لا تشبه سورية الحالية، أي كيان دولتي في العصر الحديث، تبدو مثل نمط من الإمارات أو الممالك وجدت في عصور سابقة وكان حكامها من القراصنة، أو كيانات افتراضية، ما قبل دولتية، تحدث عنها توماس هوبز، كمنطلق لتأسيس عقد اجتماعي جديد بين مكوناتها.
ربما، لم تكن سورية، طوال مراحل وجودها بعيدة عن الصورة الحالية التي هي عليها الآن، مع فارق وجود قشرة تعطي من يراها من الخارج صورة مظللة، وقد منح هذا الشكل الضبابي شرعية خارجية على الأقل، لنخب سياسية، ذات جذور عسكرية وإيديولوجيا حسب توجهات السوق، وأعطتهم الفرصة للتموضع في كافة مفاصل ” الدولة” التي بقيت على مدار العقود السابقة تقف على عتبة الانهيار، وليس لديها مشكلة في الخروج من هذه اللعبة القميئة إن حانت لها فرص التفلت من القفص الذي وضعه فيها حكام سورية، الذين استطاعوا توريط حتى بعض من يطلق عليهم “أساطين السياسة” عبر وصف هذا النمط من حكام سورية ب” القيادات الإستراتيجية” وأحيانا ” الحكيمة”.
ستكشف الأيام والحوادث، أن هؤلاء الإستراتيجيون، أو الحكماء، لا يستحقون أكثر من رتبة ” قبضاي الحارة” الذين لم يستطيعوا في السلم تطوير الدولة، التي بقيت بقوانينها ومعمارها وأساليب إدارتها، على ما تركه العثماني والفرنسي، وفي الحرب لم يستطيعوا تقدير المخاطر وإدارتها وتحويلها إلى فرص جديدة كما تفعل كل القيادات السياسية في العالم، والمفارقة أن المعارضة التي ولدت من رحم الأزمة السورية استنسخت الكثير من مزايا المنظومة الحاكمة، وخاصة في طرق وأساليب إدارة الأزمات والسيطرة على مفاصل الكيان، وهي هنا المناطق المحررة وجمهور المعارضة.
في المحصلة، أوصلت هذه الأنماط من السياسات” الإستراتيجية” سورية، إلى دولة تعيش بالمياومة، بل هي في طريقها للعيش بالوجبة، بمعنى أن يتحوّل همّ شعب وبلاد بحالها على إدارة الوجبات وكيفية تأمين الوجبة التالية، وبالتالي تحقيق المثل الذي انتشر في زمن حكم حافظ الأسد ” القبضاي هو من يؤمن خبز يومه” وذلك كنوع من تحقير التفكير بالسياسة والشأن العام والانشغال بما لا يخصه في قضايا من نوع الحرية والديمقراطية والمساواة وسواها من الشؤون العامة.
كانت هذه المقولات شائعة في زمن كانت فيه سورية من الدول المصدّرة للقمح وزيت الزيتون والقطن والخضار والفواكه، ولم يكن ذلك بفضل شطارة النظام السياسي ولا قدرته على إدارة الموارد، بل غالباً بفضل نشاط شعبها وخبراته التاريخية في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة.
ليس هناك دولة في العالم المعاصر ليس لديها احتياطات إستراتيجية من أنواع معينة من المنتجات والمحاصيل، وذلك بسبب ضرورات الحاجة لها، ولأنها منتجات يؤثر نقصانها على حياة الشعب وأساليب عيشه، بل إن تأثيراتها قد تصل إلى حد خطر تهديد حياة الشعب بأكمله. في الخبرة التاريخية للبيت السوري هناك ما يسمى” بيت المونة” اعتاد السوريون أن يخزنوا بها أنواع من السلع الموسمية والتي لا تتوفر في كل وقت، وكانت بيوت السوريين، فقراؤهم وأغنياؤهم، لا تخرج عن هذا النمط في تدبير شؤون حياتها.
اليوم، باتت سورية، تعيش على حصص صغيرة، إن توفرت، فهي في الغالب من أنواع رديئة وبأسعار تفوق طاقة وقدرة المستهلك، وهذا الوضع يبدو أنه سيكون مستداماً وربما يأخذ منحنى تنازلياً في المستقبل، مع أنه تجاوز عتبة القدرة على الاحتمال منذ زمن، وهو وضع لم يعرف غيره جيل أو جيلين، بما يعني أن هناك أجيال صاعدة في سورية ستعيش ما تبقى من عمرها بأجساد تعاني من سوء تغذية مزمنة، فضلاً عن حرمانها من التعليم والتعامل مع تقنيات العصر الحديث وعزلها تماما عن الحداثة وقيمها ومفاهيمها وأدواتها.
حتى في الزمن الذي تصوره هوبز، ما قبل الدولتي، كانت الشرعية تعطى للحاكم إذا استطاع تنظيم المجتمع الذي يحكمه وتوزيع الثروات وإشباع الحاجات الأساسية لمكونات هذا المجتمع، ومن هذه القاعدة تشكّلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث باتت هذه العلاقة تقوم على الطلب من قبل المحكومين، والتنفيذ من قبل الحاكم، وبما أن الحاكم، كممثل للدولة، يملك أدوات القهر، فإن العقود الاجتماعية، الدساتير، وضعت حدوداً لاستخدامه لهذه الأدوات، كما أعطت المجتمع أدوات يستطيع من خلالها تحقيق مطالبه عبر المظاهرات والإضرابات والإعتصامات، بالإضافة الى البرلمان والإعلام والمجتمع المدني وسواها.
في بلاد تعيش على المياومة، وغالباً لا تجد عشاءها، كيف يحصل الحاكم على شرعيته؟، وهل تكفي القوة وحدها لبلوغ الرضى الذي يعد أحد أهم مصادر الشرعية!.
في بلاد تعيش على المياومة، تبدو خيارات أهلها ضئيلة جداً، ودائما محصورة ضمن نطاقات سيئة: الموت جوعاً، أو تحصيل اللقمة بالسلاح، أو الانفكاك والطلاق، بحيث يذهب كل في طريق يبعد عنه خطر الموت جوعاً، ترى ألم تصل سورية بعد إلى هذه العتبة وقد باتت مخازن مؤنتها خاوية؟.
في بلاد تعيش على المياومة، لا يحق لمخربيها الحديث عن مؤامرات خارجية وكائنات لا مرئية أوصلت البلاد إلى هذا الدرك من المخاطر. عليهم أن يتأملوا في سياساتهم أولا، وطبيعة من استدعوهم لحمايتهم من مطالب الشعب بالخبز والحرية، في هذه البلاد كانت السياسة غائبة على الدوام لذا لا حلول لمشاكل وإدارة لأزمات بل فوضى وتراكم للخراب وانفجار قادم ينتظر على الأبواب.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.