“في ذلك العام، كانت الأمطار جيدة بعد سنوات من الجفاف في مناطق الجزيرة السورية، لكن فرحتنا بتلك المحاصيل لم تكتمل، حيث احترق محصولي القمح بالكامل في حوالي دقيقتين. كنت أنظر إلى رزقي وكانت النار تلتهمها أمامي، وكنت عاجزا عن فعل أي شيء.. لقد احترق تعب وجهد وتكاليف عامل بأكمله في غضون دقائق”، هكذا وصف السيد خليل حسو، خلال حديثه لموقع “الحل نت”، حالته عندما احترق موسمه الزراعي صيف 2019، وفي ذلك الوقت اندلعت الحرائق بأراضٍ زراعية شاسعة واحترق حوالي نصف الموسم الزراعي من القمح والشعير في تلك المنطقة، والحرائق كانت مفتعلة بشكل كبير، وقد تبنّى تنظيم “داعش” الإرهابي ذلك الفعل بحق أبناء مناطق شمال شرقي سوريا.

مناطق الجزيرة السورية، والتي تعتبر مناطق زراعية بحتة، وخاصة في زراعة محاصيل القمح والشعير، وتعتبر أيضا (سلة سوريا الغذائية)، لم يعتقد مزارعو الجزيرة أن عام 2019 ستمطر بغزارة وأن الموسم سيكون في أفضل حالاته ووفيرا، بعد سنوات من الجفاف والاضطراب في توقيت هطول الأمطار، ولكن موسم ذاك العام، قد احترق نصفه تقريباً نتيجة للحرائق التي اندلعت بسبب ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق من جهة، وقيام تنظيم “داعش” بعمليات الحرق تلك من جهة ثانية، معتبرا ذلك انتقاما لسقوط تنظيمه.

منذ ما يقرب من عامين تشهد سوريا جفافا شديدا نتيجة التغيرات المناخية وحجز تركيا لحصة سوريا من مياه نهر الفرات، الأمر الذي أثّر على القطاع الزراعي بأكمله، وأصبح في أسوأ مراحله، ووسط غياب الدعم الحكومي وارتفاع تكلفة المستلزمات الزراعية مثل البذور والأسمدة والمحروقات وغيرها، مما دفع نسبة كبيرة من المزارعين، وخاصة في الجزيرة السورية، بالتفكير والمجازفة في الزراعة مرة أخرى، وبالتالي سيؤثر ذلك على سلة الغذاء السورية، فضلا عن ركود الأسواق وانتشار البطالة وتدهور الوضع الاقتصادي في عموم سوريا وتحديدا الجزيرة، مما له انعكاسات سلبية على كافة مناحي الحياة.

تراجع المساحات المروية

في السياق، تراجعت مساحة الأراضي المزروعة بمحصول القمح، ريّا وبعلا في محافظة الحسكة، خلال موسم 2022 الجاري، بنحو 180 ألف هكتار مقارنة بالعام الفائت، فيما فاقت المساحة المزروعة بالمحاصيل العطرية والطبية بنحو 16 ألف هكتار عن العام الفائت.

وأفادت مصادر من مديرية الزراعة الحكومية السورية في الحسكة لموقع “الحل نت” في وقت سابق، أن المساحات المزروعة بمحصول القمح بلغت هذا العام 335 ألف هكتار؛ من بينها 95 ألف هكتار مروي و240 ألف هكتار بعلي.

وأضافت المصادر ذاتها، أن مساحات العام الفائت وصلت إلى514 ألف هكتار من بينها125200هكتار مروي و389 ألف هكتار بعلي، أي أن هناك تراجع في المساحات المروية للقمح بنحو 180 ألف هكتار.

ويأتي ذلك في ظل تراجع للمخزون الاستراتيجي للقمح في المنطقة إلى نحو 200 ألف طن، بحسب ما أعلنت “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا أواخر العام 2021 الفائت، الأمر الذي دفعها لاتخاذ إجراءات للحفاظ عليه بحسب الرئيس المشترك لهيئة الاقتصاد سلمان بارود.

خليل حسو، الذي ينحدر من إحدى قرى ريف مدينة تربة سبيه، في ريف محافظة الحسكة، يعمل كمزارع منذ حوالي 30 عاما، يملك حوالي 250 ألف دونم من الأراضي الزراعية، ويزرعها كل عام قمحا أو شعيرا، وهو المصدر الرئيسي لدخله. يعاني حسو، من أزمة اقتصادية بسبب احتراق موسمه وتضرره في عام 2019 بنحو 8 آلاف دولار، حيث لم يتم تعويضه أو تعويض المتضررين أمثاله من قِبل الجهات المعنية، بالإضافة إلى معاناته، كبقية المزارعين بسوريا، من قلة الأمطار وارتفاع تكاليف الزراعة، فضلا عن غياب الدعم الحكومي من كل هذا.

مزارع من شمال شرقي سوريا “إنترنت”

هذا وتصاعدت ظاهرة حرق المحاصيل الزراعية، بشكل تدريجي ومتقطع، في عدة مناطق سورية، خلال عامي 2019-2020، وهو ما يرجع إلى حزمة من العوامل، كما عكستها الكتابات المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة، تتمثل في استمرار موجة الصراعات وسباق الغذاء بين القوى المتصارعة في البلاد، وردود الفعل الانتقامية من جانب تنظيم “داعش”، الإرهابي على الهزائم التي تعرض لها.

من جانبها، أكد برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، في صيف 2019، على أن “الحرائق التي اندلعت في الحقول في كافة أنحاء سوريا تسببت ببعضها درجات الحرارة المرتفعة”.

قد يهمك: حوالات المغتربين إلى سوريا.. طوق نجاة ليس فقط للعائلات؟

العزوف عن الزراعة

في سياق موازٍ، أضاف حسو لـ “الحل نت”: “لا أرغب أن أزرع أرضي هذا العام، منذ حوالي عامين وأنا أفلح وأخسر نتيجة شحّ الأمطار، بالإضافة إلى وضع حوالي 4 آلاف دولار في تكاليف الزراعة، من البذور والأسمدة والفلاحة وأشياء أخرى، وهذه التكاليف أثقلت كاهلي حقيقة، لا يمكنني وضع هذا المبلغ في كل عام، ولا أجني منه أي فائدة، سوى القهر والحسرة”.

حسو، أشار خلال حديثه، إلى أنه “من الأفضل أن أتوقف عن الزراعة حتى ينتهي هذا الجفاف أو أن تدعمنا الجهات الحكومية المعنية، بمواد مثل الأسمدة وحفر الآبار الارتوازية، والمحروقات لسقي المحاصيل الزراعية وما إلى ذلك”.

هذا وقد انضمت الأسمدة إلى قائمة الغلاء، إذ ارتفعت التسعيرة بنحو 90 بالمئة، حيث تجاوز سعر طن سماد اليوريا، وفق التسعيرة الجديدة 2.4 مليون ليرة سورية، بعد أن كان بحدود 1.3 مليون ليرة، وتأتي هذه الزيادات في الأسعار نتيجة لقرارات حكومية غير المدروسة، حيث تم رفع سعر البنزين المدعوم بنسبة 130 بالمئة قبل فترة ليست ببعيدة، بالإضافة إلى تهاوي الليرة السورية أمام القطع الأجنبي، خلال الأيام الماضية.

إن معظم التبريرات حول رفع أسعار الأسمدة بهذا الشكل المهول سببها ارتفاع قيم تأمين وشراء هذه المادة، وفق ما نقلته صحيفة “الوطن” المحلية، مؤخرا.

وبحسب التقرير المحلي، فإنه في حال مقارنة هذا السعر الجديد لطن سماد اليوريا 2.4 مليون ليرة، مع مبيعه في عام 2011 يكون مبيع الطن من اليوريا تضاعف أكثر من 600 ضعف، حيث كان مبيع طن اليوريا مع بداية عام 2011 نحو 4 آلاف ليرة.

ويتزامن قرار رفع سعر الأسمدة مع نقص حاد في توافر المادة، الأمر الذي خلق ظاهرة متاجرة وسوقا سوداء اختلط فيها الحابل بالنابل، ولم يعد معظم المزارعين يفهمون ما يحدث أو كيفية تأمين التمويل لشراء احتياجاتهم من الأسمدة، وكل ذلك بالتوازي مع ظاهرة الأسمدة غير الفعالة (المغشوشة)، والتي لا تعترف وزارة الزراعة بوجودها، أو ربما تتغافل عنها.

في وقت سابق أضاف مزارعون لصحيفة “تشرين” المحلية، أن أجرة ساعة الفلاحة على “العزاقة”، وصلت إلى نحو 20 ألف ليرة سورية، وأجرة ساعة الفلاحة على الجرار الزراعي إلى 50 ألف ليرة، وأجرة ساعة التقليم إلى 4000 ليرة.

ويعاني المزارعون في عموم سوريا من ارتفاع تكاليف الإنتاج واحتكار التجار والسماسرة في شراء السلع والمستلزمات الزراعية من الأسمدة والبذار والمحروقات وأجور النقل، بحسب ما نقلته صحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا.

قد يهمك: المنزل حلم في سوريا.. الأقساط تتزايد 3 أضعاف

قرارات “فاشلة”

في المقابل، اعتبر أعضاء المكتب التنفيذي في اتحاد الفلاحين بحكومة دمشق، أن مثل هذه الإجراءات تسهم حكما في انخفاض الإنتاجية للمساحات المزروعة، وهو بخلاف التوجه الحكومي المعلن بالتوسع في الزراعة، وخاصة محصول القمح وتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنتاج لتأمين الاحتياجات المحلية، والتخفيف من فاتورة المستوردات واستنزاف القطع الأجنبي.

كل ذلك على التوازي مع انسحاب الحكومة السورية من دعم مبيع هذه المادة للفلاحين رغم أهميتها، وضرورتها لتحسين معدلات الإنتاج والحفاظ على الفلاح، وعدم تركه عرضة للعجز عن التمويل ومغادرة أرضه، والانزياح نحو مِهن، وأعمال أخرى.

في سياق غياب الدعم الحكومي للقطاع الزراعي، يقول المزارع محمد داود، وهو من مدينة القامشلي في الجزيرة السورية، إن حاله مثل باقي المزارعين في المنطقة، ونتيجة لقلة الأمطار وخسائره منذ ما يقرب من عامين، فهو متردد في الزراعة هذا العام، مضيفا: “لدي حوالي 400 ألف دونم من الأراضي الزراعية، وأزرعها كل عام بالقمح والشعير، ولكن على مدار عامين أخسر في الزراعة بسبب شح الأمطار من جهة وغياب الدعم الحكومي من جهة أخرى”.

يشير المزارع داود، خلال حديثه لـ “الحل نت”، إلى أنه يملك بئر ارتوازي، لكن تم إغلاقه نتيجة عدم استخدامه خلال الـ15 سنة الماضية، والبئر يحتاج إلى تكاليف كبيرة لإعادة تشغيله، ويضيف: “إذا منحتنا الحكومة قروضا، فسأعيد تشغيل البئر الموجود ضمن أرضي، وعليه حكما سيكون المحصول غزير والإنتاجية وفيرة، وهنا أنا والحكومة نستفيد من هذا الأمر. لكن، الحكومة لا تمنح مثل هذه القروض والمساعدات للمزارعين، وفي الحقيقة ليس لدي هذه التكاليف الضخمة لإعادة تشغيل البئر، فقد أحتاج إلى حوالي 25 ألف دولار لإعادة تشغيل البئر الارتوازي، وكذلك تكاليف الوقود لتشغيله على مدار السنة، لذا عزفت عن الزراعة هذا العام”.

قد يهمك: الأسعار في سوريا على مزاج البائعين ومن لا يشتكي سيدفع!

تهالك القطاع الزراعي

بعد كل الانتكاسات والخسائر التي لحقت بالقطاع الزراعي والتي أثّرت بدورها على الثروة الحيوانية في سوريا، على مدى السنوات الماضية، يبدو أن تغير المناخ والجفاف ليس السبب الوحيد لذلك، بل تقصير وتهميش المعنيين من السلطات في حكومة دمشق وقراراتها غير المدروسة في إدارة الأزمات، وكذلك ارتفاع أسعار المواد الأولية والأمور التشغيلية، كلها أسباب مضاعفة، أدت إلى تهالك القطاع الزراعي الذي يشكل حوالي 30-25 بالمئة، من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى كونه من أهم ركائز الأمن الغذائي في سوريا.

من حيث الأرقام، يوجد في سوريا مليون هكتار من الأراضي الزراعية تعتمد على مياه الأمطار، و 690 ألف هكتار، مروية بمياه المشاريع الزراعية. لكن مع ذلك، لم يعد سرا أن هذا القطاع المهم يشهد تراجعا، بحسب تقرير لصحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا.

من جهته، قال رئيس نقابة الفلاحين في محافظة حماة حافظ سالم، في رده على سؤال، أن التغيرات المناخية وحدها تسببت في تراجع الإنتاج الزراعي السوري، فأجاب: “لا، أبدا ليست التغيرات المناخية وحدها سببا في ذلك، لكن المناخ قد يكون أحد الأسباب المتعددة وساهم في تراجع الإنتاج إلى حد ما، لكن الحصة الأكبر في هذا التراجع، هو ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج دون أخذ ذلك في الاعتبار عند دراسة تكاليف الإنتاج”.

وأردف سالم، في حديثه السابق، أن “الأسمدة والمحروقات لم تعد متاحة كما في السنين الماضية، فضلا عن أجور النقل واليد العاملة وفلاحة الأرض، فبعض هذه الأمور لا تُدرّس عند تقدير التكلفة وهذا خطأ، ولابد من هامش ربح محفز ومغري للمزارعين كي يزيدوا الإنتاج، إذ لا يجوز أن يترك الفلاح من دون دعم إذا ما أردنا لإنتاجنا الازدهار والنمو”.

غياب الخطط الاستراتيجية العلمية

“مركز تنسيق الاستجابة للطوارئ” في الاتحاد الأوروبي، حذر من موجة جفاف شديدة وطويلة الأثر في سوريا، بسبب تفاقم نقص المياه في ظل الظروف غير العادية خلال موسم الأمطار.

وكشف المركز الدولي، أن التنبؤات الموسمية لـ “المنظمة العالمية للأرصاد الجوية”، تشير إلى أن سوريا تعاني من الجفاف ونقص المياه الشديد والطويل الأمد، في ظل ارتفاع غير طبيعي في درجات الحرارة.

ونوّه التقرير الدولي، إلى أن الجفاف الذي يمتد لعدة سنوات، وندرة المياه والغذاء والطاقة، وتكاليفهما المرتفعة، “يعزز كل منهما الآخر، ويعزز أزمة الأمن الغذائي في سوريا”.

بدوره، قال المهندس المتخصص في التغير المناخي، مؤيد الشيخ حسن في وقت سابق، إن القطاع الزراعي بشكل عام والاقتصاد الإنتاجي بأكمله في سوريا، تأثر بشكل كامل نتيجة سنوات الحرب الماضية، وتسبب ذلك في تراجع كبير في قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية، وستؤثر أزمة الجفاف بدورها بشكل مباشر وأكبر على هذه القطاعات.

وفق المهندس المتخصص في تغيّر المناخ، الذي تحدث لـ”الحل نت”، فإن التأثير سيكون كبيرا خاصة، وأن قضية الجفاف حاليا نتيجة التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة، وتغير المناخ أزمة عالمية وليس فقط على سوريا، ولكن في وضع بلد مثل سوريا، تتفاقم الظاهرة أكثر لعدة أسباب، أبرزها؛ عدم وجود سياسات حكومية مدروسة علميا على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل، أي لا توجد سياسات حكومية استراتيجية لمعالجة هكذا أزمات، كما لا توجد بنية تحتية تخدم أو تستطيع مواجهة أزمة الجفاف هذه، وبالتالي فإن تأثير الجفاف سيتضاعف في بلد مثل سوريا أكثر من البلدان الأخرى في الشرق الأوسط وعموم العالم.

بدوره رأى المهندس الزراعي آلان محمد، أنه من الضروري للجهات المعنية في وزارة الزراعة السورية، وضع خطط وحلول مستدامة لمواجهة أزمة الجفاف والأمطار التي تبدو ستمتد لسنوات لاحقة، لإنقاذ القطاع الزراعي من التدهور والتراجع، خاصة في مناطق الساحل السوري والجزيرة، وإلا سينخفض الإنتاج الزراعي وخاصة محاصيل القمح والشعير إلى أدنى المستويات، وبالتالي ستتعرض المنطقة لتهديد حقيقي لأزمة غذائية غير مسبوقة، إلى جانب موجة غلاء في البلاد.

ونوّه محمد، في حديثه السابق لـ”الحل نت”، “بالإضافة إلى ما سبق، فإن الموسم الزراعي، وإنتاجيته مرتبطان ارتباطا كبيرا بحركة السوق وانتعاشه في سوريا، لأنه مرتبط بالتجارة؛ من تجارة المعدات والآلات الزراعية، والأسمدة، والعمالة وغيرها من الحركة التجارية في المنطقة، لا سيما أن الجزيرة السورية تعتبر السلة الغذائية لسوريا”.

منذ مطلع العام 2021 اعترفت حكومة دمشق، للمرة الأولى بأن الأمن الغذائي في مناطق سيطرتها بات في خطر، وهو الاعتراف الذي أثار التساؤل في ذلك الوقت حول أسبابه وسر توقيته، لا سيما وأن التقارير الدولية لم تتوقف عن الصدور منذ منتصف عام 2020، محذّرة من مجاعة قادمة على سوريا، ومن أمن غذائي متدهور.

قد يهمك: “لحافنا يدفّينا“.. برد الشتاء وأزمة المحروقات حمل ثقيل على السوريين

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.