تتحضر العلاقات بين أنقرة ودمشق لمرحلة جديدة، تختلف عما كانت عليه طوال العقد الماضي. ويمكن أن نشهد، على المدى المتوسط، اتفاق مصالحة بين الطرفين، بدفع من روسيا، إذ سيتم استبدال خارطة الطريق الدولية المتفق عليها في جنيف بتفاهمات أستانة، ما يعني أن المعارضة أيضا مقبلة على مرحلة حاسمة، قد تقضي على شقها السياسي، مقابل احتفاظ أنقرة بإدارة التشكيلات العسكرية المتمركزة في إدلب وشمالي حلب.

وكان من آخر التصريحات التركية، حول موقف أنقرة من دمشق، تأكيد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنه “ليس لدى تركيا أي أطماع في أراضي سوريا”، مشيراً الى أنه “ليست لدينا مشكلة في هزيمة الأسد أم لا”.

ولفت أردوغان، في تصريحات إلى الصحافيين على متن الطائرة، خلال عودته من زيارته لأوكرانيا، إلى أنه “يتوجب الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا، يمكننا من خلالها إفساد عديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي”، مؤكدا التزام بلاده بوحدة الأراضي السورية.

وأشار أردوغان، إلى أنه “ناقش مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الأمور أيضا، خلال زيارته إلى سوتشي”. وقال: “آمل أن يتم وضع دستور في الفترة المقبلة في سوريا بأقرب وقت ممكن، وسيتم تأمين ذلك واتخاذ خطوات لحل جميع المشاكل”.

وكان حياتي يازجي، نائب رئيس حزب “العدالة والتنمية”، أشار، خلال تصريحات لصحيفة “خبر غلوبال”، إلى أن “العلاقات غير المباشرة مع دمشق قد تصبح مباشرة، بالتزامن مع زيادة المناخ الملائم في المستقبل”.

وأضاف: “ثمة عديد من الجوانب لحلّ المشكلات، إلا أن الحوار يبقى الجانب الأهم لحل المشكلات بالعلاقات الدولية”، مشيرا إلى أن “الحوار مع دمشق أخذ طابعا غير مباشر خلال الفترة الماضية، لكن عند مستوىً محدد للغاية”.

وتابع، أن هذا المستوى “ارتفع اليوم بعض الشيء، والمناخ الذي سيتشكل بارتفاعه المستقبلي سيسهم أكثر في الخروج من هذا المستنقع القائم في سوريا، منذ أحد عشر عاما”.

وصدر أول تصريح صادم، يخص المصالحة بين دمشق والمعارضة، عن وزير الخارجية التركية، مولود تشاووش أوغلو، الذي أكد أنه “يجب المصالحة بين النظام السوري والمعارضة، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم في سوريا”.

وكشف، أنه تحادث مع وزير الخارجية في حكومة دمشق فيصل المقداد، في أول لقاء من نوعه منذ بداية الاحتجاجات السورية في العام 2011، وقال: “أجريت محادثة قصيرة مع المقداد، على هامش اجتماع دول عدم الانحياز في العاصمة الصربية بلغراد، في نهاية العام الماضي”.

وأضاف، أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمسؤولين الروس قالوا لنا منذ فترة طويلة: (دعونا نصلكم بالنظام). كان هناك لقاء بين أجهزة المخابرات لفترة. الآن عادت الاجتماعات مرة أخرى. وتتم مناقشة قضايا مهمة في هذه الاجتماعات”. وتابع: “لقد أرادوا (الروس) أن يلتقي الأسد ورئيسنا أردوغان، إلا أن رئيسنا قال إن الاجتماع بين أجهزة المخابرات فقط سيكون مفيدا”.

هل تمهّد التصريحات التركية لعودة العلاقات؟

نقل موقع “المونيتور”، عن مصادر تركية مطلعة، أن “الجهود المبذولة في تركيا للتعامل مع دمشق، تتم بقوة متجددة وبدعم من الكرملين”. وزعم أحد المصادر أن “إيران وروسيا وقطر والإمارات العربية المتحدة، كلها جزء من هذه المحادثات”.

ويضيف الموقع، أن “هناك عوامل متعددة، تجعل المصالحة مع الأسد جذابة بشكل متزايد”. مرجّحا، أن “أردوغان يأمل لعب نفس الورقة التي تستخدمها المعارضة التركية، التي تقول إنه بمجرد وصولها إلى السلطة سوف تعيد السوريين إلى بلادهم، ومن ثم فإن التطبيع مع الأسد أمر لا مفر منه”.

ويفسّر الكاتب والمحلل السياسي، فراس علاوي، خلال حديثه لـ”الحل نت”، تصريحات المسؤولين الأتراك، حول عودة العلاقات مع دمشق، بكونها “تمهيدا لمرحلة سياسية قادمة، بعد قمة طهران، التي أعلنت بشكل شبه كامل انتهاء المرحلة الأولى لتفاهمات أستانة، والتي كان الهدف منها إبعاد الملف السوري عن جنيف، وإخضاعه للرؤية التركية – الإيرانية – الروسية. وبالتالي، دعم تدخل هذه الدول، وإضفاء طابع للحل السياسي، انطلاقا من رؤيتها لهذا الحل”.


ويربط علاوي، بين المتغيرات الإقليمية، مثل الحرب الأوكرانية، والانكفاء الأميركي، والتدخل الروسي المباشر في سوريا اقتصاديا، والعلاقات الروسية – التركية، والعلاقات الأميركية – التركية، وبين الموقف التركي “الخاضع لبراغماتية معينة في تعاطيه مع الشأن السوري، والذي يتضمن عدم إطلاق عمليات عسكرية في المنطقة، إلا بما بخدم إبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود السورية- التركية. وأساسا انخرطت تركيا ضمن الملف السوري لتحقيق أهدافها المتمثلة بتطوير اتفاق أضنة وإبعاد قسد عن الحدود”.

ويرى علاوي، أن “هدف تركيا منذ تدخلها في سوريا لم يكن إسقاط الحكومة في دمشق، وقد كان التدخل ضمن نطاقها الحيوي الإقليمي، وحاولت إيجاد قوى مؤيدة لها من أجل تحقيق تطلعاتها”. ويعتقد أن “هناك متغيرات تطال العلاقات المجمدة بين دمشق وأنقرة، ستحدث لكنها ستكون بطيئة نوعا ما، وذلك بسبب ردة فعل قوى المعارضة. وتصريح وزير الخارجية التركي، كان اختبار نوايا. كما تختبر تركيا ردة فعل دمشق، التي ستضع شروطا، على اعتبار أن ما يجري الآن ناجم عن ضغط روسي على تركيا”.

 ويتابع، بأن “روسيا تضغط بكل الاتجاهات، من أجل إعادة تعويم حكومة دمشق، وخلق حالة سياسية جديدة تخدم مصالحها في المنطقة، وتضغط على المصالح الأميركية، على اعتبار ذلك نوعا من توزيع الصراع الدولي بين الطرفين على مناطق جغرافية متعددة، لتخفيف الضغط عليها في أوكرانيا. لذلك سنرى تبدّلا في العلاقات بين دمشق وأنقرة، لكن ذلك سيكون بطيئا”.

محمد طاهر أوغلو، الصحفي المختص بالشأن التركي، يرى أن “التصريحات التركية، أو ما يمكن أن نطلق عليه اللهجة الطارئة لتركيا، لا تتسق مع النَفَس السياسي، الذي تعودنا عليه منها فيما يتعلق بحكومة دمشق، التي طالما اعتبرها الأتراك غير شرعية”.

ويضيف، في حديثه لـ”الحل نت”، أن “الدافع وراء هذه التصريحات آني. بمعنى أنها مرتبطة بالمرحلة الحالية، وباستعدادات تركيا لعملية عسكرية شرقي الفرات. والغاية منه حث دمشق على شن عمليات عسكرية ضد قسد. ولا ترى أنقرة مشكلة في مثل هذا التعاون، طالما أن هناك مصلحة مشتركة بين الطرفين، في ضرب قسد والإدارة الذاتية”.

وبالتأسيس على ما سبق، يستبعد “حدوث أي تغيير في العلاقات بين أنقرة ودمشق خلال الفترة المقبلة، خصوصا مسألة إجراء مكالمة هاتفية بين الأسد وأردوغان، كون ذلك لن يجري بدون تمهيد وقواعد مشتركة، يمكن أن يبنى عليها هذا الاتصال. فضلا عن كون مثل هذه المكالمة بمثابة سقطة للدبلوماسية التركية، التي تعتبر الأسد قاتلا وظالما. لكن استبعاد حدوث تواصل مباشر بين الأسد، وأردوغان لا يلغي إمكانية التعاون العسكري بين البلدين ضد قوات سوريا الديمقراطية. لأن هذه القضية تمس الأمن القومي التركي”.

ما فرصة قيام تحالف إقليمي يضم دمشق وأنقرة؟

إذا عادت العلاقات بين أنقرة ودمشق فهذا يعني مساعدة الأخيرة لتركيا في ملف شرقي الفرات، فهل يمكن أن نشهد قيام حلف إقليمي جديد، يضم كلا من دمشق وأنقرة وموسكو وطهران، وظيفته شن عمليات عسكرية مشتركة ضد قوات سوريا الديمقراطية؟

يستبعد فراس علاوي، قيام مثل هذا الحلف، لأن “الكُرد ورقة يتم استخدامها من قبل كل دولة لتحقيق مصالحها، فالملف لا يحتاج إلى حلف إقليمي. ربما يحتاج إلى تفاهمات سياسية بين هذه الدول. ولن يورّط الروس أنفسهم بعداء الكرد، إذ يمكن أن يصبحوا ورقة روسية في المستقبل، في حال حدث انسحاب أميركي من سوريا”.

ويتفق محمد طاهر أوغلو، مع هذه القراءة، معتبرا أن “مثل هذا الحلف غير وارد بكل تأكيد، نظرا لأن تحييد قسد، ليس ضمن استراتيجية كل من روسيا وإيران. حتى وإن كانت قسد تقع ضمن الأهداف الاستراتيجية التركية. وبالتالي يمكن لدمشق أن تتفاهم مع أنقرة، لكن لن يصل هذا التفاهم إلى درجة تحالف رسمي إقليمي”.

ما مصير المعارضة إذا عادت العلاقات بين أنقرة ودمشق؟

بحسب تقرير تحليلي، نشر في موقع “دي دبليو” الألماني، فإن “من شأن تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق أن يشكّل نقلة نوعية للحكومة السورية، التي تم حظرها دوليا إلى حد كبير لسنوات. خاصة وأن في العالم العربي حاليا أصوات متزايدة، تقول إن الوقت قد حان للتخلي عن المقاطعة السياسية للأسد. ومن بين الداعين لهذه الخطوة الإمارات العربية المتحدة وروسيا بوتين. وستستفيد موسكو على وجه الخصوص من الانفتاح السياسي لسوريا، التابعة لسياساتها في الشرق الأوسط”.

ويعتبر التقرير، أن “التوازن بين أنقرة ودمشق يفترض وجود تصحيحات جذرية للمسارات الدبلوماسية لكلا البلدين. وبالنسبة للأسد، فإن انسحاب القوات التركية من شمال البلاد، فضلا عن إنهاء الدعم التركي للتنظيمات العسكرية وشبه العسكرية، يعدّ تغيرا كبيرا. وفي الوقت نفسه، تصر أنقرة على حل مناطق الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا، المدعومة من الجماعات الكردية، وفتح المناطق الحدودية أمام التوطين الجماعي للاجئين السوريين القادمين من تركيا”.

ويعتقد محمد طاهر أوغلو، أن “عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة حاليا غير واردة. لكن في حال أقدم الأسد على تطبيق شروط أنقرة، يمكن أن نشهد عودة بعض الدفء بين الطرفين”. ويضيف بأنه “لا يرجّح أن تفرّط أنقرة بمناطق المعارضة، التي تشرف عليها، لاسيما وأنها متاخمة لحدودها، وأي تفريط في هذه القضية، يمكن أن يؤثر على استراتيجية تركيا، التي تقوم على حفظ مصالح الأمن القومي. كما أن موجات هجرة السوريين من إدلب وريف حلب واردة، في حال تمددت قوات دمشق نحوها. أما في حال تم التوصل إلى حل سياسي ما، سواء كان مصالحة أو اتفاق، فيمكن أن يصبح مصير هذه المناطق مرهونا ببنود المصالحة”.

أما فراس علاوي، فيتحدث عن “ارتهان مصير المعارضة السورية بشقها السياسي لأنقرة، وتبدلات الدبلوماسية التركية”. مؤكدا أن “مشروعها سيسقط في النهاية، كونه محكوما بتبدلات الدولة الداعمة. ومن يرفض الذهاب باتجاه الحكومة السورية، في حال جرت مصالحة أنقرة بدمشق، سيتم عزله. وهناك شخصيات معارضة عديدة ستقبل بهذه المصالحة، وسوف تفسر ذلك بتطبيق القرار 2254، الذي ينص، وفقا للتفسير الروسي، على مشاركة المعارضة بالحكومة”.

وبالنسبة لمصير التشكيلات العسكرية للمعارضة، يرى علاوي، أنها “ستبقى متمركزة على الأرض، لكن وفق تفاهمات بين أنقرة ودمشق”. قائلا: “نعم، تركيا لن تفرط بمناطق المعارضة ولا بفصائلها العسكرية. ربما سيتم تجريد هذه الفصائل من بعض الأسلحة، وإعادة توزيعها من جديد، بتحويلها مثلا إلى شرطة مدنية أو هجّانة. لكن لن يتم إنهاؤها، كونها تمثل صمام أمان للأمن القومي التركي، وما حدث من تدخل تركي، هو لضمان هذه المسألة. والسيناريو المرجّح، في حال تم الاتفاق بين أنقرة ودمشق، وهو أمر غير مستبعد على المدى المتوسط، يتمثل بدخول المؤسسات المدنية لحكومة دمشق إلى مناطق المعارضة، مع بقاء السيطرة التركية وتشكيلات المعارضة، التي سيعاد توزيعها بشكل يشبه الوضع في قطاع غزة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.