تنبع أهمية الموازنة المالية العامة للعراق من تأطيرها لطبيعة التعاملات المالية في البلاد، ضمن خطة سنوية معينة. وغالبا ما تستهدف هذه الخطة في العراق تشغيل مؤسسات الدولة وتسديد الرواتب والديون، فضلا عن تمويل المشاريع الاستثمارية الداخلية والخارجية.

ورغم أهمية كل هذا، إلا أن مشروع الموازنة المالية العامة للعراق لعام 2022 ما يزال بعيدا عن طاولة المناقشات البرلمانية في العراق، بسبب انشغال السياسيين بالصراع على تشكيل الحكومة المقبلة.
عضو اللجنة المالية السابقة في البرلمان العراقي أحمد حمه رشيد يفسر ذلك بـ”قرارات المحكمة الإتحادية العليا، والنظام الداخلي لمجلس الوزراء العراقي، الذي يمنع تمرير أي قانون من حكومة تصريف الأعمال إلى البرلمان. وهو ما نصت عليه المادة 42 من النظام الداخلي لمجلس الوزراء”.

إضافة الى ذلك يشير رشيد، في تصريحاته لـ”الحل نت”، إلى “فوات الأوان بالنسبة لمناقشة الموازنة المالية العامة للعراق، إذ أنها تستغرق حوالي ثمانين يوما من أجل دراستها، وتاليا تكون السنة الحالية على وشك الانتهاء”.

 وبذلك يرجح عدم إقرار موازنة العام الحالي، ويرى ضرورة البدء بدراسة موازنة العام القادم 2023.
إلا أن ذلك يطرح كثيرا من الأسئلة، عن الأسلوب التي تتم به إدارة الشؤون المالية للبلاد حاليا بدون موازنة عامة، والكيفية التي تغطي بها الحكومة العراقية نفقاتها.

كيف تتم تغطية نفقات الحكومة بدون إقرار الموازنة المالية العامة للعراق؟

الباحث في الشأن السياسي والاقتصادي نبيل جبار العلي يوضخ أنه “على الرغم من عجز الحكومة العراقية عن تمرير قانون الموازنة المالية العامة للعراق، ولكنها قادرة على الوصول الى ما يقارب تسعين تريليون دينار عراقي، أي ما يقارب ستين مليار دولار، وفق قانون الإدارة المالية رقم 6 لعام 2019، والذي يتيح، في المادة 13 منه، إمكانية صرف نسبة 1/12 من إجمالي صرفيات السنة المالية السابقة”.

وبيّن، في حديثه لـ”الحل نت”، أن “هذا القانون يحدد صرف تلك الأموال في النفقات التشغيلية لمؤسسات الدولة، وتسديد الرواتب حصرا، بدون إتاحة صرفها في مشاريع إستثمارية أو تطوير البنية التحتية أو الاستيرادات الضخمة، وهو ما يشكل عبئا كبيرا على الاقتصاد والمجتمع العراقي”.

ويلفت العلي أنه “بالرغم من اكتساب العراق قدرة كبيرة في مواجهة الأزمات الاقتصادية، بعيدا عن الموازنة المالية العامة، نتيجة للتجارب السابقة، وشح الوارد المالي، أو عدم نجاعة بعض قوانين الموازنة السابقة، إلا أن الظرف الإقتصادي الراهن، والتضخم المالي العالمي المرافق له، قد يؤديان لمشكلة معاشية كبيرة للمواطنين”.

تأثير الأزمة على المواطنين

وبدأت ملامح الضغوط الإقتصادية تبدو واضحة على الحياة الاجتماعية في العراق. إذ أدى الارتفاع الكبير للأسعار خلال الفترة الماضية الى تراجع القوة الشرائية في البلاد، كما أن إلغاء الاستثمارات، نتيجة عدم إقرار الموازنة المالية العامة للعراق، رفع من نسب البطالة في المجتمع، وأدى الى تراجع كثير من الخدمات العامة، بسبب عدم تمويل مشاريع البنى التحتية.

يرافق كل ذلك ثبات نسب الدخل اليومي للمواطنين، وإلغاء المحكمة الإتحادية لقانون الأمن الغذائي، الذي كان يهدف لمعالجة الأوضاع الإقتصادية الصعبة، من خلال زيادة عدد الحصص الغذائية المقدمة للمواطنين عبر بطاقات التموين الغذائي.

وكانت المحكمة الإتحادية العليا قد ألغت مشروع الأمن الغذائي، الذي قدمته الحكومة العراقية الى البرلمان، بعد الدعوى القضائية التي تقدم بها النائب المستقل باسم الخشان، بحجة عدم صلاحية الحكومة الحالية لتمرير مثل هذه القرارات.

ويذهب بعض المراقبين الى الاعتقاد بأن سبب الدعوى القضائية هو منع الفساد، الذي قد يطال هذا المشروع.

مقالات قد تهمك: طيف سامي.. “حارسة الموازنة العراقية” تفوز بجائرة أميركية

هل يزيد عدم إقرار الموازنة الفساد أم يعرقله؟

وعلى مدى السنوات الماضية رصدت الموازنة المالية العامة للعراق مبالغ تتراوح بين مئة وعشرين ومئة وثلاثين تريليون دينار عراقي (ما يقارب مئة مليار دولار سنويا)، ويشكل الريع النفطي، المتحقق من بيع النفط الخام في الأسواق العالمية، أكثر من تسعين بالمئة من الوارد المالي للموازنة العراقية.

وبحسب شركة التسويق النفطي العراقية “سومو” فإن العراق حقق، خلال الأشهر الأربعة الماضية، أرباحا تقدر بأكثر من ثمانية وثلاثين مليار دولار، وسط توقعات باجتياز هذه الأرباح حاجز الثمانين مليار دولار في نهاية العام الحالي، في حال استقرار السوق على ما هو عليه، وهي زيادة بنسبة خمسة مليارات دولار عن العام الماضي 2021.

وتحوم كثير من الشكوك حول مصير هذه الأرباح، وإن كان تأخير إقرار الموازنة المالية العامة للعراق ينبع من رغبة بعض السياسيين في الاستحواذ على ذلك الوارد المالي.

مصدر في وزارة المالية العراقية يستبعد هذا الأمر، إذ يرى أن “الاختلاس كان وما يزال الصفة الملازمة للتجارة النفطية العراقية منذ عام 2003، ولا يتعلق الأمر بالموازنة المالية العامة للعراق”.

ويبيّن المصدر، الذي رفض نشر اسمه، أن “هذا الاختلاس يتم عبر التلاعب بالأسعار، وتسجيل عمليات بيع النفط بسعر أقل من السعر الحقيقي، وتاليا اختلاس الفرق المالي”.

وينوه المصدر، في تصريحه لـ”الحل نت”، أنه “رغم ما يلحقه عدم إقرار الموازنة المالية العامة للعراق من أضرار بالمواطنين، إلا أنه أغلق الباب أمام كثير من الصفقات المشبوهة، لاسيما تلك التي تتعلق بمنح المناقصات والعقود إلى شركات وهمية، واختلاس الأموال المخصصة للاستثمار، وتاليا تحجيم الفساد في العراق بالاختلاس النفطي فقط”.

يذكر أن العراق شهد خلال العام الماضي ضياع مبالغ مالية طائلة، قُدرت قيمتها بخمسة وعشرين مليار دولار، من مجمل أربعين مليار دولار، كانت مخصصة للاستيراد الحكومي، ولا يزال مصيرها مجهولا حتى الأن.

وكشفت أزمة إفلاس المصارف اللبنانية عن تورط كثير من السياسيين العراقيين في عمليات الاختلاس والفساد، إذ صرحت هذه المصارف عن وجود ودائع مالية تبلغ أكثر من عشرين مليار دولار، تعود الى سياسيين عراقيين. وما يزال بعض هؤلاء المتورطين في قمة الهرم السياسي حتى اليوم، بعيدا عن المحاسبة القضائية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.