الطبقية في سوريا: كيف أدت السياسات الحكومية لزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟

الطبقية في سوريا: كيف أدت السياسات الحكومية لزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟

ازدادت الفروق الطبقية في سوريا بعد الحرب بشكل غير مسبوق. وإذا كان التدهور الاقتصادي من أبرز نتائج أي حرب كانت. فإن توسيع الفجوة بين طبقات المجتمع بين أهالي البلد في سوريا، الذين يعانون من الحرب، ليس مساراً حتمياً للأمور. بل يتعلّق غالباً بسياسات السلطات الحاكمة. وكيف تدير شؤون الناس الذين تحارب بهم وباسمهم.

ويبدو أن الحكومة السورية كرسّت واقعاً اقتصادياً واجتماعياً في البلاد زاد من حدة الفروقات الطبقية في سوريا. وولّد حقداً طبقياً بين أناس لم يعد بمقدورهم شراء الخبز، وآخرين يتجوّلون في شوارع دمشق بسيارات فارهة. تحدّت قانون قيصر وتوابعه.

موقع «الحل نت» رصد عدداً من أهم قرارات الحكومة السورية، التي يمكن اعتبارها مساهمةً في ترسيخ الفجوة الطبقية في سوريا.  

جواز سفر يزيد الطبقية في سوريا

قضية جوازات السفر تظهر الطبقية في سوريا بوضوح. فقد طرحت وزارة الداخلية خدمة “جواز السفر العاجل”. أي إمكانية صدور جواز السفر في يوم واحد، مقابل مئة ألف ليرة. ومن لا يملك هذا المبلغ عليه الانتظار في طابور طويل لأسابيع، وأحياناً لأشهر.

يقف “أحمد علوش” في طابور أمام دائرة الهجرة والجوازات في حمص، منتظراً دوره. ويشرح لـ«الحل نت» معاناته: «مبلغ مئة ألف ليرة ليس قليلاً. فهو أكثر من راتب شهر كامل. ورغم ذلك أمّنت المبلغ، لأنني يجب ان أغادر البلد قبل سوقي للتجنيد. للأسف كل شيئ بات يُشترى بالنقود. حتى ثمن رحيلك عن البلد».

معاناة “أحمد” لا يُعتد بها أمام من لا يملكون هذا المبلغ. ومنهم “سليم كرم”، الذي  أنهى دراسته الجامعية في كلية التاريخ. ويسعى للسفر إلى العراق. بعد أن حظي بفرصة عمل تتطلب تجديد جواز سفره. لكن الضائقة المالية منعته من جمع المئة الألف ليرة المطلوبة.

يقول “كرم” لـ«الحل نت»: «السفر يحتاج كثيراً من التجهيزات. وأنا مسافر لأتمكن من إعالة اهلي. فمن أين أتوا بفكرة جواز السفر المستعجل ودفع المال؟ أخشى أن تضيع مني فرصة العمل». كما يختتم حديثه بالقول: «يبدو أن الفقير في بلدنا محكوم عليه بالبقاء فقيراً. ولا يمكنه الحلم بتحسين وضعه، ولو بالهجرة وترك الاهل».

السوريون في الخارج لم يسلموا من تداعيات تكريس الطبقية في سوريا. فقد باتوا بدورهم غير قادرين على تجديد جوازات سفرهم، التي تكلّف ثلاثمئة دولار للجواز العادي. وثمانمئة دولار للجواز المستعجل. وهو مبلغ كبير بالنسبة لجواز السفر السوري. المصنّف الأضعف عالمياً. وغير منطقي بالنسبة للسوريين المقيمين في بلدان منهارة اقتصادياً مثل لبنان. حيث يتواجد نحو مليون ونصف المليون لاجئ سوري.

دخول البلد صار امتيازاً طبقياً

تفتقت عقلية الحكومة السورية، في أواخر شهر آب/أغسطس من العام 2020، عن إصدار قرار آخر، يمكن تصنيفه من القرارات الطبقية في سوريا. عبر أمر اداري، يجبر  العائد إلى البلاد، عبر أي منفذ حدودي، على تصريف مئة دولار. من ثم يُسمح له بالدخول لبلده.

ولم تُنس بعد قضية السوريين العالقين على الحدود السورية اللبنانية، بعد محاولتهم العودة إلى سوريا، التي رفضت استقبال من عجز من مواطنيها عن دفع مئة دولار أميركي على حدودها.

تشرح “منى صهيب”، الحقوقية والباحثة الاجتماعية، لموقع «الحل نت» تداعيات ذلك القرار بالقول: «ليس المطلوب مجرد مئة دولار من السوري العائد لوطنه. والذي ساوت السلطات حاله بحال المغترب الميسور. هذه المئة دولار تعادل حوالي ثلاثة رواتب. فأنّى للبسطاء تحصيلها؟ وهم إن حصلوها سيخسرون منها خمسة وعشرين دولاراً، عند تصريفها في البنوك السورية المختصة، بسبب فرق سعر الصرف بين البنوك السورية والسوق السواء».  

وتضيف: «الدستور في كل البلدان مصدر التشريع وأبو القوانين. والقرار الإداري، الذي يفرض تصريف المئة الدولار، يعارض ويخالف المادة الثامنة والثلاثين من دستور البلاد، التي تنصّ على عدم جواز إبعاد المواطن عن الوطن. أو منعه من العودة إليه».
بهذا المعنى يبدو أن تكريس الطبقية في سوريا بهذا الشكل القاسي مخالفة حتى للدستور الذي أقرّته الحكومة السورية لنفسها، وفرضته على الجميع.

خدمة علم طبقية

ويأتي قانون البدل عن خدمة العلم ليخلق حالة كبيرة من الحقد الطبقي في صفوف الشباب. إذ تتجلّى فيه الطبقية في سوريا بأسوأ صورها.

فمثلاً يستطيع أحد أثرياء الحرب إرسال ابنه في رحلة سياحية إلى باريس أو لندن لمدة سنة. يقضي ثلاثة أشهر منها في سوريا، ويدفع بدلاً بقيمة عشرة آلاف دولار أميركي. فيصبح معفياً من الخدمة الإلزامية.

أما الأقل ثراء فيمضي سنتين بالخارج، ويدفع تسعة آلاف دولار، ليُعفى من الخدمة. ومتوسط الثراء يمضي ثلاث سنوات في الغربة، ويدفع ثمانية آلاف. وبالنسبة للشخص العادي يتغرّب أربع سنوات يمضيها بالعمل. كما يدفع سبعة آلاف دولار للحكومة. ومن لا يملك المال فهو مجبر على الالتحاق بخدمة عسكرية غير محدودة بسقف زمني. وربما التضحية بروحه في حروب حكومته ضد الفئات الاجتماعية الأخرى من شعبها.

“منهل قصريني”، عسكري يخدم في ريف حلب، وله أخوة اثنين يقاسمونه مشقة الخدمة العسكرية. يقول لـ«الحل نت»: «أعلم أنه من واجبنا الدفاع عن البلد. ونحن نحبه ونذود عنه، لكن  حين أتذكر كم من شاب قُتل. وكم شخصاً ثرياً يتنعّم مع أبنائه بالمال. أشعر بحالة من الحقد. نحن  مجبرون على الالتحاق بالخدمة العسكرية. لأننا باختصار لا نملك المال ولا نستطيع السفر. فنمضي سنوات شبابنا بالخدمة. فقط لحماية الأغنياء وأبنائهم».

البطاقة “الذكية” تكرّس الطبقية في سوريا بغباء

يعتبر كُثر أن الطبقية في سوريا بدأت مع “البطاقة الذكية”، وهي استكمال لخطة “عبد الله الدردري”، نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية سابقاً، لتقنين الدعم. وصولاً إلى إلغائه نهائياً.

حامل البطاقة الذكية الفقير مضطر للانتظار مئة يوم للحصول على جرة غاز مدعومة. ولكن الغني يستطيع شراء جرة غاز متى يشاء بالسعر الحر. كذلك البنزين، فالغني يستطيع تعبئة سيارته بالبنزين بلا حدود من السوق السوداء.

وبينما يتجمّد الفقير في منزله، بعد انتهاء الخمسين ليتراً المخصصة له من المازوت خلال أيام، لا تنطفئ التدفئة المركزية في قصور الأغنياء، الذين يشترون المازوت من حرّ أموالهم.

وفيما تحصي الحكومة عدد أرغفة الخبز على الفقراء. وهو في بعض الأفران لا يصلح علفاً للمواشي، يتناول الأغنياء خبزاً سياحياً من الدرجة الأولى. ولا ينتظرون مكرمات الحكومة السورية من السكر والزيت والأرز. أو يقفون على طوابير الذّل. وبالتأكيد لا يتأثّرون بقرارات رفع الأسعار. وهذا هو سحر الفروق الطبقية في سوريا.

طبقية العتمة: الكهرباء لناس دون غيرهم

وزارة الكهرباء باتت بدورها أحد أعمدة الطبقية في سوريا. فقد خصّت، في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الحالي، فئة واحدة من السوريين، لإمدادها بالطاقة الكهربائية لمدة 24 ساعة. عبر خط كهربائي مُعفى من التقنين بقيمة ثلاثمئة مليون ليرة سورية لكل 1 كم.  في مقابل ذلك يعيش باقي السوريين بساعات تقنين تصل إلى أكثر من عشرين ساعة في بعض المحافظات.

“عبد الحليم عواد”، موظف في مديرية كهرباء طرطوس، علّق على هذا القرار. قائلاً لـ«لحل نت»: «أسقطت وزارة الكهرباء السورية بضربة واحدة، عبر هذا القرار المضحك، نظرية نقص الفيول والغاز، الذي تتذرّع به لتبرير قطع الكهرباء والتقنين. وأثبتت أنها قادرة على إنتاج الطاقة مقابل المال. وهكذا أصبح متاحاً لأي ملياردير التنعّم في الفيلا، التي اشتراها بماله الخاص، بكهرباء على مدار الساعة. فيما يغرق ملايين السوريين الفقراء في عتمة شاملة، مع أربع ساعات كهرباء متقطّعة في اليوم، لا تكفي لإنهاء وجبة غسيل. ويختنق المواطنون المحتاجون لأجهزة تنفس على مدار الساعة في المستشفيات».

الطبقية وأيديولوجيا حزب البعث

لا تتوقف الحكومة السورية عن إصدار قوانين ومراسيم، والإدلاء بتصريحات عبر مسؤوليها، تكرّس حدة الطبقية في سوريا، وتزيد من حجم الفجوة والهوّة بين السورين.

البعض يقول إن الطبقية في سوريا كانت موجودة دائماً، ولكنها ظهرت اليوم بوضوح مع الانهيار الاقتصادي. ووجود طبقتين فقط: فاحشة الثراء تمثّل الأقلية. إضافة لذلك طبقة أخرى تغرق في فقر مدقع. تمثّل الغالبية العظمى من المجتمع السوري.

“إقبال إبراهيم عوض”، عضو سابق في مجلس الشعب السوري، ترى أن «الخطير هو أن تصبح الطبقية في سوريا مكرّسة في القوانين. وأن تصير حالة طبيعية. تسود يوماً بعد يوم».

للقراءة أو الاستماع: الأطفال في سوريا: ضحايا الفقر القاتل ومعتقلون لدى كل أطراف النزاع

وتتابع في حديثها لـ«الحل نت»: «تصرفات الحكومة السورية، بقرارتها غير المسؤولة، وتصريحات بعض مسؤوليها، تتناقض مع الادعاءات الاشتراكية لحزب البعث المسيطر عليها. فكيف يمكن لدولة، يُفترض أنها تقارع الولايات المتحدة الأميركية، “الدولة الإمبريالية” كما يصنّفها البعثيون، أن تطالب مواطنيها بالدفع بالعملة الأميركية حصراً لإتمام معاملاتهم. وتجعلهم فريسة للسوق السوداء؟ إذا كانت الحجة تأمين القطع الأجنبي، فهناك ألف طريقة غير فرض الإتاوات على المواطنين البسطاء. ومن هذه الطرق استعادة الأموال المنهوبة، الموجودة داخل وخارج سوريا. ومحاربة الفساد والتهرّب الضريبي لدى أثرياء الحرب. وزج حيتان المال في السجون».

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.