو الأربعين عاماً وهو أب لأربعة أطفال، بينما يقف إلى جانب كومة محترقة من نفايات النفط المدعومة بالمعادن مثل الزئبق الكثيف. ويوافقه الرأي صديقه الذي تلطخ وجهه بالدخان المتصاعد من بحيرة النفايات المحترقة خلفه، حيث يقول: “من الرفاهية أن نفكر بصحتنا. يجب علينا التفكير في كيفية البقاء على قيد الحياة”. 

ويقول مالك هذه المصفاة، الذي يدير أربع مصافٍ أخريات في المنطقة المجاورة، للصحيفة أن عائلته قد بدأت بالعمل في العام 2012، عندما دمرت المعارك بين الجيش النظامي والمتمردين في عامها الثاني المصافي الرسمية وخطوط الأنابيب الرئيسية. ويعترف بتلويثها للبيئة، لكنه يقول إنه لا يوجد شيء آخر يمكنهم القيام به، مضيفاً بأن “الضرورة كانت السبب الرئيسي الذي جعلنا نبدأ هذا العمل حيث لم يكن هناك وقود أو ديزل أو حتى غاز للطبخ. لا يوجد مستقبل هنا، هذا هو مستقبلنا: سوف نموت إما بسبب الجوع أو بسبب التلوث”.

وتقول جماعات حقوقية تراقب الأزمة إن المستقبل أكثر سوءاً حيث لا يوجد حل للصراع في سوريا. ويقول زويجننبورغ إن قلّة من الدول قد تخاطر بضخ الأموال في شمال سوريا بغية إصلاح البنية التحتية النفطية نظراً لاستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والتهديد بالوقوع في فخ العقوبات الأمريكية على حكومة دمشق، في حين لا تزال إدارة بشار الأسد في دمشق تدعي أن حقول النفط ملك لها، حتى لو كان الأكراد يسيطرون عليها فعلياً. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.