أصبحت سوريا دولة وشعباً مؤقلمة ومدولة؛ أصبحت سوريات وشعوب.
المحيط الإقليمي والدول العظمى يفرضان سياساتهم وتدخلاتهم في الشؤون السورية، وبما لا يحقق مصلحة السوريين، وإنهاء مأساتهم بحلٍّ سياسيٍّ؛ يجد تسوية لكافة مشكلاتهم.
لم يستطع النظام تشكيل أغلبية في مناطق سيطرته، ويحكمها بالحديد والنار؛ وكذلك بقية مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع.
تستغل الدول المتدخلة ذلك للإمعان في عدم تشكل أيّة أغلبية سوريا، تعطي السوريين القدرة على المناورة والرفض وتشكيل مشروعٍ وطني، يؤسس لسوريا واحدة ولشعبٍ واحد، متعدد القوميات بالضرورة.
سهولة أن تسيطر تركيا على فصائل مسلحة، وكتل شعبية، أو إيران أو روسيا أو أمريكا تتأتى من رفض النظام لتشكيل تلك الأغلبية، وهي لا تنحو نحو هوية وطنية دون أن تنال حقوقها، وكذلك الأمر في بقية مناطق قسد والفصائل وهيئة تحرير الشام.
الآن تركيا تعدّ العدّة لعملية عسكرية جديدة وبدأت بمناوشات هنا وهناك، وتعلن أنها ستغزو تل رفعت ومنبج، وتقف الفصائل معها، وكذلك الائتلاف الوطني، وهناك كتل اجتماعية خارجة عن سيطرة النظام تؤيد العملية، وبالطبع هناك كتلة أخرى ترفض العملية.
ماذا ستفعل قسد ومسد إزاء ذلك، ستستعين بالتأكيد بأمريكا وروسيا وبالنظام حتى، وهذا سياق طبيعي في ظل غياب تلك الأغلبية، واصطفاف قطاعات شعبية مع العملية أو ضدها، ولكن ليس على أسس “وطنية”.
مشكلة قسد الآن ليس في دعم الإدارة الأمريكية لها، بل في غياب التأييد الشعبي الواسع في مناطق سيطرتها، والأمر عينه في مناطق سيطرة الفصائل، التي لا تتوقف عن الصراع فيما بينها، ويتضرّر الشعب في مناطق سيطرتها، وهذا يؤدي إلى انفكاك قطاعات شعبية عنها وعن السيطرة التركية، باعتبار الأخيرة، هي المسيطرة الفعلية هناك، وسياساتها هناك تساهم في غياب تشكيل إدارة “ذاتية” موحدة لتلك المناطق، وتوحيد للفصائل.
التوجه الوطني سيعني بالضرورة قوة حقيقية للفصائل، وهو ما ترفضه تركيا، وتريدها فصائل تحت الطلب، و بها تشن الغزوات ضد الداخل السوري، ولا سيما مناطق سيطرة قسد.
إذا كانت الفصائل تتصارع فيما بينها، ولا تملك أصلاً مشروعاً وطنياً للنهوض بمناطق سيطرتها، وتنتظر الأوامر التركية، ومثلها الائتلاف وكافة مؤسساته، فكذلك قسد ومسد؛ فهما لا تستوعبان الخلاف مع أحزاب المجلس الوطني الكردي، وبالتالي، كيف ستمثلان مصالح الشعب بتنوعاته القومية في مناطق الإدارة الذاتية إذاً.
إن مصلحة السوريين تكمن في مشروعٍ وطني يمثل سوريا بأكملها؛ الإدارة هناك تتلاقى مع الفصائل في عدم البحث في المشتركات، والأمر عينه لدى الائتلاف الوطني، والأخير بكافة مؤسساته، يُكفر قسد ومسد، وهو بالأصل لا يمثل المناطق التي تسيطر عليها الفصائل.
تُركت هيئة تحرير الشام لتسيطر على الفصائل في منطقتها، وهي تسيطر هناك بمعرفة كل من تركيا وروسيا ولم تسع الإدارة الأمريكية إلى محاربتها كما داعش! وهي أيضاً لا تحوز على أية أغلبية في إدلب ومناطق سيطرتها.
النظام بدوره، لا يبحث عن تلك الأغلبية، التي يقمعها ويجوعها، ويتحالف مع روسيا وإيران لنهبها.
إن اللحظة الوحيدة التي كادت أن تتشكل فيها أغلبية سورية هي لحظة الثورة في 2011، بعدها، ومع سيطرة قوى الأمر الواقع، وانقساماتها لم يعد الأمر ممكناً، ومنذ ذلك الحين بدأت الدول الإقليمية والعظمى تسيطر على الداخل السوري وتحارب أية مشاريع وطنية شعبية، ساعية نحو تشكيل تلك الأغلبية السياسية الوطنية.
لا إمكانية لتشكيل أغلبية وطنية بمشاريعٍ إسلاميّةٍ أو قومية أو أهلية أو طائفية وسواها.
الخارج لا يريد ذلك، فهذا سيشكل كتلة وازنة، استقلالية، وقوى الأمر الواقع تشكلت على أرضية رفض تلك الأغلبية، ولنقل لم تتمكن حواراتها النادرة مع بعضها، من إيجاد أية مشتركات وخلق تلك أغلبية، وبذلك أصبحت رهينة هذه الدولة أو تلك.
وقبل ذلك، وقعت مناطق واسعة “محررة” تحت سيطرة القوى السلفية والجهادية، حيث طرحت الأخيرة نفسها ممثلة للسنة، وللثورة، وتلاقت مع النظام في تفكيك الأغلبية الثورية في 2011، واستند النظام إلى محاربة الأخيرة بأيديولوجيات، وأفكار وسياسات تخوينية، كالطائفية، والتبعية للخارج، واجتثاث الأقليات ولا سيما العلويين، وهذا بدوره عزّز أشكال من الوعي غير الوطني، والمستعد للتبعية للخارج، وسهل سيطرة القوى الطائفية على الأغلبية الثورية، وهذا بدوره ما تعزز مع الوقت، وصارت سوريا، كما قلنا سوريات وشعوب.
رغم هذا الميل، هناك تضرّر واسع من السوريين تحت ظل قوى الأمر الواقع، ومن الدول الداعمة لها، وهذا سيقود منطقياً إلى التفكير وطنياً برفض ذلك الواقع والبحث عن مشتركات وطنية.
هذه الفكرة في صلب الوعي السوري، وفي كافة المناطق، وهي أحد أشكال وعي “الشعوب” السورية.
إن عدم تراكم هذا الوعي يتعلق بقمعية تلك القوى، والتأزم المستمر بين مناطق قوى الأمر الواقع، وبسبب الحروب التي لا تتوقف، وبالتالي هناك ضرر واسع يقع على شعوب المناطق المقسمة، ويدفعها نحو تفكيرٍ وطنيٍّ وضرورة الخلاص من الأزمات و الاحتلالات.
يريد صاحب المقال هنا التنبيه إلى وجود أغلبية سورية فعلية، وليست من بنات خياله.
نعم، هناك متضررون كثر من ممارسات قوى الأمر الواقع، وهي قوى متهمة بالتقسيمية والتبعية، وممارساتها مليئة بالفساد والنهب وإذلال الناس، وإذا كانت الأغلبية السورية لا تدافع عن هذه الفكرة نظراً لما أوردناه من أسباب، فإنها أيضاً تجد نفسها متضررة من استمرار تلك القوى ومن التداخلات الخارجية، وهذا استعصاء حقيقي.
لا يمكن أن تتشكل أغلبية سورية على أسس قومية أو دينية. يمكن أن تتشكل فقط على أسس وطنية، وبلحظة الثورة كان الميل الشعبي نحو ذلك.
لحظة الثورة ليست لحظة هامشية، أو أن التطورات اللاحقة اجتثتها كلية.
إن ممارسات قوى الأمر الواقع، وبعكس ما قد يتوهم كثيرون أنها فرضت رؤيتها وسياساتها، وهي فعلت ذلك نسبياً، وفي بعض المراحل من سيطرتها ولا شك، ولكنها ومع تحولها إلى سلطات قمعية، وتابعة، وناهبة، وتماثل ممارساتها ممارسات النظام فإن الأغلبية التي أدافع عنها، أرى أنها في وجدان ووعي السوريين في مناطقهم المقسمة، وذاكرتهم عن 2011 سبباً إضافياً لوجودها.
المشكلة تكمن في رفض هذه الفكرة من قوى الأمر الواقع والدول الداعمة لها، وبالتأكيد يتحمل النظام المسؤولية الأولى عن استمرار هذا “المقسمات” وعن غياب أغلبية سورية.
لا إمكانية لإيقاف تركيا عن محاولة فرض هيمنتها على المناطق الحدودية وتشكيل منطقة آمنة دون تشكل تلك الأغلبية، وهناك أربع غزوات قامت بها تركيا، وحققت لنفسها أهدافاً منها، والأمر عينه بالنسبة للأكراد، فلا يمكنهم مواجهة تركيا عبر الدعم الأمريكي فقط، وقد رأينا كيف أعطى الأخير تركيا عفرين وسواها.
وأيضاً لا يمكن للنظام أن يحوز على أية كتلة حقيقية ودعم فعلي من الشعب دون الاعتراف للشعب بحقوقه، ودون التخلص من عقليته التكفيرية للشعب وإعطائه حقوقه.
هيئة تحرير الشام وأية فصائل إسلامية مرفوضة بالكامل، وممارساتها السلفية والجهادية لا تجعلها تسيطر على “السنة”، هذه بدورها محض أوهام.
بإمكانها السيطرة على بعض القطاعات الشعبية، ولكنها مرفوضة من أغلبية من تسيطر عليهم تلك الفصائل.
ننهي بالقول، هناك قطاعات شعبية متضررة من قوى الأمر الواقع، ودون أن تغير الأخيرة من ممارساتها القمعية والنهبية للشعب، ستظل القوى هذه رهينة الدول الداعمة لها، وستجد نفسها لاحقاً على مذبح أية تسوية قد تتوصل إليها الدول المتدخلة في الشأن السوري؛ الآن ستظل قوى الأمر الواقع رهينة سياسات الدول المتدخلة، وتركيا قد تتمكن من السيطرة على تل رفعت ومنبج وربما لاحقاً عين عرب أيضاً، وهذا لن يكون خارج التوافق مع الإدارة الأمريكية والروسية!.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.