تدخل روسيا بالملف السوري أدى إلى عودة موسكو إلى المنطقة، بوصفها قوة خارجية رئيسية. وجاء ذلك بعد أن اعتبرت تعاملها مع الحالة الليبية  خطأ سياسيا على المستوى الدولي.

وتحولت القواعد العسكرية، التي أنشأتها روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا، في الثلاثين من أيلول/سبتمبر 2015، إضافة إلى قواعدها السابقة على الساحل السوري، إلى نقاط ذات أهمية استراتيجية لموسكو، استطاعت بفضلها منع مد خط الغاز العربي إلى الساحل السوري والأراضي التركية، ومنها إلى أوروبا.

إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا غير كثيرا من المعادلات العالمية، وأدى لتوقعات عن تراجع تدخل روسيا بالملف السوري. فمع تكرار التصريحات، التي ترجّح استمرار الغزو لسنوات، بات من الواضح أن الحرب في أوكرانيا لن تقتصر على المعارك العسكرية فحسب، بل سوف تمتد مع الوقت لتشمل أنواعا متعددة من الحروب، مثل الحروب الاقتصادية، المالية، السياسية. وليس فقط في أوروبا، بل في مناطق أوسع من العالم، ومنها الشرق الأوسط، وخاصة سوريا. كما أن هذه الحروب المركبة ستعرض التعاون متعدد الأطراف، فيما يتعلق بإدارة الصراع السوري، وإيصال المساعدات الإنسانية للسوريين، لتغيرات كبيرة.

وأشار تقرير أعده “المعهد الألماني للدراسات الأمنية والدولية” إلى أن “الآثار المباشرة للغزو الروسي لأوكرانيا على التفاعلات الجيوسياسية في الملف السوري كانت محدودة حتى الآن. فقد استطاعت القوى الخارجية الرئيسية، المتواجدة عسكريا على الأراضي السورية، فصل تعاونها هناك عن التوترات بشأن أوكرانيا”.

وتوقع التقرير، بخصوص تدخل روسيا بالملف السوري، “بقاء المصالح العامة للجهات الخارجية المهيمنة في سوريا بلا تغيير، ما يدفع إلى مزيد من التكيفات؛ أو تجدد وتصاعد التوترات، التي تعتمد بدورها على مدة وتطور الصراع في أوكرانيا، وتصاعده المحتمل إلى صراع أوسع بين حلف الناتو وروسيا”.

ترتيب أولويات تدخل روسيا بالملف السوري

الأكاديمي والخبير السياسي د. محمود الحمزة أوضح، في حديثه لموقع “الحل نت”، أن “روسيا تعتبر أوكرانيا أولوية بالنسبة لها، وتتقدم بالأهمية على سوريا، نظرا لتعقد وتشابك المواقف، بسبب كثرة الفاعلين في الملف السوري”.

 ورغم ذلك يعتقد الحمزة أن “روسيا لن تتخلى عن تدخلها في الملف السوري، لكنها قد تخفف نشاطها وتواجدها في بعض الأماكن، تحت تأثير الضغوطات الكبيرة ضدها، من قبل أميركا والدول الأوروبية، والمتمثلة بالعقوبات في المجال الاقتصادي، وخاصة تصدير الغاز والتجارة والقطاع المالي. وكذلك تعثّر عملياتها في أوكرانيا، واستمرار دعم الغرب للجيش الأوكراني بأحدث الأسلحة، والضغط الهائل على روسيا في الهيئات الدولية ومجلس الأمن”.

ويعتبر الأكاديمي السوري أن “المؤشرات على ذلك تتمثل بتخفيف روسيا نشاطها في سوريا، وتواجدها في بعض الأماكن، ونقلها عددا من الطائرات من قاعدة حميميم إلى أوكرانيا، وكذلك مقاتلين ومرتزقة من شركة فاغنر الأمنية الخاصة؛ وتخليها عن المشاريع الاقتصادية، التي اتفقت على تنفيذها مع الحكومة السورية”.

د. بشار نرش، الكاتب والباحث الأكاديمي السوري، يتفق مع د.الحمزة. ويضيف لـ”الحل نت”: “تدخل روسيا بالملف السوري لن يضعف بسهولة على المدى القريب، وإنما قد نشهد انكفاء روسياً محدودا، لحين توضح معالم الغزو الروسي لأوكرانيا ونتائجه. وبعد ذلك قد نشهد تغيرا في الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية، سيأتي في إطار تسويات ومقايضات في ملفات إقليمية ودولية بين روسيا والغرب”.

مضيفا: “ما يدلل على هذا الأمر أن مكانة سوريا أقل من أوكرانيا في ميزان الأهمية الاستراتيجية لروسيا، فأوكرانيا في التصور الاستراتيجي الروسي، الذي بني منذ نهاية التسعينيات، تعتبر أساسية لضمان الأمن القومي لموسكو. وعديد من الباحثين والمهتمين بالشأن الروسي قد وضعوا التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، في خريف 2015، ضمن إطار السعي لإجبار الغرب على التعامل مع روسيا بوصفها شريكا في رسم الخارطة الدولية، والتفاوض من جديد حول الملف الأوكراني، وخاصة شبه جزيرة القرم، وكذلك ملف توسيع حلف الأطلسي شرقا. لكن الآن، وبعد تورط روسيا في أوكرانيا، ربما نشهد مقايضة روسية–غربية، قد تكون سوريا أحد محاورها”.

الملف السوري وتعقيدات العلاقة بين موسكو وأنقرة

رغم كل الحديث عن تراجع التدخل الروسي بالملف السوري إلا أن الطيران الروسي ما يزال ينفذ طلعات جوية على أماكن سيطرة المعارضة السورية، وخاصة في محافظة إدلب، فهل هذه رسالة من الروس، مفادها عدم تخليهم عن سياساتهم في سوريا؟

د.الحمزة لا يعتبر القصف، الذي ينفذه الطيران الحربي الروسي على شمال غرب سوريا، مؤشرا على التصعيد، لأن “الأجواء السورية مفتوحة للطيران الروسي دائما”، حسب تعبيره.

ويعتقد الحمزة أن “التدخل الروسي بالملف السوري بات يرتبط، من حيث الحجم والفعالية، بالوضع الميداني والسياسي في أوكرانيا، حيث أثبتت المعارك أن الجيش الروسي غير مؤهل بشكل جيد، ويفتقد الحرفية، بعكس ما كانت الدعاية الروسية تروج له. فقد مُني بخسائر هائلة في الأرواح والمعدات، وهو الأمر الذي تنبّه له المسؤولون في الغرب، فبدأوا التلويح بحرب استنزاف تطول لسنوات، ترهق الطاقات والقدرات الروسية، وبالتالي لن يكون اهتمام روسيا بسوريا، بعد حربها على أوكرانيا، كما كان قبله”.

ومن الناحية السياسية يلفت الحمزة إلى “تخوف روسيا من حصول تفاهمات أميركية–تركية في سوريا، ليست في صالح روسيا، خاصة إن قدمت أمريكا تنازلات لتركيا بما يتعلق بقوات سورية الديمقراطية “قسد”، ما قد يدفع أنقرة للتوجه نحو واشنطن، والتخلي عن موقفها شبه المحايد بخصوص الغزو الروسي لأوكرانيا”.
مشددا على أن “روسيا ليس لها مصلحة في مواجهة تركيا، فهي تحتاج أنقرة بشكل فعلي، خاصة في ظل العقوبات الغربية المفروضة عليها”.

تحويل سوريا إلى ملف هامشي

من جهته يرى د.بشار نرش أن “الغزو الروسي لأوكرانيا، وما تبعه من عقوبات غربية، سينعكس بشكل أو بآخر على التدخل الروسي بالملف السوري. وهذا الانعكاس سيكون سلبيا على المديين المتوسط والبعيد، فمن جهة سيؤدي إلى إطالة أمد الأزمة السورية، بعد انقطاع الاتصالات الروسية-الغربية؛ وسيتحول الملف السوري، من جهة ثانية، إلى ملف ثانوي يمكن تأجيله. على خلاف أوكرانيا، التي تعد تهديدا وجوديا لكلي الطرفين. كما أن انعكاسات ضعف الاهتمام الروسي بسوريا ستؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية ومعيشية حادة وعميقة، وخصوصا في مناطق سيطرة حكومة دمشق. ومن المؤشرات على ذلك قرارات الحكومة السورية، التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، المتعلقة بالتقشف وتخفيض النفقات”.

لكن النرش يرى، من جانب آخر، أن “روسيا حتى الآن تسعى إلى تجنيب سوريا تداعيات غزوها لأوكرانيا، على اعتبار أن روسيا تعتبر سوريا ورقة مهمة بيدها في حربها مع الغرب، وتريد الاستفادة منها قدر الإمكان، ولأقصى فترة زمنية متاحة. وفي حال طالت فترة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتحولت المعارك لحرب استنزاف طويلة، وذهبت الأزمة لأماكن غير متوقعة بالنسبة لروسيا، فإنها قد تلجأ إلى التصعيد في سوريا، في محاولة للضغط على الغرب، من خلال فتح الجبهة السورية من جديد”.

مقالات قد تهمك: روسيا في الحرب السورية: هل جعل غزو أوكرانيا الجبهات في سوريا أكثر بروداً؟

السيناريوهات المحتملة لمستقبل تدخل روسيا بالملف السوري

“روسيا تجد نفسها محاصرة من كل الاتجاهات، وهي أمام احتمالين: إما أن تحقق انتصارا في أوكرانيا، وهذا مستبعد؛ أو أن تفشل، وهو ما سينعكس على الوضع السياسي في الداخل الروسي، وسينجم عنه مراجعات للسياسة الخارجية، تقود إلى تنازلات أو تدابير سياسية جديدة”، بحسب د.محمود الحمزة.

وفي المقابل يضع د. بشار نرش احتمالين آخرين، فيما يتعلق بتدخل روسيا بالملف السوري بالتحديد: “الأول تحول سوريا إلى ساحة للنزاع الهامشي بين روسيا والغرب، بهدف ضغط كل طرف على الطرف الآخر، وإشغاله بملفات فرعية. وفي هذه الحال تكون القضية السورية هي الخاسر الأكبر، على اعتبار أن هذا الاحتمال سيطيل أمد الأزمة، ولن يبدل المشهد الاستراتيجي الحالي في سوريا، إلا إذا ترافق ذلك بدعم غربي لفصائل المعارضة السورية بأسلحة نوعية، قادرة على تغيير موازين القوى العسكرية على الأرض، وهذا الخيار مستبعد؛ والاحتمال الثاني هو أن يؤدي التصعيد في أوكرانيا إلى تفاهمات بين روسيا والغرب، قد ينتج عنها مقايضات حول ملفات إقليمية مشتركة. أي تخلي روسيا عن المهم لصالح الأهم، مع تعهد الدول الغربية بالحفاظ على المصالح الاستراتيجية الروسية في سوريا، وفي مقدمتها القاعدة البحرية الروسية في طرطوس”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.