“وين چنّا ووين صرنا. بصرتنا بلاية نخلها”. قد تبدو تلك العبارة جزء من مشهد تمثيلي للقارئ، لكنها باتت حقيقة مرة. فـ “بصرة الصامدين نخيلا”، كما وصفتها الشاعرة العراقية الراحلة، لميعة عباس عمارة، بلا نخيل اليوم.

“كل عيشتي عالنخل والتمر، وبليّاهن آنه ميّت بنص هاي الدنيا اليوم”. بتلك الجملة المقتضبة، يصف الرجل الخمسيني، عباس راضي، حالته المعيشية اليوم، والتي هي ذاتها مع كل من يملك بستانا أو يعمل به منذ أن ولد لليوم.

لم تعد البصرة التي تعرف بكونها “أم النخيل”، مدينة النخيل. الإحصاءات لا تسر ولا تعبّر سوى عن مستقبل قاتم لنخيل مدينة بدر شاكر السياب، المطلة على الخليج العربي.

تجريف ممنهج

من بين 13 مليون نخلة، لم يتبق سوى مليونين و800 ألف نخلة في البصرة الفيحاء، خلال العقد الأخير من الزمن، ويعزو المسؤولون السبب إلى الحرائق والعوامل المناخية التي تنال من عروس الخليج.

نخيل البصرة المتعوب

“كل ما يجي موسم الصيف وبعدنا نگول يا الله، تگب النار بكل بساتيننا ونخسر تمرنا”. ما يقوله عباس راضي لـ “الحل نت”، حقيقة باتت ثابتة في آخر 7 سنوات، ولا يمكن لأحد نكرانها البتة.

الأمر الوحيد الذي لا تؤكده الحكومة هو سبب الحرائق المتكررة موسميا. غالبا ما تغلق الحكومة ملف الحرائق بتسجيلها ضد مجهولين، غير أن راضي يشير إلى أن الناس تعرف حق المعرفة، من وراء تلك الحرائق.

يقول راضي: “إيران دمرتنا وبزعت روحنا منها ومن أحزابها. كل سنة هي اللي تحرک البساتين”، ويرجع السبب إلى حملة ممنهجة منها لتجريف نخيل “فينيسيا الشرق”.

“إيران تريد العراق بلاية تمر وبلاية زراعة حتى تبقى تصدّر منتوجاتها إلنا وما تخسر اقتصاديا”، هكذا يبين راضي الذي يملك بستانا كبيرا في قضاء أبي الخصيب، نصف مساحته باتت بلا نخيل، سبب حرق وتجريف النخيل.

خسر العراق نحو 17 مليون نخلة على مدار 50 عاما، منها 8 ملايين نخلة في البصرة وحدها، وذلك في آخر 10 سنوات، في وقت كان العراق يتربع صدارة دول العالم، بامتلاكه 33 مليون نخلة.

ليس الحرائق وحدها وراء تغييب نخيل عاصمة العراق الاقتصادية، بل جفاف المياه وملوحتها سبب آخر، ويسفران عن موت النخيل، نتيحة شحة الري وعدم توفر مياه نقية لسقي النخيل، بحسب كاظم عذاب، وهو فلاح بصري.

تركيا وإيران

“الماي ماكو. ما يوصل ماي حلو للنخل، وشط العرب مايه مالح. النخل يموت والحكومة نايمة وعينها بالشمس”. يقول كاظم عذاب، بحسرة كبيرة إبّان حديثه مع “الحل نت”.

كانت أشجار النخيل في العراق، تعد من أهم المصادر الاقتصادية للبلاد، حتى أنها كانت تنتج 627 صنفا من التمور، منها 50 صنفا تجاريا. وقتها كان العراق يشتهر بتصدير التمور بعد النفط.

شط العرب ونصب الشاعر بدر شاكر السياب

في آذار/ مارس 2021، أعلن العراق عن تصديره 600 ألف طنّ من التمور إلى الخارج عام 2020، في وقت كانت البلاد تصدّر 5 مليون طن من التمور سنويا، ثلثها من البصرة فقط.

“جفاف وملوحة الماي، وراها تركيا وإيران اللي گطعن علينا دجلة والفرات”، يبيّن الفلاح البصري كاظم عذاب، ويردف بألم كبير وهو يرفع رأسه إلى السماء: “ما ظل بس يگطعون علينا هذا الهوا اللي نشتمّه”.

الأمم المتحدة، حذرت في وقت سابق، من أن منسوب نهري دجلة والفرات ينخفض بنسبة تصل إلى 73 بالمئة، ودعت إلى مشاركة العراق بمناقشات هادفة مع دول الجوار حول تقاسم المياه، غير أن أنقرة وطهران ترفضان التعاون مع بغداد.

يشتهر العراق بامتلاكه أجود أنواع التمور وأندرها، ومنها “البرحي والمكتوم وصلاح الدين والخستاوي”، وتدر سنويا على البلاد 120 مليون دولار، حسب “البنك الدولي”، وهو رقم أقل بـ 4 أضعاف ونصف مما كان يدخل في الخزينة العراقية سابقا.

في المحصلة، ثمة مستقبل قاتم ينتظر ما بقي من نخيل البصرة، والخشية من أن يأتي اليوم، الذي لم تعد توجد به أي نخلة في المدينة. الحل الوحيد هو كبح جماح إيران ومنعها من الحرائق، وإجبارها مع تركيا على منح العراق حصته المائية بالضغط عبر ورقته الاقتصادية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.