شهدت الأسابيع القليلة الماضية سلسلة جرائم متفرقة ضد شابات من المنطقة العربية، في مصر والأردن وسوريا، ابتداء بنيرة أشرف، وما تلاها من جرائم ضد شابات كان أمامهن المستقبل كله، لولا أن مجرمين قرروا إنهاء حياتهن.

ومن المذهل، التبريرات الواردة في التعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول ما يمكن وصفه بـ”حق القاتل بالقتل”، تحت مبررات مختلفة، دينية أولا وذكورية ثانيا، ومتخلفة ثالثا.. إلخ. نعم الأمر بهذا الكم من البشاعة، والبشاعة هنا هي أقل التوصيفات حدّة، والتي يمكن إطلاقها تجاه هذه التعليقات وأصحابها.

اللافت أيضا أن الكثير من التعليقات على سلسلة الجرائم المتتالية، حمّلت السينما والدراما ما لاطاقة لها به، وحمّلتها مسؤولية مباشرة عما وصلت إليه أحوال النساء العربيات مع أزواجهن وعائلاتهن في العالم العربي عموماً، على اعتبار أن “للدراما والأفلام تأثير كبير على الحياة الاجتماعية”، كما يقولون ويصفون.

يجب الوقوف مطولا أمام هذا الاتهام لعدة أسباب سأشرحها في السطور التالية، لكن عليّ أن أؤكد مسبقا أنني لست هنا بصدد الدفاع عن الأعمال الفنية العربية ولا مهاجمتها، بقدر ما أريد نقاش هذا الاتهام الموجه للأعمال العربية، بما فيها السورية حول المساهمة بظلم المرأة، والذي يضاف إلى سلسلة اتهامات طويلة أخرى، ازدادت مع صعود نجم منصات العرض الإلكترونية الأجنبية، والتي توفر بالتالي سهولة أكبر للمشاهدين بالوصول إلى المسلسلات والأفلام الجديدة.

قبل كل شيء، يجب الاعتراف بأن المسلسلات العربية، والسورية والمصرية خصوصا، تحمل كماً كبيرا من التصرفات والألفاظ الذكورية، بل يمكن أن نجد كذلك أحداثا درامية كاملة تُبنى على تصرف لشابة أو امرأة، أو كلمة وتصرف ذكوري من أحد الشخصيات، تحت شعارات “الجدعنة والزكرتية” أو “الرجولية”، وإلى ما هنالك من صفات يمكن بسهولة حشرها بين الأقواس، نعم هذا موجود ويستحق الاتهام المباشر من قبل المدافعين والمدافعات والمؤمنين والمؤمنات بالقضية النسوية، وحق المرأة في أن تكون ببساطة “حرّة”، (طبعا لا تختزل قضية بحجم القضية النسوية بكلمة حرّية، لكن ليس هذا المقال لنقاش هذا الأمر بطبيعة الحال).

أيضا يجب الاعتراف، أن الأعمال الدرامية أو السينمائية التي ناقشت حقوق المرأة ودافعت عنها، (أتحدث هنا في الفترة منذ بداية إنتاج السينما العربية خلال الربع الأول من القرن العشرين، وصولا إلى اليوم)، هي أعمال قليلة ونادرة بالمقارنة بكم الإنتاج على مدى هذه السنوات، والمقدّر بآلاف الأفلام والمسلسلات، بل تكاد تكون معدومة خلال السنوات الماضية، لمرحلة تصل إلى تسمية أي عمل مدافع أو داعم لحقوق المرأة بأنه عمل استثنائي بخرقه للقاعدة، مهما كان العمل سيئا على الصعيد الفني.

هذه النقطة الأخيرة التي أتحدث عنها، تضعنا جميعا، كتاباً ومخرجين ومنتجين ونقاداً ومشاهدين أيضاً، أمام حقيقة واقعة، فلا يمكن الحديث عن عمل سيء بأنه جيد لمجرد أنه يدافع عن قضية ما، وذلك أن هذا العمل، وفي هذه الحالة سيضرّ القضية ولن يفيدها أصلا.

كم فيلماً لدنيا كفيلم “أحلى الأوقات”، أو مسلسل كـ “ليس سراباً”؟ كم عملاً فنياً بالأصل أُنتج خلال سنوات طويلة يدافع عن المرأة ويتحدث عن حقوقها؟ نعم أقل القليل، وأقل كثيراً مما هو مطلوب وواجب وضروري.
إذاً.. فأول المشاكل التي لدينا هي قلّة إنتاج هذا النوع من الأعمال الضرورية كما أسلفت، أما ثاني المشاكل التي يجب الوقوف أمامها والتفكير بها مطولاً هو ما دور الدراما والسينما في هذا الأمر؟

في البداية، فإن الدور الأساسي للسينما والتلفزيون هو الترفيه أولاً وثانياً وثالثاً، عندما دخل الناس للمرة الأولى لمشاهدة أعجوبة الزمان (السينما)، كان الغرض هو الترفيه، ولم يكن للقطار الظاهر على الشاشة في المقهى أن يلعب دوراً أكبر من الترفيه، ويمكن أن نسأل هنا، أي قضية تلك التي يحملها فيلم “أكشن” مثلاً؟ لا شيء!

أنا هنا لا أسخف أو أقلل من دور السينما في حياة الناس، وقدرتها على صناعة التأثير، لكنني أرجع الوظيفة لأصلها، الترفيه هو أصل السينما والمسلسلات، وهذا لا يعني بالطبع أن تخلو من القضايا والرسائل، ولا أعتقد شخصياً أن دورها يجب أن يتوقف على الترفيه، ولكن لنفهم المشكلة علينا العودة إلى الأصل، ولمناقشة الاتهام الموجه للأعمال الفنية علينا أن نعرف ماهيتها ودورها الأصلي، (وللعلم، الترفيه شيء صعب للغاية ولا يمكن الاستهانة به).

مع تطور تقنيات السينما، اتضح لصناع الأفلام إمكانية تضمين رسائلهم وفلسفتهم الخاصة والحديث عن مشاكل الحياة والناس والمجتمعات، لكنهم أدركوا في الوقت نفسه، أن دورهم ليس حل هذه المشاكل، وهذه نقطة هامة للغاية لتوضيح دور الأعمال الفنية في حياة الناس.

ويمكن هنا أن أنتقل لأطرح الأسئلة التالية: هل يمكن أن تلعب السينما والمسلسلات دوراً في حياة الناس أكبر من العلم والقانون؟ ألا تملك السينما والدراما تأثيراً كبيراً على حياة الناس والمجتمعات، وعلى فئة الشباب تحديداً؟. نعم، بالتأكيد تملك تأثيرا كبيرا ولا يمكن إنكاره، لكنها في المقابل لا تملك قوةً أكبر من التعليم والقانون والقناعات الاجتماعية السائدة، ربما تساهم في تغييرها، لكنها ليست أكبر، وأنا هنا لا أنكر لا قوة ولا تأثير سحر السينما، لكنني أتحدث ضمن إطار المنطق.

إن مصدر أكبر مشاكل أي مجتمع هو غياب الأمان، الأمان الاجتماعي والصحي والغذائي، غياب القانون والعدالة بين أفراد المجتمع ومحاباة شرائح وأفراد على حساب الآخرين، وغياب كرامة الأفراد وقدرتهم على الإحساس بالكرامة الإنسانية في بلادهم، وبالتالي غياب القيم الأخلاقية بالضرورة، وهو ما يعني غياب القانون والتوعية بأهميته، سواء عبر إلغاء دور منظمات المجتمع المدني والنقابات، أو تفشي الفساد في أكثر الأماكن حساسية، القضاء، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، غياب التعليم الجيد المالك للقدرة على التأثير وصناعة الوعي بالإنسان ودوره وقدراته، وعدم تدجينه في منظومات ديكتاتورية همها الأول والأخير البقاء على كرسي الحكم مهما تطلب الأمر من إراقة للدماء والتهجير وارتكاب جرائم الحرب!

إن كنا جميعاً، دون استثناء، نعيش في بلاد لا يمكن تسميتها في أفضل أحوالها سوى ببلاد البؤس، ولا تملك منظومة تعليمية وصحية وقانونية جيدة بالحدّ الأدنى، ولا دور لهذه المنظومات جميعها في حياتنا أصلاً، فهل يمكننا أن نقول حينها “نعم الدراما والسينما سبب بجرائم الشرف والقتل بحقّ النساء؟” ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه السينما أو المسلسلات في حياة مجتمعات مصنّفة ضمن قوائم الأسوأ تقريباً؟

ثم.. هل كان المجتمع السوري أو المصري أو المغربي أو التونسي أو الأردني أو العراقي.. إلخ من المجتمعات العربية، مجتمعات مثالية تقدّس المرأة، ونالت فيه الأخيرة جميع حقوقها وما تريده وما تتمناه، ثم جاء عمل كـ”باب الحارة” على سبيل المثال ودمّر كل هذه المكتسبات؟ كم معتز لدينا أو أبو شهاب أو غيرهم من “الأبوات أصحاب الشوارب العريضة” لدينا في سوريا قبل ظهور “باب الحارة” وغيره؟.

هل خلق جميع “عصامات سوريا” (نسبة لعصام ابن أبو عصام في باب الحارة صاحب الإساءة الأكبر للمرأة في العمل) خلقت جميعاً من العدم، وصحونا فجأة لنجدها بين ظهرانينا تعبث بقيمنا الرفيعة التي يسعى كل مجتمع طامح للتقدم والرفاه والرقي الإنساني لتقليدها؟ ألم تقتل زهرة العزو على يد شقيقها وهي في عمر 16 عاماً في عام 2007؟ قبل أن يحظى باب الحارة وأشباهه بهذا الكم من الشهرة؟

لا أدافع قطعاً عن باب الحارة، بل يمكنني استخراج مئات الأفكار المسيئة لسوريا كلها بين سطور سيناريوهات أجزاءه، نعم هو عمل مسيء بحسب رأيي الشخصي لسوريا وللسوريين وللمرأة كذلك، لكنني لا أبتغي سوى طرح سؤال واحد: ماذا تفعل الدراما والأفلام أمام كم العقد الاجتماعية في مجتمعنا؟ ماذا تفعل أمام قوانين أحوال شخصية قاسية بحق المرأة والطفل؟ ماذا تفعل أمام جحافل الشيوخ اللاعبين على العواطف الدينية كارهي المرأة وصوتها وحضورها؟ ماذا تفعل أمام منظومات مهترئة عفا عليها الزمن؟

الإجابة بسيطة: تحاول إصلاحها وطرح مشاكلها، وتلغي من الذكورية في خطابها وأحداثها وتضعها في إطارها الصحيح درامياً، وتمنح الفرصة لأصوات مختلفة تكسر التابوهات من مخرجين وكُتّاب، وتقاتل لأجل قضايا، نعم يمكنها ذلك، إلى جانب “العلم والقانون” كما قال “ميشيل” في مسلسل “ليس سراباً”، وتناضل إلى جانب المجتمع المدني وقواه والنقابات المختلفة.

لكنها لا تتحمل وحدها مسؤولية فشلنا وعجزنا وعُقدنا وضعفنا ولا شماعات أخطائنا التي نلجأ إليها لدى كل فشل ذريع!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.