على الرغم من أن الجزائر لم تكن أبدا موالية لأميركا بشكل واضح أو متحالفة رسميا مع الغرب، إلا أنها ليست استثناء من هذه القاعدة. فبعد تبني “الحياد الذاتي” في حقبة الحرب الباردة والميل نحو الكتلة الشيوعية بينما بقيت في حركة عدم الانحياز، اتبعت الجزائر تيار العالم أحادي القطب بعد الاتحاد السوفيتي وعمّقت علاقاتها مع الغرب.

على الصعيد السياسي، تعززت العلاقات بين الجزائر والولايات المتحدة نهاية الثمانينيات، عندما لعبت الجزائر دورا رائدا في المفاوضات بين السلطات الأميركية والإيرانية للإفراج عن الرهائن الأميركيينَ المحتجزينَ في طهران بعد سقوط شاه إيران، مع انضمام الجزائر إلى الحوار السياسي لحلف “الناتو”، وبعد الهجمات الإرهابية على الأراضي الأميركية في 11 أيلول/سبتمبر 2001، تطور التعاون في مكافحة الإرهاب بين البلدين، وأصبحت الجزائر شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب الإسلامي والمنظمات المتطرفة، إلا أن تغير المد والجزر الجيوسياسي والأولويات الأمنية، أدى إلى توتر العلاقات التي كانت وثيقة بين الجزائر وواشنطن، فلماذا العلاقات الأميركية الجزائرية في أدنى مستوياتها منذ سنوات، وما تأثيرها على الأوضاع شمالي إفريقيا.

جسور منهارة؟

في 17 كانون الأول/ديسمبر 2021، تحدث مسؤول أميركي عن نزاع الصحراء الغربية والتطبيع الأخير للعلاقات بين عدة دول عربية وإسرائيل، حيث قال، “لقد عملنا على تعزيز اتفاقيات إبراهام الحالية، ونعمل بهدوء ولكن بجد لتوسيع هذه الاتفاقية، وهكذا، تستغرق هذه الأشياء بعض الوقت، لكنها محط تركيزنا إلى حد كبير”.

مثل هذه اللغة الصادرة عن واشنطن لن تؤدي إلا إلى زيادة غضب الجزائريين والمساهمة في تصاعد الاحتكاك بين الجزائر والولايات المتحدة؛ تعتبر الجزائر أن بعض سياسات إدارتي ترامب وبايدن، ضارة بمصالح الجزائر الحيوية ومصالح الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا.

يعتبر الصراع حول الصحراء الغربية، واتفاقات إبرهام، والأزمة السورية، والبرنامج النووي الإيراني من أكثر القضايا الإقليمية حساسية حيث توجد خلافات كبيرة بين الجزائر وواشنطن. ومع ذلك، هناك مجموعة متنوعة من العوامل تجعل كل من الجزائر والولايات المتحدة، غير راغبين في قطع جسورهما مع الآخر.

يقول الخبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، ستيفن كوك، لـ”الحل نت”، إنه في ضوء المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، بهدف السيطرة على الموارد الطبيعية للمنطقة، واحتواء توسع الصين في هذه المنطقة، فإن الإدارة الأميركية ستواصل توطيد علاقاتها مع الجزائر باعتبارها حجر الزاوية في مكافحة الإرهاب والمنظمات المتطرفة.

يصف كوك، الجزائر بالبلد المحوري في المنطقة ذات الاهتمام الخاص الذي اختارته الولايات المتحدة الأميركية لمواردها الطبيعية وتكاملها الاقتصادي. وبرأيه يبدو أن العلاقات الثنائية لن تتعزز إلا في المستقبل بغض النظر عن اللون السياسي للإدارة الأميركية المسؤولة. ويتعزز هذا بشكل خاص من وجهة نظره، من خلال التزام الجزائر بمكافحة المنظمات المتطرفة في منطقة الساحل والصحراء وجهودها المكرسة لتحقيق الاستقرار في منطقة شمال إفريقيا والساحل، من خلال الحوار السياسي الشامل وعمليات المصالحة في ليبيا ومالي.

مواجهة ومفترق طرق؟

على مدى العامين الماضيين، أثبت التحالف غير الرسمي لروسيا والصين، أنه سعيد بعلاقته القريبة من الجزائر، ومنح الجزائر تذكرة لـ “فك العزلة”. تعود هذه العلاقات إلى عقود حيث تشترك الجزائر وموسكو، في روابط قوية منذ استقلال الأولى وأقاما شراكة وثيقة. من خلال مذكرة تفاهم عام 2006، إذ ساعدت شركة “غازبروم” الروسية شركة “سوناطراك” الجزائرية، المملوكة للدولة في تطوير إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال.

يقول كوك، تدهورت العلاقة بشكل واضح عندما قرر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، كما ضربت القرارات الأميركية والمغربية، صميم اهتمامات الأمن القومي والسياسة الخارجية للجزائر. مما ترك الحكومة الجديدة برأس مال سياسي ضئيل لتقديم استجابة ملموسة لهذا الفشل الدبلوماسي الهائل، وفقا لمعايير الجزائر.

ويضيف كوك، أنه “على عكس التوقعات الجزائرية بأن إدارة بايدن ستغير مسارها، لم تتحسن العلاقات المتوترة بين واشنطن والجزائر منذ عام 2020. وفي الواقع، ليس من قبيل المبالغة، إنها في أدنى مستوياتها حاليا، وكل ذلك دفع الجزائر إلى عزلة غير مسبوقة عن العالم الغربي”.

بحسب معهد “واشنطن” للدراسات، فإن العلاقات الأمنية بين الجزائر وروسيا وثيقة بشكل كبير، إذ تعتمد الجزائر على واردات الأسلحة الروسية، حيث اشترت 81 بالمئة من معداتها العسكرية من روسيا على مدى السنوات الثلاث الماضية، لتصبح ثالث أكبر مستورد للأسلحة من روسيا بعد الهند والصين.

كما أجرت الجزائر وروسيا تدريبات عسكرية مشتركة في المناطق المتنازع عليها، مثل أوسيتيا الجنوبية في تشرين الأول/أكتوبر 2021، واتفقتا على القيام بنشاط مماثل على الحدود الجزائرية مع المغرب في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، اتفاق تم التوصل إليه أثناء الغزو الروسي لأوكرانيا.

لم تكتف الجزائر بالموافقة على هذه التدريبات العسكرية وسط الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن دبلوماسييها رفضوا أيضا إدانة موسكو في الأمم المتحدة في آذار/مارس الفائت، على الرغم من التزام الجزائر التاريخي بمبدأ سيادة الدولة. في المقابل، تدعم روسيا الجزائر في قضية الصحراء الغربية التي تُفهم على أنها وسيلة لمواجهة تحالف المغرب مع الولايات المتحدة، وألغت ديونا جزائرية بمليارات الدولارات.

وعلى غرار العلاقات الروسية الجزائرية، تعود العلاقات الدافئة مع الصين إلى حقبة الحرب الباردة، وخاصة حقبة ماو تسي تونغ. وفي الآونة الأخيرة، دفعت طموحات بكين العالمية التي يدعمها مشروع مبادرة الحزام والطريق، الصين إلى أعتاب العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم من خلال مقترحات الشراكة والاستثمار. تم تضمين شمال إفريقيا في الامتداد العالمي للصين وصرحت الجزائر أنها على استعداد لتوسيع نطاق وجود بكين، باعتبارها الشريك الإقليمي الأكثر قيمة للأخيرة.

التواصل بين السطور

العلاقات بين الجزائر واشنطن، شهدت خلال الأيام الماضية، ضجة على خلفية انتقادات لأعضاء في “الكونغرس” الأميركي لعلاقة الجزائر مع روسيا، قابلها صمت رسمي ورسائل ود بين حكومتَي البلدين.

في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت ليزا ماكلين، السيناتور عن الحزب الجمهوري، عبر موقعها الرسمي، أنها جمعت 27 توقيعا داخل “الكونغرس” حول رسالة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، تدعوه فيها إلى تطبيق قانون “معاداة أميركا” على الجزائر.

وجاء في الرسالة: “كما تعلم، فإن روسيا هي أكبر مورّد للأسلحة العسكرية للجزائر، في العام الماضي وحده، أنهت الجزائر صفقة شراء أسلحة مع روسيا بأكثر من 7 مليارات دولار، في هذه الصفقة، وافقت الجزائر على شراء طائرات مقاتلة روسية متطورة، بينها سوخوي 57، التي لم توافق روسيا على بيعها إلى أي دولة أخرى حتى الآن؛ مما جعل الجزائر ثالث أكبر متلقٍّ للأسلحة الروسية في العالم”.

القانون الذي تشير إليه ماكلين، يعود إلى عام 2017، عندما أقر “الكونغرس”، قانون مكافحة أعداء أميركا ويتيح للرئيس الأميركي فرض عقوبات على من ينخرطون في صفقة مهمة مع شخص يمثل جزءا من أو يعمل لصالح أو نيابة عن قطاعي الدفاع أو الاستخبارات الروسيين.

وحسب رسالة ماكلين، فالرئيس فوض سلطة العقوبات إلى وزير الخارجية بالتشاور مع وزير الخزانة. وسبق هذه الرسالة أخرى وجهها منتصف أيلول/سبتمبر الماضي السيناتور الجمهوري، ماركو روبيو، إلى بلينكن أيضا، وتدعو إلى تطبيق العقوبات على الجزائر بسبب علاقاتها مع روسيا.

في الجزائر، امتنعت السلطات عن الرد على رسالة أعضاء “الكونغرس”، كما لم يصدر أي تعقيب من الخارجية الأميركية. بل وفي المقابل، على الصعيد الرسمي، تبادل الجانبان “رسائل ودية” رسمية بالتزامن مع تداول وسائل إعلام لنص رسالة أعضاء “الكونغرس”.

البداية كانت من استقبال رئيس أركان الجيش الجزائري، الفريق أول سعيد شنقريحة، السفيرة الأميركية لدى بلاده، إليزابيث مور أوبين، في 14 أيلول/سبتمبر الماضي. وفي 22 من الشهر ذاته، التقت نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، مع وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وقالت شيرمان، عبر تغريدة، إن اللقاء تناول، قضايا الأمن الإقليمي وحقوق الإنسان وشراكتنا الاقتصادية، وأتطلع إلى مواصلة تعميق علاقتنا القوية والمستدامة.

الفرص والتحديات

لطالما تعرضت العلاقات الأميركية الجزائرية للتقلبات وعدم الاستقرار منذ استقلال الجزائر. وعلى الرغم من أنها لم تشكل أبدا أولوية للولايات المتحدة في الماضي، فقد أصبحت في السنوات الأخيرة بشكل متزايد منطقة ذات أهمية كبيرة لصانعي السياسة في واشنطن، وفقا للخبير السياسي، ستيفن كوك.

يشير كوك، إلى أن الاهتمام الكبير بالبلد العربي جاء منذ صعود المحافظين الجدد إلى السلطة في إدارة جورج بوش. وتنبع هذه الأهمية الجديدة من عدد من الاعتبارات التي تقع في مجموعتين عريضتين، “المصالح السياسية والاقتصادية في مجال الطاقة، والمصالح العسكرية والاستراتيجية والأمنية”.

طبقا لحديث كوك، فالأول يتعلق باحتياجات أميركا من الطاقة من النفط والغاز. والاهتمام بسوق يحتمل أن يكون مهما للشركات الأميركية، خاصة وأن المنافسة اشتدت مع الصين في إفريقيا. الدافع الثانية مرتبطة نسبيا بتعديل واشنطن في السياسات الاستراتيجية والأمنية.

وبرأي كوك، فإن تدهورت العلاقة بين البلدين ليس في مصلحة الطرفين، خصوصا وأن دول شمال إفريقيا مهددة الآن بالانهيار بسبب تنامي الجماعات المتطرفة، وليس من مصلحة الجزائر أن تعود إلى العزلة التي عانت منها خلال العقود السابقة، لا سيما في ظل تقلب السياسيات العالمية، والتوجه الدولي نحو الحد من نفوذ روسيا والصين.

ربما تكون الجزائر في الفترة الأكثر خطورة في تاريخها الدبلوماسي منذ نهاية الحرب الأهلية في التسعينيات. يشكل الضغط على التحديات من جهة، والفرص الواعدة من جهة أخرى البيئة الجيوسياسية الحالية. يجب على الجزائر أن تدرك ذلك، وأنه مع استمرار الحرب في أوكرانيا في إعادة تشكيل العلاقات المتعددة الأطراف الأوسع، يجب على الجزائر العاصمة أن تحدد ما إذا كانت تحافظ على الحياد أو تنجرف أكثر إلى المعسكر الشيوعي، وهو قرار سيؤثر على موقعها في النظامين الإقليمي والدولي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة