لطالما كانت الأسرة نواة المجتمع وكلما صلح حالها صلح حاله، والأسرة السورية اليوم لعلها في أسوأ حالاتها بما تمر به البلاد من ظروف اقتصادية صعبة تصعّب على الأهل تربية أبنائهم، فيقع الأبوان فريسة الهموم، وخصوصا الأم، لأنها ووفق العادات والأعراف السائدة هي المسؤولة عن التربية، بينما يقع على عاتق الأب توفير مستلزمات البيت فحسب.

أمهات حائرات

تصف السيدة آمال ماهر وهي موظفة في أحد البنوك الخاصة في محافظة حمص، حالها مع أطفالها الثلاثة وصعوبة تربيتهم للحل نت فتقول: “ينسى كثر أن الأم اليوم هي أيضا سيدة عاملة، وبالكاد تستطيع أن ترتب وقتها عند عودتها من وظيفتها، بما يكفل تأدية جميع الواجبات التربوية، وخصوصا أن الأبناء اليوم باتت تربيتهم صعبة في ظل حضور وسائل التواصل الاجتماعي، مع طلباتهم ورغباتهم التي يقتبسونها مما يشاهدون ويسمعون، فهنا بات الأمر يتطلب وجود الأب الحازم إلى جانب المرأة”.

وتتابع “بصدق لولا مساعدة زوجي ورغم وقته الضيق فهو يعمل أيضا لوقت طويل، لكنت لولاه سأستسلم وقد أفشل في تربيتهم ولن يرحمني حينها لا مجتمعي ولا حتى زوجي”.

تؤكد السيدة إنصاف وليد (وهو اسم مستعار)، أهمية وجود الزوج الأب في تربية الأطفال خصوصا أنها تعاني من إهمال والد أطفالها، فتقول لـ “الحل نت”: “تظل الأم رمز الأسرة وكل ما يمثلها، ولكن هذا لا يعني أن الأب هو الخط الأخير الذي تلجأ إليه حينما تعجز عن التصرف وتحتاج لبعض الحزم والحسم، فمن الضروري للأب أن يكون مع أبنائه في دراستهم، وتفقد من هم أصدقائهم وماذا يفعلون، خصوصا أن جيل اليوم وللأسف متمرد”.

وتضيف خلال شهادتها “حين أشكو لزوجي، ينهرني بحجة أنه جاء متعبا من العمل. كم اخشى بصدق أن يكبر أولادي على عكس ما أتمنى وأسعى، فحينها للأسف سأكون الملامة والخاسرة الوحيدة رغم تعبي”.

دور الأب في التربية له أثمان يحصد ثمارها قبل الأم

الدراسات التي تناولت دور الأب في تربية الأبناء كثيرة، وأغلبها أكدت مشاركة الأب في التنشئة وأهميتها لاستقرار نفسية الطفل، بل إن الخلل في العلاقة بين الطفل وأبيه كما أثبتت بعض الدراسات، قد يؤدي إلى نمو شخصية سلبية لا تشعر بجدوى المشاركة في الحياة الاجتماعية.

يقول سامر العوا وهو طالب جامعي لـ”الحل نت”: “اعتبر نفسي من المحظوظين بوجود أب يحب أن يتواجد مع أبنائه ويرعاهم، وخدمه في ذلك أيضا ظرف عمل والدتي الذي يتطلب السفر في بعض الأحيان، والحقيقة إنه لكلّ من والدي شخصية مختلفة، فوالدي يحب المزاح والضحك دائما ولا يعارض أي طلب نرجوه منه إن كان صائبا طبعا، أما والدتي فدائما تعارض ولا تستجيب لمتطلباتنا، ولطالما كنت أسمع والدي يحث أمي على التماشي مع تفكيرنا و اهتماماتنا وبذات الوقت توجيهنا، ولكن دون فائدة تذكر. ورغم حبي الشديد لوالدتي إلا أني أشعر أن والدي هو الأقرب لنا”.

بينما تصف سناء خزام الطالبة في المعهد الصناعي، افتقادها لوالدها في البيت وتصف لـ “الحل نت” ضرورة أن تشعر به إلى جانبها فتقول: “ظروف الحال اليوم وخصوصا بعد الحرب التي نشأت عليها وكبرت مع مآسيها تجعلني أفتقد أبي دائما رغم أنه يعيش معنا في البيت، وهو يعمل في محل لبيع الأدوات الكهربائية، لكنه للأسف ما إن يعود إلى المنزل حتى ينزوي بغرفته متحججاً بحاجته إلى الهدوء بعد يوم طويل من الضجيج خصوصا أن إخوتي صغار يلعبون ويتشاجرون دائما”.

وتضيف قائلة “أنا أحمّل والدتي مسؤولية عدم اهتمامه بنا لأني معتادة ومنذ الصغر أن أرى والدتي تحمل نفسها عبء تربيتنا، حتى إنها كانت تنهرنا إذا فكرنا أن نشكوا إليه أمرا أو نطلب منه طلبا، بحجة أنها هي ستخبره. بذلك تكون قد ساهمت والدتي للأسف بإقصائنا عنه واقصائه عنا دون أن تدري، وعوّدته على الاتكال عليها بكل ما يخص شؤوننا كأبناء له”.

علوم النفس والاجتماع تؤكد دور الأب في التربية

يقول الأستاذ الجامعي موفق سلمان، مستشار الطفولة والمدرب الذاتي لمرحلة المراهقة، لـ “الحل نت”: “ليست تربية الأطفال حكرا على الأم، فتقسيم الأدوار وتوزيع المهام التربوية والاجتماعية بين الأم والأب ينعكس بشكل إيجابي على نفسية وسلوك أطفالهم وتكوين شخصياتهم، فوجود الأب داخل المنزل يحقق التوازن الأسري من خلال اهتمامه بأبنائه ومصاحبتهم ومعرفة أفكارهم وميولهم”.

ويتابع “بالتأكيد هنا يجب أن ننوه لضرورة الوئام والوفاق بين الوالدين، فالاختلاف في التربية والشخصية ووجهات النظر أمر طبيعي ومتواجد، ولكن المهم هو أسلوب وطريقة الاختلاف، فإن تم عن طريق الصراخ والمشاجرة فمن الممكن أن يصاب الطفل بحالات من الخوف والقلق والتوتر فهو يتوقع ثورات والديه وغضبهم من وقت لآخر، لذلك يجب أن تحرص الأم على الاتفاق المسبق بينها وبين الأب على أسلوب التربية وقيمها وحدودها، أي يجب على الوالدين العمل على حل الخلافات الموجودة بينهما وتقريب وجهات النظر، وأن يفكر الأبوان في صحة أولادهم النفسية والعمل على أن تكون طريقة تربية الأطفال واحدة بينهما وغير متناقضة”.

آباء بآراء متباينة

أبو نوار موظف في مديرية الخدمات في دمشق، وهو أب لولدين صبي وبنت، وهو متزوج من سيدة تعمل في معمل للخياطة في ريف دمشق، يقول لـ “الحل نت”: “أعلم أهمية أن أكون مع أبنائي وأن أرعاهم مع أمهم وألا أكون أبا تقليديا لا يتحدث مع أطفاله إلا عندما يرتكبون الأخطاء، ولداي مراهقان في سن الحادية عشر والثالثة عشر، وهما للأسف ولدا في زمن الحروب والكوارث الاقتصادية. أنا أعترف بأني أقصر معهم في واجباتي نحوهما لأني اضطر للعمل مساء أيضا، فحين أعود يكونان قد ناما، أتمنى أن أكون قريبا منهما أكثر، فليس باليد حيلة”.

مايعانيه أبو نوار لا يعتد به كثيرا أحمد المنلا وهو موظف في مديرية الزراعة في حمص، فيقول لـ “الحل نت” واصفا حاله قبل أن يصبح أبا وبعد زواجه وإنجابه لأربع أبناء أصغرهم اليوم في عمر العشرين: “علاقتي بأولادي جد جيدة، رغم أني لم أتدخل في تربيتهم يوما، ولم أكن أسأل زوجتي عن طريقة تربيتها لهم، وهذا في الحقيقة ما تربيت وترعرعت عليه. لا أذكر أن أبي تقاسم معنا يوما مناقشة أمر بحضور أمي وإخوتي، فلقد كنا بالكاد نراه معنا على الطعام أو في أيام الأعياد والمناسبات”.

ويردف بالقول “لطالما تربينا على أن مسؤولية تربية الطفل تقع على الأم فقط، ولا يطلب من الأب سـوى تأمين الحاجات المادية لعائلته، خاصة أن ظروف الحال وخصوصا اليوم تقضي بأن يبقى الأب خارج المنزل في العمل لتأمين قوت يومه”.

قصور قانوني

تشمل مواد القانون السوري جوانب تتعلق بالأطفال وتحديد حقوقهم وطرق ممارستها بما يضمن حسن حضانتهم، لكن يؤخذ عليه عدم تحديد الواجبات الاسرية داخل الأسرة بشكل دقيق كما شرحت المحامية وفاء الدنيا فتقول لـ “الحل نت”: “اهتم قانون الأحوال الشخصية السوري بمواضيع الأسرة وحضانة الأطفال، لكن مواده جاءت في حالات الشقاق والطلاق فقط فحددت شروط حضانتهم، وهي في الواقع شروط نعم تكفل حق الطفل وتربيته، فمثلاً كتسهيل للحضانة، جاء في القانون رقم 4 لعام 2019 القاضي بتعديل بعض مواد قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 لعام 1953 وتعديلاته وفي المادة 139 منه أنه لا يسقط حق الأم الحاضنة بحضانة أولادها بسبب عملها، إذا كانت تؤمن رعايتهم والعناية بهم بطريقة مقبولة. لكن هنا أود أن أوضح نقطة هامة وهي أن المرأة المطلقة لها حق في حضانة أولادها حتى بلوغهم سنا معينة حددها القضاء وأوجب على الزوج الأب أن ينفق على أطفاله، ولكن نسي المشرع أن تربية الطفل ليست مجرد إنفاق وتلبية مطالبهم المادية، بل لابد من متابعة شؤونهم الحياتية وتوطيد الأواصر الأسرية معهم. أرى أنه على القانون إلزام الأب بالقراءة التي هي حق له ابتداء لكنه لا يعاقبه؛ إن هو تخلى عن هذا الحق ولم يأتي لرؤية أطفاله مكتفياً بإرسال المال لهم”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.