منذ العام 2003 وحتى اليوم، بات الدستور العراقي الذي صوّت عليه العراقيون في استفتاء شعبي عام 2005 أحد أكبر العقبات التي تواجه البلاد بعد أن كان مطلبا شعبيا يعقد المواطنون أملهم به للانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة تلبي طموحاتهم ما بعد سقوط نظام صدام حسين.

غير أن العراق وفي الظل الدستور الجديد ظل يعيش مرحلة انتقالية طيلة السنوات الـ 19 الماضي، في وقت كان العراقيين يمنون النفس بتجاوزها من خلال عقد اجتماعي جديد بمعية دستور يراعي تطلعاتهم، لتتحول البلاد من سيء إلى اسوأ لما عصفت بها من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية كان الخلاف حول الدستور أبرز مسبباتها.

منذ ذلك الحين، وعلى الرغم من استمرار الدعوات الشعبية والسياسية إلى تعديل الدستور العراقي الذي يفترض قد أدى دوره لفترة انتقالية حرجة، وحتى اندلاع احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019 التي اجتاحت البلاد، وأطاحت بحكومة عادل عبد المهدي، بعد سقوط نحو 700 قتيل وآلاف الجرحى، وكان أحد أبرز شعاراتها تعديل الدستور، بقي المشرعون العرقيون عاجزون عن إيجاد مخرجا لتعديلات جوهرية للمواد الخلافية التي تضمنها.

عجز أدى إلى غياب الدستور وتعطيله في أكثر من مرة، نتيجة عدم اتفاق القوى السياسية على إصلاحات لا بد منها، وعلى ذلك الوقع، صار اختراقه واحترامه مسألة مصالح شخصية، ويعجز أمامها القضاء عن استخدم صلاحياته إلى أبعد من الدعوة لتعديلات يصفها بالضرورية.

تعديلات يمكن أن تحفظ للدستور مقامه وتبعد البلاد والمواطنين عن صراعات سياسية تدفع بهم في كل انتخابات إلى هوة سحيقة لا يرتد منها صوت ولا يوجد فيها للظلام حد، وكل ما ينزلق إليها يفجع.

نسخة من الدستور العراقي النافذ

اقرأ/ي أيضا: العراق بين الانفجار والانفراج.. هل يتجدد الاحتجاج؟

معضلة الدستور العراقي

المواد الخلافية في الدستور العراقي لا تنحصر بنطاق ضيق، وبعض النظر عن ذلك، بقي تفسير “الكتلة الأكبر” التي تفوز في الانتخابات وأحقيتها في تشكيل الحكومة، هو الخلاف الأبرز، ومخاض عسير لكل الحكومات المتعاقبة ما بعد النظام السابق، التي طالما عجز الدستور في ضمان سلامة ولاداتها، وبقيت التوافقات ما بين القوى السياسية هي المخرج الوحيد للمضي بتشكيلها، لتتسيد المحاصصة مشهد سوء الإدارة والفساد وضمنها الاقتتال أيضا.

قضية “الكتلة الأكبر” صارت محور الصراعات ما بين التحالفات السياسية، والاختلاف على تشكيل الحكومة، لتجعل من الدستور هامشا، لا سيما مع ما يفرضه في تشكيل الحكومات، أن يتم عقد جلسة نيابية لانتخاب رئيسا للجمهورية خلال مدة لا تزيد عن 30 يوما من انتهاء الانتخابات.

أهمية انتخاب رئيس الجمهورية تكمن في تكليفه مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة، إلا أنه ومع عدم اتفاق الكتل السياسية حول تشكيل الحكومات المتعاقبة بدأت البلاد رحلة من الخروقات الدستورية التي لم تنتهي حتى لحظة إعداد هذا التقرير، وبدأت منذ العام 2010.

اضطر حينها البلاد الدخول في مرحلة تعطيل دستوري نتيجة رفض رئيس الوزراء وقتئذ نوري المالكي، القبول بخسارة الانتخابات أمام منافسه زعيم “القائمة العراقية” وأول رئيس حكومة للعراق بعد 2003 إياد علاوي، الذي فازت كتلته بـ 91 مقعدا، متفوقة بمقعدين على “ائتلاف دولة القانون” بزعامة المالكي.

تمسك المالكي بالمنصب، وانصياع القضاء لرغباته أسس إلى تاريخ حافل بالخروقات، ابتدأ من ذلك الحين عندما استغرق تشكيل الحكومة 8 أشهر من أزمة عطلت البلاد، وبعد أن فسرت “المحكمة الاتحادية العليا” أعلى سلطة قضائية في البلاد، ماهية الكتلة النيابية الأكبر.

لجنة كتابة الدستور العراقي

اقرأ/ي أيضا: علي مملوك يلتقي رئيس المخابرات التركية في دمشق.. ماذا بعد ذلك؟

دستور عراقي عصي على الفهم

تفسير المحكمة الاتحادية المعنية بالفصل في الخلافات الدستورية، قال، هي الكتلة التي تتشكل من خلال التحالفات بعد إعلان نتائج الانتخابات، وليست الفائزة في الانتخابات، بتجاوز صريح على الدستور، ما ممكن المالكي الذي كان يتهم بقربه من رئيس المحكمة الاتحادية متحت المحمود من الاستمرار لولاية ثانية.

بعد انتهاء ولاية المالكي الثانية الذي طالما كان يتهم في إرساء الطائفية، ودعم الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، والذي أدخلت فترة حكمه العراق في فوضى ابتدأت من محاولاته القضاء على الإرهاب، وصولا إلى الاغتيالات والاعتقالات التعسفية بحق منافسيه من السنة، وإلى سقوط ثلث البلاد في قبضة “داعش”، ومحاولاته البقاء لولاية ثالثة رغم عدم سماح الدستور بذلك، استبشرت القوى السياسية والعراقيين في مرحلة جديد.

إذ سجل أقصر فترة بين الانتخابات وتشكيل الحكومة العراقية في عام 2014، حيث جرت الانتخابات التشريعية في 30 نيسان/أبريل من ذات العام، وتشكلت الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي في 11 آب/أغسطس من العام نفسه أيضا، أي بعد 3 أشهر و11 يوما.

تشكيل حكومة العبادي جرى بعد جولة من الصراع السياسي الذي تسببت به محاولات المالكي الذي فاز حزبه وقتها في الانتخابات أولا، في البقاء بالمنصب لدورة ثالثة، وهذا ما لم تسمح به عدد من القوى السياسية التي ادعت دفاعها عن الدستور، الذي لا يسمح لتولي أي شخصية منصب الرئاسة لأكثر من ولايتين.

إرهاصات تسبب بها عناد المالكي، وانعكست على الجانب الأمني في البلاد الذي استغله تنظيم “داعش” في فرض سيطرته على محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وأجزاء من ديالى وكركوك وأطراف بغداد.

مرحلة ورغم صعوبتها، لكنها مثلة نوعا من اليسر السياسي الذي لم يدم طويلا، بعد أن عادت القوى السياسية لخرق الدستور مجددا ما بعد انتخابات العام 2018، ولذات السبب أيضا، الذي يتمثل بأحقية تشكيل الحكومة، ليستمر التعطيل الدستوري وقتها في البلاد 5 أشهر، قبل الاتفاق حول عادل عبد المهدي كمرشح تسوية.

ممثل المرجع الأعلى علي السيستاني أثناء التصويت على مسودة الدستور العراقي عام 2005

خرق دستوري قياسي

حكومة عبد المهدي لم تستمر سوى عام واحد قبل استقالاتها بضغط من الجماهير الغاضبة حينها، ليدخل العراق هذه المرة فراغ دستوري هو الأطول في تاريخه، قبل أن يبقى من دون حكومة نحو 5 أشهر، اختير بعدها رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي رئيسا لمرحلة انتقالية يتم خلالها إجراء انتخابات مبكرة.

أجريت الانتخابات في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر الماضي وانتهت بإشادة دولية ومحلية، لكن رغم ذلك الخرق الدستوري لا يزال حاضرا حتى يومنا هذا، مسجلا رقما قياسيا امتد لنحو عام، بسبب عدم الاتفاق حول تشكيل الحكومة وتدافع القوى السياسية حول أحقيتها في ذلك، ليبقى السؤال الأبرز هو: لماذا تمتنع القوى السياسية عن التعديلات الدستورية وهي ترى تضرر مصالحها والبلاد من استمرارها على حالها؟

في غضون ذلك، يتفق معظم الخبراء ومعهم الكثير من السياسيين على أن الأزمة السياسية والخروقات سيتكرران مع كل انتخابات جديدة، ما لم يتم إجراء تعديلات على الدستور، تكون واضحة ولا تترك فرصة لتفسيرها من قبل القضاء.

أهم التعديلات، تحديد الكتلة الأكبر، الفائزة في الانتخابات ومنع التحالفات بعد الانتخابات، وجعل حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وفق أغلبية النصف + واحد، حينها ستنتهي الأزمة ولن تتكرر تلك الخروقات الدستورية بعد الانتخابات، بحسبهم.

وسط تلك الخروقات، ما يستحق الإشارة إليه أيضا، أن مشكلة تعطل تشكيل الحكومات، والخروقات الدستورية التي تعيشها البلاد، نتيجة الخلاف المستمر بين القوى السياسية حول من هي “الكتلة الأكبر”؟، والتي زاد من تداعياتها، تفسير المحكمة الاتحادية، هي قضية الوزرات أيضا.

لجنة التعديلات الدستورية في البرلمان العراقي

إذ أن التفسير الذي دفع القوى السياسية للعمل بالتحالفات الوقتية التي يمكنها من خلالها تشكيل الحكومة ضمن مصالح ضيقة، وترجيح كفة على أخرى وفق مصالح شخصية، جعل الوضع ينسحب على الكابينات الوزارية هي الأخرى التي استغرق بعضها سنوات لتشكيلها.

جدير بالذكر، أنه ووفق العرف السياسي ما بعد 2003، فأن منصب رئاسة الحكومة هو من حق الشيعة، فيما يمنح منصب رئاسة الجمهورية إلى الكرد، مقابل منصب رئاسة البرلمان إلى المكون السني.

اقرأ/ي أيضا: “حماس” تُعيد علاقاتها مع دمشق رسمياً.. ما الذي يحصل؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.