منذ فترة وجيزة، تبحث أنقرة عن بدائل لعلاقاتها المتوترة في كثير من الأحيان مع الغرب، وترى في آسيا الوسطى العديد من الفرص العظيمة، الافتراض الأساسي للسياسة الخارجية التركية، الذي تبناه أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية في الفترة من 2009 إلى 2014، هو أن بلاده هي جسر بين أوروبا وإفريقيا وآسيا، وبالتالي يجب متابعة مصالح أنقرة الجيوسياسية من خلال عمق استراتيجي يمتد إلى ثلاث قارات.

استضافت تركيا هذا الشهر اجتماعا طارئا لوزراء خارجية منظمة “الدول التركية” والتي تضم (أذربيجان وتركيا وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان) للتحضير لأول قمة للمنظمة على مستوى القادة في سمرقند الشهر المقبل. ولقد مضى ما يقرب من عام على تشكيل المنظمة كبديل عن مجلس الدول الناطقة بالتركية، لكنّ تأثيرها كقوة إقليمية جديدة لا يزال محدودا للغاية مقارنة بالمنظّمات الإقليمية الأخرى.

مطلع العام الماضي، أثار التدخّل العسكري لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا لإخماد الاضطرابات في كازاخستان، شكوكا حول قدرة منظمة الدول التركية على إدارة أوضاعها الداخلية والنزاعات بين بعض أعضائها بعيدا عن تأثير موسكو، ما استدعى لأن تنخرط أنقرة بشكل أكبر مع آسيا الوسطى مدفوعة جزئيا باحتياجات تركيا من الطاقة، فهل تتوتر العلاقات بين أنقرة وروسيا، بعد أن لعب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على وتر القوة الناعمة والروابط العرقية والثقافية والدينية مع أعضاء منظمة الدول التركية لجذبهم إلى أنقرة، وهل استغلت دول آسيا الوسطى الغزو الروسي لعدم مواصلة الالتصاق بروسيا.

عودة تركيا إلى آسيا الوسطى

قد يكون لدعم تركيا لأذربيجان في حربها الأخيرة مع أرمينيا تداعيات أكبر بكثير، حيث تستخدم تركيا موقع أذربيجان الجغرافي كنقطة انطلاق للوصول إلى آسيا الوسطى. على الرغم من أن الصين وروسيا تبسطان سيطرتهما في المنطقة، يمكن لتركيا الاستفادة من النفوذ الثقافي الكبير الذي تتمتع به، إلى جانب استعداد دول آسيا الوسطى لتنويع علاقاتها الخارجية بعيدا عن موسكو وبكين.

يقول الخبير في تاريخ آسيا الوسطى وتركيا، البروفيسور جون وودز، لـ”الحل نت”، إن حرب أوكرانيا هي فرصة أخرى انتهزتها تركيا لزيادة قدرتها على المساومة. إذ إن إبقاء روسيا بعيدة عن مضيق البوسفور والدردنيل هو ضرورة جيوسياسية ثابتة لتركيا. حيث تمثل الهجمات الروسية على أوكرانيا انتكاسة لأنقرة التي أدانت روسيا في الأمم المتحدة، وأغلقت المضيق وسدت مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا. وهذا يفسر سبب مساعدة تركيا لأوكرانيا على المقاومة، من خلال تزويدها بطائرات بدون طيار.

بحسب وودز، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أنشأت أنقرة وكالة “التعاون والتنسيق التركية”، لزيادة العلاقات الثقافية والاقتصادية مع دول آسيا الوسطى. وبعد عقدين من الزمان، في عام 2009، تم تشكيل مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية المعروف باسم “المجلس التركي” رسميا.

في عام 2021، قرر المجلس إعادة تسمية نفسه بمنظمة “الدول التركية”، تتألف الدول المشاركة في المنظمة من خمسة أعضاء أذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وتركيا، وأوزبكستان، ودولتان مراقبتان هما المجر وتركمانستان، وتضم حوالي 170 مليون شخص وناتج محلي إجمالي يبلغ 1.5 تريليون دولار، كما يُقدر حجم التجارة بين هذه الدول بنحو 16 مليار دولار.

وسط تغير الجغرافيا السياسية العالمية والإقليمية والحرب الروسية في أوكرانيا، سعت تركيا وفقا لوودز، إلى مشاركة أكبر مع آسيا الوسطى من خلال عدد من اتفاقيات التجارة والدفاع وكذلك مبيعات الأسلحة. في آذار/مارس 2022، زار أردوغان أوزبكستان لتعزيز الشراكة التركية الأوزبكية، ووقّعت عشر اتفاقيات خلال الزيارة، فيما تعهد البلدان بزيادة حجم التجارة الثنائية إلى 10 مليارات دولار.

عززت مبيعات الأسلحة أحد أقوى صادرات تركيا وأكثرها ربحا صورة البلاد في آسيا الوسطى، حيث اجتذبت الطائرات بدون طيار التركية اهتمام دول آسيا الوسطى، خصوصا بعد أن استخدمتها أوكرانيا لتدمير المعدات العسكرية الروسية، وأذربيجان ضد أرمينيا في حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، وأماكن أخرى.

على سبيل المثال، اشترت تركمانستان، العميلة منذ فترة طويلة للأسلحة التركية، العدد الأكبر من طائرات “بيرقدار”، كما اشترت قيرغيزستان طائرات تركية بدون طيار في عام 2021، وأنشأت قاعدة جديدة للطائرات بدون طيار الشهر الماضي. وبالمثل، أعربت طاجيكستان وأوزبكستان عن اهتمامهما بالطائرات التركية بدون طيار، بينما وافقت كازاخستان على بدء الإنتاج المحلي لطائرات “أنكا” التركية بدون طيار.

لمزيد من الربط بين أهداف السياسة الخارجية التركية و”دبلوماسية الطائرات بدون طيار”، فإن المعدات العسكرية الصينية الأرخص ثمنا تعني أن التعاون المشترك المحتمل بين تركيا والصين ليس مستبعدا. كما لا توجد اقتراحات بأن مشتري الأسلحة في تركيا في المستقبل سيكونون أعضاء في منظمة “شنغهاي” للتعاون، لا سيما بالنظر إلى أن الناتج المحلي الإجمالي المجمع لأعضاء منظمة “شنغهاي” للتعاون يمثل ما يقرب من 25 بالمئة، من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

بديل عن روسيا

أظهرت تركيا مؤخرا تحولا أوروبيا آسيويا متزايدا في سياستها الخارجية، بحسب تحليل للبروفيسور جون وودز، حيث أدى الصعود الاقتصادي للصين والوزن الجيوسياسي المتزايد إلى قيام العديد من الدول الأوروبية الآسيوية بإعادة ضبط سياساتها الخارجية. أصبح التطلع إلى الشرق هو المعيار الجديد، وربما تكون إيران وروسيا أبرز الأمثلة على ذلك.

يشير وودز، إلى أنه على الرغم من أن تركيا متخلفة عن الركب، إلا أنها بدأت مؤخرا في دمج سياسة تتجه نحو الشرق مع تطلعاتها الجيوسياسية. إذ تسعى أنقرة إلى توسيع نطاق وصولها شرقا إلى آسيا الوسطى، على أمل تشكيل تحالف مع الدول الأخرى الناطقة بالتركية.

هناك جانب آخر يجب مراعاته طبقا لحديث وودز، وهو دفع تركيا لزيادة الترابط الإقليمي والاقتصادي. من خلال وضع نفسها كبديل لموقف روسيا في الحزام والطريق الصيني، حيث تسعى أنقرة إلى توسيع مجال نفوذها ودورها في الأسواق الأوروبية الآسيوية والعالمية، وربط الصين وآسيا الوسطى وأوروبا. في حين أن موسكو قد لا تزال تؤثر على آسيا الوسطى، يبدو أن هذا التأثير يتضاءل، مما أدى إلى حرص حكومات آسيا الوسطى على إيجاد شركاء بديلين، وهو ما استغلته أنقرة.

وعلى الرغم من أن موسكو وأنقرة قد عززتا العلاقات السياسية والاقتصادية في السنوات الأخيرة، إلا أن الأحداث الجارية تشير إلى أن بكين، ستكون بديلا لأنقرة من موسكو. فبالنسبة لتركيا والصين، تدعم العلاقات الثنائية القوية أهداف السياسة الخارجية لكل منهما، وبالنسبة لبكين، فإن موقع أنقرة الاستراتيجي، الواقع على طريق رئيسي لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ويقع بين أوراسيا والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، يعني أن بكين يمكن أن تستخدم تركيا كنقطة انطلاق لنفوذ أكبر في التعامل مع الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.

من جهة أخرى، وبحسب ما يراها الباحث في العلاقات الدولية، محمود علوش، فإن هناك عاملان أساسيان يقوضان دور روسيا كقوة أمنية إقليمية، أولا، في مواجهتين عسكريتين حصلتا مؤخرا بين أذربيجان وبين أرمينيا من جانب وقرغيزستان وطاجيكستان من جانب آخر، لم يكن هناك دور فاعل لروسيا. ولعب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتركيا، دورا أكبر في تهدئة التوترات بين باكو ويريفان. وإن موسكو منهكة في أوكرانيا بحيث لا يمكنها التركيز على دورها كحارس في المنطقة.

ثانيا، تعتمد جميع دول آسيا الوسطى بشكل كبير على روسيا للحفاظ على اقتصاداتها الضعيفة واقفة على قدميها، من خلال التجارة والعمالة الموسمية والتحويلات المالية، لكن ضعف الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات سيؤثر أيضا على اقتصادات آسيا الوسطى على المدى المتوسط.

وعليه يرى وودز، أنه بينما تبسط الصين وروسيا سيطرتهما بشكل كبير في المنطقة، تتمتع تركيا بنفوذ كبير في المجال الثقافي، ويمكنها استغلال رغبة دول آسيا الوسطى في تنويع علاقاتها الخارجية بعيدا عن موسكو وبكين. خصوصا أن الاعتماد على أي من القوتين في بعض الأحيان تسبب في مشاكل في العواصم الإقليمية. وعلاوة على ذلك، تحتاج قيرغيزستان وتركمانستان إلى السيولة، مما يزيد من احتمالية اختراق تركيا الاقتصادي هناك.

تغيير التركيز

روسيا استخدمت دورها التاريخي كقوة مهيمنة إقليمية لإحباط النفوذ التركي. أدى صعود الصين إلى تقليص ساحة اللعب للوافدين الجدد بدرجة أكبر. كما أعاقت إيران، الحريصة على تطوير تجارتها الخاصة مع آسيا الوسطى، خطط تركيا لفعل الشيء نفسه. ومع ذلك، يشير تطوران أخيران إلى أن المَد قد يتحول الآن لصالح تركيا.

من المرجح وفقا للبروفيسور جون وودز، أن تحفز الحقائق الجديدة في الشرق الأوسط أنقرة على زيادة نفوذها في آسيا الوسطى. حيث تدفع الحقائق الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط أنقرة للتعويض عن طريق زيادة نفوذها في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى. خصوصا وأن “الورقة الإسلامية والحديث عن وحدة المسلمين” الذي لعبه أردوغان منذ صعوده إلى سدة الحكم، لم تعد تعمل ويتم استبدالها بالقومية التركية.

المنافس الرئيسي الآخر لأنقرة هنا هو إيران، ففي عام 2014، أطلقت محورا نحو آسيا الوسطى شمل صفقة تجارة حرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا. سعيا لتقويض المنافسة من تركيا، ضاعفت طهران في تشرين الأول/أكتوبر 2014 رسوم العبور بأكثر من الضعف، وفي كانون الثاني/يناير 2015 أعلنت أنها ستتوقف عن توفير الوقود للشاحنات التركية.

ردا على هذه التحركات، بدأت تركيا في البحث بجدية عن طرق لإعادة توجيه تدفق التجارة عبر بحر قزوين، متجاوزة إيران، وزاد حافزها للقيام بذلك مع ارتفاع تدفق التجارة التركية عبر إيران، من 565 ألف طن في عام 2016 إلى 1.08 مليون طن في عام 2019.

يُعد افتتاح ممر “ناختشفان” بين تركيا وأذربيجان ضربة مزدوجة لإيران، إذ أنه ليس فقط تسبب بخسارة جزء كبير من حركة المرور عبرها، ولكن أيضا خطر التدفق المربح للبضائع من تركيا إلى آسيا الوسطى. ففي جلسة تخطيط في عام 2015، توقع سفير تركمانستان في تركيا، آتا سيرداروف، أن الطريق عبر قزوين يمكن أن يتعامل مع جميع التجارة التركية إلى آسيا الوسطى دون عبور إيران.

صحيح أن الكثير من التكهنات حول دور متزايد لتركيا في آسيا الوسطى يعتمد على ممر “ناختشفان”، الذي لا يزال في أيدي روسيا. ومع ذلك، حتى لو فشلت في تلبية التوقعات، فقد لعبت بالفعل دورا مهما في تحويل التوقعات الجيوسياسية الإقليمية.

من خلال اتخاذ موقف حاسم في الجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز، عززت تركيا موقعها في آسيا الوسطى. وبينما تعمق تعاونها مع دول المنطقة، فإنها ستلعب دورا متزايد الأهمية في موازنة نفوذ روسيا والصين، تُظهر هذه التطورات أنه على الرغم من قيام تركيا بتكثيف أنشطتها السياسية في آسيا الوسطى، وخطط البلاد الطموحة في المنطقة ونطاق زيادة نفوذها في المنطقة، فإن هذه الخطط تبدو بعيدة المنال إلى حدّ كبير وغير قابلة للاعتماد عليها على المدى الطويل.

ومع ذلك، فإن هذا لا ينفي الأهمية المتزايدة لتركيا بالنسبة لآسيا الوسطى من حيث بناء استراتيجيات لحلفائها الثلاثة روسيا، والصين، وإيران. وهذه الأحداث لن تأخذ منعطفا إيجابيا لتركيا، خصوصا إذا ما عززت تعاونها الاقتصادي مع الدول الأخرى في المنطقة، متجاهلة حلفائها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.