“بابا ايمتى رح نشتري شنطة؟”، لا يبدو الجواب على هذا السؤال لدى أي أب غير سوري صعبا، بل ربما لا يحتاج إلى ثوانٍ ليعد ابنه المتلهف إلى العودة إلى المدرسة بسرعة شرائها، إلا أن محمد الذي يعيش على بُعد مئات الأمتار من ساحة المرجة، الساحة العريقة التي تتوسط مدينة دمشق السورية، يشعر وكأن السماء قد انطبقت على الأرض، عندما يكرر ابنه علاء ذو الستة أعوام هذه الجملة على مسامعه يوميا.

قد يبدو المشهد دراميا لوهلة، ولكن في سوريا التي بات أكثر من 90 بالمئة من سكانها تحت خط الفقر المدقع بحسب إحصائيات الأمم المتحدة، تكاد هذه الصورة تتكرر في أغلب بيوت السوريين، لا سيما وأن دخل المواطن العادي لا يتعدى في أحسن الأحوال 300 ألف ليرة سورية (ما يعادل 60 دولار أميركي)، بينما الحد الأدنى يتراوح بنحو 38 ألف ليرة في الشهر (ما يعادل 8 دولار أميركي)، وفي الحالتين لا يكفي هذا المبلغ لشراء الاحتياجات الأساسية للمنزل.

قبل بدء الفصل الدراسي الجديد في سوريا والذي يبدأ في أيلول/سبتمبر المقبل، مؤسسة المطبوعات باغتت السوريين بأسعار كاوية جديدة، حيث وصل سعر نسخة الكتب لطلاب البكالوريا مثلا للعام الدراسي 2022-2023 إلى نحو 50 ألف ليرة، أي ما يعادل نصف راتب شهري للكثير من العاملين في الدولة.

الحقيبة ليست المشكلة

“أنزوي في زاوية الغرفة، وأذرف دموعي دون أن أسمع أولادي، وأناجي الله، بكلمة فرجك يارب”، تجسد هذه الكلمة حالة محمد عرابي النازح من ريف حلب إلى دمشق، حيث يعمل في مطعم لبيع المأكولات الجاهزة، وراتبه لا يتجاوز 250 ألف ليرة شهريا، يقسمها بين مأكل أولاده الأربعة وإيجار بيته، ودواء لزوجته التي تعاني من مرض مزمن في الجهاز التنفسي.

معاناة السوريين داخل البلاد خاصة من ذوي الدخل المحدود، تزداد مع اقتراب العام الدراسي الجديد، فارتفاع الأسعار الكبير شمل المستلزمات المدرسية كالقرطاسية والحقائب وغيرها، فبحسب ما رصده “الحل نت”، فإن سعر الحقيبة المدرسية يتراوح بين 50 و60 ألف ليرة، والقميص من نوع نايلون 25 ألف ليرة بسعر الجملة، ومن النوع الأفضل بـ 40 ألف ليرة، كما بلغ سعر دزينة دفاتر سلك 70 طبق 20 ألف ليرة، ودزينة أقلام رصاص ماركة عادية 5000 ليرة، ودزينة ألوان خشبية 10500 ليرة سورية، ومقلمة قياس وسط 5700 ليرة، ومطرة مياه 10 آلاف ليرة.

وبعملية حسابية سريعة، يحتاج الطفل في الصف الأول، إلى حوالي 130 ألف ليرة سورية كمعدات لوجستية لدخول المدرسة الحكومية التي لا تتقاضى أجورا شهرية على تعليم الأطفال، ولكن تشوبها الكثير من المشاكل من نوعية وجودة التعليم، والاهتمام بالأطفال، وتوافر الكوادر التعليمية.

يقول محمد، لـ”الحل نت”، مع قرار وزارة التربية توزيع الأقساط وفق النقاط للمدارس، ورياض الأطفال الخاصة، دخل الناس في دوامة الأسعار غير المفهومة، واختيار المدرسة وفق السمعة وعلى التجريب، والكثير من الطلاب تحولوا من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية.

أقساط المدارس الخاصة التي يسعى الناس لتسجيل أطفالهم بها طمعا في أن يتلقوا تعليما صحيحا، وصلت إلى 5 مليون ليرة سورية هذا العام، حيث ارتفاع قسط التعليم في المدارس الخاصة، من 2 إلى 5 ملايين ليرة وسطيا، وقسط رياض الأطفال من 600 ألف إلى أكثر من 1.5 مليون ليرة، في حين أن فاتورة شراء مستلزمات المدرسة تبدأ من 500 ألف ليرة سورية.

قسمة غير عادلة

لم يستغرب إبراهيم الأيوبي‏، أستاذ الرياضيات في مدرسة “الخنساء” بدمشق، حديث عرابي، حيث أشار إلى أن قطاع التعليم في سوريا انتقل منذ سنوات من المجاني إلى المدفوع، و”لا يعني ذلك أن جودة التعليم زادت، بل انتقل قطاع التعليم من المتهالك إلى المعدوم”.

المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية، حدد أسعار الكتب المدرسية للسنة الدراسية 2022/2023، حيث رفع أسعار الكتب المدرسية لمرحلة التعليم الثانوي والمهني، وفاقت أسعارها نصف الحد الأدنى لرواتب للموظفين (تقدر بنحو 92 ألف ليرة سورية).

نشرة أسعار الكتب لمرحلة التعليم الأساسي، ورغم مزاعم تقديمها مجانا في المدارس فقد وصل سعر نسخة الصف السابع منها إلى 58400 ليرة سورية، فيما بلغ سعر نسخة الصف الثامن 52200 ليرة والصف التاسع 57500 ليرة.

وأما كتب المرحلة الثانوية، فقد بلغ سعر نسخة الصف العاشر منها إلى 48300 ليرة والصف الحادي عشر 54800 ليرة والبكالوريا 49800 ليرة سورية، في حين برر المدير العام للمركز علي عبود، في تصريحات نقلها موقع “أثر برس” المحلي الأسبوع الفائت، إن رفع أسعار الكتب هذا العام جاء “لكي يحافظ الطالب عليها، ويكون لها قيمة علمية“، حسب قوله.

وبالعودة إلى عرابي، فإن هذه التكاليف تفوق استطاعته آلاف المرات، حتى لو استطاع الحصول على القرض الذي حددته المؤسسة السورية للتجارة، من أجل شراء المستلزمات الدراسية بالتقسيط، حيث حددت المؤسسة فقط 500 ألف ليرة لكل رب أسرة كقرض لتقسيط لوازم أولاده المدرسية.

ووفق ما نشرته المؤسسة، فمن الضروري حصول مقدم الطلب على استمارة التقسيط من صالة المؤسسة، وكتابة بيانات الاستمارة من قبل محاسب الإدارة في مكان عمل الراغب بالتقسيط، وبيان بالراتب، وعليه مراجعة فرع المؤسسة في المحافظة التابعة للصالة لتوقيع الاستمارة، أخذ الاستمارة الموقعة إلى الصالة واختيار المواد المطلوبة.

وخلال السؤال عن الحلول المتاحة أمام عرابي، وفي لحظة سريعة قال علاء مستغلا حديث أبيه مع “الحل نت”، “بابا رح يطلع رفيدة ومحمد من المدرسة، مشان أنا ووليد ندرس”، وهنا أفشى عرابي هذا السر، حيث فضل هذه القسمة على أن يترك جميع أبنائه بلا تعليم.

ماذا بقي من التعليم؟

لا ينقص السوريين المزيد من أخبار رفع الأسعار، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمستقبل أبناءهم، يواجه التعليم في سوريا العديد من العوائق، فقد أكد مركز “حقوق الطفل العالمي”، في نهاية عام 2021، أن النزاع في سوريا أثر سلبا على جميع جوانب حياة الأطفال السوريين. بما في ذلك تعليمهم. حيث أصيب التعليم في سوريا بالشلل بسبب تضرر المدارس، أو تدميرها. وقتل أو جرح أطفال ومعلمون أجبر بعض منهم على الفرار، فضلا عن تغيير المناهج الدراسية لملايين الأطفال.

وبحسب منظمات دولية، فإن هناك نحو 2.5 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عاما – ثلث السكان في سن الدراسة – خارج المدرسة. وهم غير قادرين على ممارسة حقهم الأساسي في التعليم على النحو المنصوص عليه في اتفاقية حقوق الطفل عام 1989.

يقول الأيوبي لـ”الحل نت”، إن تدهور جودة التعليم الحكومي بظل الأوضاع الصعبة للكوادر التدريسية وتسرب الطلاب بسبب الأوضاع المعيشية والاجتماعية بات أمرا اعتياديا، ففي دمشق وفي مشهد غير مألوف، ظهرت صور لطلاب مدارس يتعلقون بسيارة نقل القمامة للوصول إلى وجهتهم.

الأيوبي أكد أنه بعد انهيار منظومة التعليم الحكومية وانعدام الكوادر فيها، فإن التعليم الخاص، دخل مرحلة متقدمة من الاستغلال والممارسات التي تضرّ بسمعة ومكانة وقيمة المُعلّم والذي بات سلعة ضمن بورصة المدارس والمعاهد الخاصة المرخصة وغير المرخصة لترغيب الأهالي والطلاب من كافة المراحل الدراسية، مقابل مبالغ مالية وتسعيرة شهدت خلال هذه الفترة التحضيرية لشهادتي الثانوي والتعليم الأساسي ارتفاعا كبيرا وبصورة غير مألوفة.

بحسب تقرير سابق لـ“الحل نت“، تداول مجلس الوزراء في شباط/فبراير الماضي، موضوع ما أسماه الدعم الحكومي لقطاع التربية، حيث تم بحث دعم الحكومة لقطاع التعليم والمليارات التي تتكبدها عليه، حيث أن أكثر من 3.6 ملايين تلميذ، وطالب يتلقون التعليم المجاني في مدارس، ومعاهد وزارة التربية بمختلف المحافظات، موزعين على 13660 روضة ومدرسة ومعهدا.

بيان مجلس الوزراء في ذلك الوقت، جاء بعد يوم واحد على قرار رفع الدعم، ما أثار العديد من المخاوف من رفع الدعم عن قطاع التعليم الحكومي، وفي هذا السياق، توقع خبراء وحقوقيون، أن يكون بيان مجلس الوزراء، هو أحد احتمالين، إما التمهيد لرفع الدعم عن هذا القطاع بطريقة ما، كأن يصبح ثمن الكتاب المدرسي والجامعي فلكيا، أو التمهيد لفرض رسوم دراسية باهظة على أبناء الفئات التي رفع عنها الدعم الحكومي.

يبدو أن الطفل علاء سيحظى هذا العام بفرصة ليدخل المدرسة، إلا أن ذلك كان على حساب أخيه وأخته اللذين وصلا إلى نهاية المرحلة الأساسية، وهذا يثبت من دون شك أن قطاع التعليم في سوريا يعاني من تدهور كبير على صعيد المستوى التعليمي الحكومي بعد هجرة الكثير من الكوادر، ما جعل من التعليم الخاص ابتداء من الروضة وحتى الجامعة بديلا عنه، لكنه في الوقت ذاته، يعتبر بديلا مرهق على الصعيد المالي، وهو الأمر الذي جعله يبدو أقرب إلى التجارة منه إلى التعليم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.