يمر البحث العلمي في سوريا، مثل غيره من المجالات في البلد الذي أنهكته الحرب، بكثير من المشاكل والمعوقات. إذ يواجه طلاب الدراسات العليا والباحثون في الجامعات السورية مشكلات تتعلق بصعوبة إجراء البحوث العلمية، ونقص الكادر التدريسي، إضافة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والفساد الإداري والسياسي.

وتلعب الوساطات والمحسوبيات دورا أساسيا في إعطاء الفرص للباحثين السوريين، ما يؤدي لحرمان كثير من الكفاءات من حقها في المجال الأكاديمي، الأمر الذي ينعكس سلبا على البحث العلمي في سوريا

معاناة البحث العلمي في سوريا تبدأ بإيجاد مقعد في الدراسات العليا

قبل الوصول إلى مقاعد الدراسات العليا، للتمكن من الدخول في مجال البحث العلمي في سوريا، يواجه الطلاب صعوبات كبيرة، تجعلهم تحت رحمة أصحاب النفوذ داخل الجامعات وخارجها. وهذا ما عانى منه سامر كحيلة، الذي تقدم إلى مسابقة المعيدين في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، وكان من ضمن الشروط التقدم للمسابقة إجراء مقابلة أمام لجنة، يؤلفها وزير التعليم العالي.

يقول كحيلة لـ”الحل نت” عن تجربته: “توقعت أن تقوم اللجنة بسؤالي عن البحث الذي أنوي إجراءه، او أي سؤال يتعلق باختصاصي، لكن الأسئلة جاءت عن رأيي الشخصي بقضايا سياسية، بل وتم تمرير أسئلة بطابع أمني، فشعرت أنني في فرع استخبارات، وارتبكت كثيرا”.

متابعا: “لا أريد القول إن كل هذا كان بأمر من وزير التعليم العالي، لكنه بكل الأحوال منح اللجنة صلاحية طرح أي أسئلة تريدها. وهكذا تحولت المقابلات التي تجريها إلى نوع من الغربلة الأمنية. وفي النهاية لم يتم قبولي، وحين رأيت أسماء المقبولين عرفت السبب، فأحدهم كان من أقارب مسؤول معروف في إحدى المحافظات”.

كيف تتعامل الحكومة السورية مع الباحثين؟

ورغم أهمية البحث العلمي لبلد مثل سوريا إلا أن التقصير الحكومي في دعم طلاب الدراسات العليا له أوجه عديدة، يعاني منها الطلاب، ومنهم مها عديرة، طالبة الماجستير بقسم الإرشاد النفسي في جامعة دمشق.

 تشرح عديرة لموقع “الحل نت” أبرز الصعوبات التي واجهتها خلال إتمام دراسة الماجستير بالقول: “بحثي يتعلق بأثر التعصب الفكري والتديّن على الفرد والمجتمع. احتجت إلى بعض المراجع، لكن صُدمت بأنه لم يكن ممكنا الوصول إليها داخل المكتبة الوطنية، المعروفة بمكتبة الأسد، التي تقع في ساحة الأمويين، نتيجة تصنيفها بأنها ممنوعة، ولا يمكن الاطلاع عليها، إلا بتقديم تعهد خطي أن البحث والاختصاص الذي أدرسه له صلة مباشرة بمحتوى الكتاب. ناهيك عن روتين انتظار الكتب المطلوبة وشح المصادر، وعدم توفر الحواسيب الحديثة والمكتبات والمختبرات والإنترنت السريع والمواقع الإلكترونية، وتوفير قواعد بيانات وشبكة معلومات”.

الباحث عبد الرحمن الكيلاني، مهندس زراعي ومعيد في جامعة تشرين، يرى أن “صعوبات إتمام البحث العلمي في سوريا تعود لعدة عوامل، مثل شح المصادر وارتفاع التكاليف، مما يدفع بكثير من الطلاب إلى الاعتماد على مواد ومصادر متشابهة، ويؤدي في المحصلة إلى تشابه في الأبحاث والنتائج المستخلصة”.

 ويضيف، في حديثه لـ”للحل نت”: “الأبحاث الزراعية مثلا تعد اليوم طوق نجاة في ظل انعدام الأمن الغذائي، ورغم ذلك نرى عجزا حكوميا، وتقصيرا في دعم جهود الباحثين الزراعيين. أضف إلى ذلك عدم وجود البنية التحتية، المساعدة في التعامل مع المعلومات، وعدم وجود المخابر المختصة والمواكبة لتطورات العلم. هذه المعوقات تحول دون إنتاج وتوظيف بحوثنا في خدمة مجتمعنا”.

 الدكتور المهندس ضياء سلمان، الباحث في علوم الطاقة، يوافق رأي زميله الكيلاني. ويؤكد أن له مع الحكومة السورية تجربة مريرة، وصفها بـ”المذهلة”، تتعلق بالبحث الذي أعده للاستفادة من طاقة الريح، وتطوير التوربينات الهوائية.

 يقول سلمان لـ”الحل نت”: “وقعت عقدا مع وزير التعليم العالي لإنجاز بحثي العلمي قبل أكثر من عامين، وطلبت مبلغ سبعة ملايين ليرة سورية، لشراء التجهيزات اللازمة للبحـث، وتمت الموافقة، لكن نتيجة انتشار وباء كورونا تم التأخير في صرف المبلغ، ولم يتم شراء المواد الخاصة لإجراء البحث. وبعد عام، طلبت الهيئة العلمية للبحـث العلمـي مني تنفيذ البحث، فأخبرتها بكتاب رسمي أن تكلفته ارتفعت، نتيجة التضخم الحاصل وارتفاع أسعار المواد، من سبعة ملايين إلى خمسة عشر مليونا، وصدمني ردهم بأن العقد شريعة المتعاقدين، وأن المدة المحددة لتنفيذ البحـث سوف تنتهي، فإما أن استلم الأموال وأنفذ البحـث، أو أرسل اعتذارا لهم”.

مختتما حديثه بالقول: “أنا باحث قدمت فكرة البحث ودراسة عن تكلفته، وبدلا من أن تكون الميزانية مفتوحة لخدمة البحـث العـلمي في سوريا تتم محاصصتي! والأنكى أنه نتيجة تأخر الهيئة في صرف الأموال، وعدم قيامها بشراء التجهيزات، اضطررت لدفع غرامات مالية”.

معوقات الإيفاد لغرض البحث العلمي

يصف بعض الطلاب البدء بمعاملة الإيفاد الخارجي بمتاهة معقدة، يصعب على أي طالب إتمامها، نظرا لشروطها التعجيزية. فالطالب المعيد عليه أن يقوم بالإيفاد، داخليا أو خارجيا، ضمن فترة محدودة. وهذا ما حاولت سعاد (اسم مستعار) فعله، إلا أنها لاقت كثيرا من الصعوبات.

تقول سعاد لـ”الحل نت”: “لعل أصعب الشروط على الطالب، الذي يريد الإيفاد، هو تأمين كفيل له، يمتلك قطعة أرض أو عقارا، لتكون مستمسكا للحكومة على الطالب. وقد تتصرف بالعقار وتبيعه إن لم يعد. الصعوبات تزداد في حال عدم وجود الكفيل والعقار، إذ يضطر الموفد للتوجه الى أحد السماسرة، الذين يقومون بتأمين كفالة مقابل مبالغ كبيرة جدا، لا يمكن لأي طالب تأمينها بسهولة. وهكذا يتطلب إتمام البحث العلمي في سوريا قدرة مالية كبيرة عند الموفد، لا يمتلكها معظم السوريين”.

ويظهر أحدث التقارير السنوية لمديرية البحث العلمي في جامعة دمشق لعام 2020 أن عدد المعيدين الموفدين إلى الخارج بلغ مئتين وعشرة معيدين فقط.

بالنسبة لرضوان ماهر، طالب الحقوق، فقد شاءت الأقدار أن يتزامن تخرجه مع بدء الحرب السورية، وقطع بلدان عربية وأجنبية عدة علاقاتها مع سوريا، الأمر الذي أثّر سلبا على الإيفاد الخارجي للطلاب السوريين، فاقتصر على الدول الصديقة للحكومة السورية.

 يقول رضوان لـ”لحل نت”: “للأسف، يبدو أن حلمي بالدراسة في الخارج معلّق بظروف البلاد. وفي كل الاحوال كنت أنوي الاستفادة من الايفاد لتأجيل خدمة العلم، لكن ذهبت احلامي مع بدء الحرب، وتم سوقي للخدمة، وسُرّحت منذ سبعة أشهر فقط، بعد سنوات طويلة، وبالإمكان القول إني لم أستفد حتى الآن من تخرجي بمعدل عال من كليتي. وأنا اليوم محتار كيف أعاود تكريس جهودي لاستثمار معدلي، وأحقق ما تمنيته من متابعة دراستي، في ظل التكاليف الباهظة جدا للجامعات الخاصة”.

لم يتوقف الأمر على صعوبة إيفاد الطلاب للخارج، بل كان لنبذ سوريا من الساحة الدولية سياسيا، وركود اقتصادها الداخلي، أثر سلبي على حال مجتمع البحث العلمي في سوريا، وطلابه ممن تم ايفادهم.

إلهام زريق، خريجة جامعة تشرين، قسم الهندسة التطبيقية، كانت الأولى على دفعتها، وابتعثت إلى مصر، كونها المعيد الأول، لكن اضطرتها ظروف الايفاد الصعبة للعودة الى بلدها دون اكمال دراستها.

 تشرح إلهام زريق لـ”الحل نت” قرار عودتها بالقول: “للأسف، ظروف الابتعاث إلى الخارج ليست مريحة. اضطررت للعودة وإلغاء دراستي لعوامل لم أكن أحسب لها حسابا. ومنها التأخير في تسلمنا للرواتب، خصوصا مع الحصار والعقوبات على الحكومة السورية، وآليات تحويل المبالغ، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي عليّ وعلى زملائي. ولم تقدم لنا سفارتنا أي دعم. إضافة إلى القيود على الزيارات العائلية، والمراقبة الأمنية المستمرة للموفدين والمبتعثين. فارتأيت أن أعود، في ظل صعوبة إيجاد عمل لا يتعارض مع دراستي الصعبة. وكل هذه العوامل تجعل البحث العلمي في سوريا شبه مستحيل”.

هل يوجد حقا بحث علمي في سوريا؟

للإجابة على هذا التساؤل، بعدما رواه لنا أصحاب تجارب الدراسات العليا، التقى “الحل نت” معاون مدير البحث العلمي في وزارة التعليم العالي الدكتور إبراهيم رومية، الذي قال: “لا نعاني من عدم وجود البحث العلمي في سوريا، لكن المشكلة ترتبط بالإجراءات الروتينية، التي تتبعها بعض الإدارات المعنية، بهدف تحقيق منافع شخصية، إضافة لوجود بعض القوانين، التي تعرقل الاستفادة من البحث العلمي، وعدم وجود استراتيجية واضحة للعمل البحثي”.

وعن فعالية رسائل الدكتوراه والماجستير في البحث العلمي الحقيقي يؤكد رومية أن “جميع دول العالم تعتمد، في تطوير مشاريعها وإنتاجها، على أبحاث الدراسات العليا، إلا في بلادنا، فنحن لا نستثمر هذه الأبحاث، ونسبة الإنفاق الحكومي على البحث العلمي في سوريا من الناتج القومي الإجمالي هي 0.2 بالمئة، وبمقارنته ببعض الدول نجده من الحدود الدنيا عالميا. إضافة إلى أنه لا يوجد أي إنفاق من قبل القطاع الخاص على البحث العلمي”.

ختاما صنّف موقع “ويب ماتريكس” للجامعات، في نسخته لعام 2021، جامعة دمشق في المرتبة 3429 عالميا. كما وثّق موقع وحدة الأبحاث الدولية “سايبرميتريك لاب”، تراجعا في ترتيب الجامعة السورية عن السنوات السابقة أيضا، إذ حلّت جامعة دمشق في المرتبة 4475 عالميا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.