فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات غير مسبوقة على روسيا، بعد شن الأخيرة حربا شاملة على أوكرانيا، وتهديدها للأمن القومي لدول الاتحاد الأوروبي. لقد شملت العقوبات كافة التعاملات في المجالات المتعددة مع الروس، عدا قطاع الطاقة الذي لم يتم تضمينه بعد في العقوبات.

وقد خرجت العديد من الدراسات التي تحاجج بأن العقوبات الدولية على روسيا قد تضر بالاقتصاد العالمي قبل الاقتصاد الروسي للارتباط والتشابك بينهما. وتجادل الدراسات أيضا بأن ارتفاع أسعار موارد الطاقة قد يعوض جزء لا بأس فيه من الواردات المالية الخارجية الروسية التي قُيّدت.

في السطور التالية نفند حجم الضغوطات التي تواجه الاقتصاد الروسي نتيجة للعقوبات الدولية، لنبين ما حقيقة ادعاء تماسك الاقتصاد الروسي.

تأثير العقوبات على الاقتصاد الروسي

سنفصل تأثير العقوبات بشكل مباشر على قسمين وهما القطاع المالي، والاقتصاد الحقيقي، والذي نقصد فيه المبادلات التجارية والاستثمارات المباشرة.

القطاع المالي

استهدفت العقوبات الدولية القطاع المالي الروسي بشكل مباشر، وأهمها تلك التي طالت البنك المركزي في روسيا، حيث قامت الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية بتجميد نصف احتياطيات روسيا من الذهب والعملات الأجنبية المودعة لدى الغرب والتي تقدر بـ 300 مليار دولار. إلى جانب منع تصدير الأوراق النقدية بالدولار واليورو إلى روسيا، بالإضافة إلى العديد من العملات الأخرى. وقد أخرجت العديد من البنوك الروسية الرئيسية والكبرى من نظام “سويفت”، ومنعت روسيا على أثره من المشاركة في نظام الإرسالات المالية بين البنوك العالمية، مما أعاق روسيا من إتمام عمليات التبادل التجاري مع العديد من دول العالم.

العقوبات التي طالت القطاع المالي انعكست بشكل سلبي على الاستقرار المالي لروسيا، فقد تعثرت في سداد بعض ديونها للمرة الأولى منذ عام 1917. وتعاني البلاد من أسوأ موجة تضخم منذ عقدين، وقالت وكالة الإحصاءات الاقتصادية التابعة للدولة الروسية “Rosstat “، إن التضخم في الشهر الماضي بلغ 17.3 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ عام 2002. كما اضطر البنك المركزي الروسي من رفع معدلات الفائدة.

الاقتصاد الحقيقي

لقد عطلت العقوبات الدولية بنسبة كبيرة العديد من مراكز الإنتاج والتصنيع الروسية عن العمل، مما أدى إلى إيقاف حركة الاستيراد والتصدير، وإلى خروج الاستثمارات. ويمكن تفصيل الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الحقيقي الروسي على الشكل التالي.

اغلاق العديد من الشركات المحلية، حيث أُجبرت بعض الشركات الروسية على الإغلاق، وأشارت عدة تقارير إلى أن الشركة المصنعة للدبابات اضطرت إلى وقف الإنتاج بسبب نقص بعض الأجزاء التي كانت تستورد من الخارج، مثل الرقائق الإلكترونية، التي تستخدم في صناعة المعدات عالية الدقة، وبعض المكونات المعقدة اللازمة لإنتاج التكنولوجيا العسكرية المتقدمة. لذلك فإن هذا الحصار اللوجستي ساهم في الحد من قدرة المجمع الصناعي العسكري على إنتاج المزيد من الأسلحة الأكثر تعقيدا والأكثر تقدما. وشركات التسليح هي مثال عن العديد من شركات التصنيع الأخرى، وهذا يعني أن العديد من الشركات أجبرت على الاغلاق لأنها لا تستطيع الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية، مثل برامج الكمبيوتر أو عمليات التدقيق من قبل الشركات الغربية الكبرى. وأيضا توقفت بعض الشركات عن العمل بسبب عدم توفر أسواق لتصريف البضائع.

خروج الشركات العالمية من روسيا، فقد وصل عدد الشركات التي قلصت أعمالها، أو خرجت بشكل كامل من روسيا إلى أكثر من 750 شركة دولية. ويرجع ذلك إلى التهديدات بمصادرة الأصول من قبل حكومة موسكو. من أبرز الشركات التي خرجت بشكل كامل شركة “سيمنز” وهي شركة ألمانية وصلت إلى روسيا في القرن التاسع عشر، إذن فهي تملك أكثر من 150 عاما من التعاون مع الروس، وتعد شركة “سيمنز” موردا لأفضل خطوط السكك الحديدية وعربات السكك الحديدية وقطارات الركاب.

توقف صناعة السيارات، حيث تنتج جميع مصانع السيارات في روسيا تقريبا سيارات إما تحت علامة تجارية أجنبية أو باستخدام مكونات أجنبية، ونتيجة لتوقف الطلب على السيارات الروسية توقفت العديد من المصانع عن العمل، أو انتقلت للعمل الجزئي.

كانت الخسائر الأكثر وضوحا في قطاع النقل الجوي، حيث يواجه الطيران المدني الروسي حظرا غير مسبوق، وما يقرب من نصف العالم مغلق أمام رحلات أسطولها، فقد كانت روسيا تؤجر طائراتها لشركات أجنبية، حيث أعادت تلك الشركات الطائرات، وأوقفت شركات التأمين الدولية للطيران عقودها مع روسيا، كما لم يعد مصنعو الطائرات الغربية يقومون بصيانة الطائرات المملوكة لروسيا، ومن المعروف أن شركات الطيران الروسية تعتمد عادة على شركتي “بوينج” و”إيرباص” في تأمين قطع الغيار، لذا فإن روسيا مقبلة على نفاد الأجزاء المتخصصة اللازمة لصيانة طائراتها.

في كانون الثاني/يناير 2022، نقلت الخطوط الجوية الروسية 8.1 مليون مسافر، وفي آذار/مارس نقلت 5.2 مليون فقط، وتم تسريح العديد من الموظفين في المطارات الروسية.

كذلك فقد ارتفعت معدلات البطالة، حيث قال عمدة موسكو مؤخرا إن المدينة تتطلع إلى فقدان 200 ألف وظيفة بعد خروج الشركات الأجنبية وإغلاق عملياتها.

كما أوقفت سلاسل التوريد الدولية إلى حد كبير العمل مع روسيا بعد خروج شركة الحاويات “Maersk” و “UPS” و “DHL” وشركات النقل الأخرى من روسيا.

كذلك فقد تقلص حجم التجارة الروسية بشكل حاد، فمن المتوقع أن تنخفض واردات روسيا من حيث الحجم بنسبة 25 بالمئة تقريبا في عام 2022.

بدون التجارة العالمية، ستبقى المصانع الروسية عاطلة، وستغلق الشركات أبوابها وستبقى الأرفف فارغة. ومنع روسيا من استيراد بعض البضائع من الدول التي فرضت عليها العقوبات أو القيود، قد يؤدي إلى تمزيق قطاعات كاملة في روسيا.

عبر مجموعة من المقاييس التي بحثتها هذه المادة التحليلية، فإن الاقتصاد الروسي في وضع أسوأ مما كان عليه قبل أن توسع روسيا غزوها لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022، ويتوقع “صندوق النقد الدولي” أنه في عام 2022 سينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 8.5 بالمئة، وسيصل التضخم إلى 24 بالمئة، وستتضاعف البطالة لتصل إلى 9.6 بالمئة.

العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا واليابان وغيرها من الدول، هي عقوبات غير مسبوقة من حيث النطاق والتنسيق والسرعة، ويبدو أنها المصدر الشامل للضغط الاقتصادي على روسيا. ومع الزمن سيتوسع التأثير السلبي للعقوبات على الاقتصاد الروسي، ومن الممكن بشكل كبير أن تشهد روسيا انخفاضا كبيرا في اقتصادها على كافة الأصعدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.