بات من المعلوم أن سوق الطاقة العالمي في حالة اضطراب، حيث أجبرت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الناجمة عن النفط والغاز الروسيين الغرب، وخاصة أوروبا، على إيجاد مصادر طاقة جديدة بسرعة لإبقاء الأنوار مضاءة وتشغيل السيارات هذا الصيف.

ارتفاع الأسعار العالمية لمجموعة من مصادر الطاقة، بما في ذلك النفط والغاز الطبيعي والفحم، يؤدي إلى إلحاق الضرر بالمستهلكين في نفس الوقت الذي يتعين عليهم فيه بالفعل التعامل مع ارتفاع تضخم الغذاء والخدمات. ومن المحتمل أن تشكّل الأسعار المرتفعة وإمكانية وجود نظام للطاقة خطرا على المستهلكين أثناء استعدادهم لدخول فصل الشتاء.

في الولايات المتحدة، دفع ارتفاع أسعار الغاز الرئيس جو بايدن، للقيام برحلة مثيرة للجدل إلى المملكة العربية السعودية لتشجيع الدولة الغنية بالنفط على زيادة الإنتاج. يأتي هذا التدافع للحصول على حلول طاقة سريعة الإصلاح بينما يحاول العالم التخلص من إدمانه على الوقود الأحفوري وتقليل آثار تغير المناخ. فهل يمكن أن يكون اضطراب سوق الطاقة اليوم نذيرا للتحديات القادمة مع إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي.

العالم يهوي نحو الأزمة

الوضع الذي يحدث اليوم له العديد من أوجه التشابه مع سيناريو 1973، عندما أدت التوترات في الشرق الأوسط إلى أزمة طاقة، حيث يشهد العالم الآن توترات جيوسياسية عالية أدت إلى صراع إقليمي، ولكن الاختلاف فيما يتعلق بما قبل 30 عاما، هو أنه مع وجود دليل واضح على حدوث تغير المناخ، هناك الآن إدراك أن تنويع مصادر الطاقة هو عملية لم يعد من الممكن تأجيلها.

مدير وكالة “الطاقة الدولية”، فاتح بيرول، قال إن قرار “أوبك بلس” خفض الإنتاج بواقع مليوني برميل يوميا ينطوي على مخاطر عدة، بخاصة مع وقوف عدد من الاقتصادات على شفا الركود، حسب تعبيره.

وفي حديثه في مؤتمر خلال أسبوع الطاقة الدولي في سنغافورة، أمس الثلاثاء، قال بيرول، إن “العالم لم يشهد قط أزمة طاقة بهذا العمق والتعقيد”، مؤكدا “أننا في خضم أول أزمة طاقة عالمية حقيقية”، وأن أسواق الغاز الطبيعي المسال العالمية، ستشهد شحا أكبر العام المقبل مع زيادة واردات أوروبا، واحتمال انتعاش الطلب الصيني.

حسب توقعات مدير وكالة “الطاقة الدولية”، فإن 20 مليار متر مكعب فقط من طاقة الغاز الطبيعي المسال الجديدة ستُطرح في السوق العام المقبل، وذلك من وجهة نظر القائمين على “أوبك بلس”، يمكن أن تكون أزمة الطاقة نقطة تحول في تسريع مصادر الطاقة النظيفة وتشكيل نظام طاقة مستدام وآمن .

من جهته، أوضح بيرول، أن “أمن الطاقة هو المحرك الأول لتحول الطاقة”، حيث ترى الدول، تكنولوجيا الطاقة ومصادر الطاقة المتجددة كحل للمشكلة، حيث عدّلت وكالة “الطاقة الدولية” توقعاتها للنمو في إضافات الطاقة المتجددة في عام 2022، إلى زيادة بنسبة 20 بالمئة على أساس سنوي من 8 بالمئة سابقا، مع إضافة ما يقرب من 400 جيجاوات من طاقة الطاقة المتجددة هذا العام.

كيف توالت الأزمات؟

في عام 2018، قدرت مراجعة إحصائية للطاقة لشركة “بريتيش بتروليوم”، أن النفط الخام متوفر على مستوى العالم لمدة 53 عاما فقط، ولا يمكن “إنكار أننا في خضم أزمة طاقة”.

تشمل تحديات الطاقة الحالية الإلغاء التدريجي لدعم الوقود الأحفوري، وتقلب أسعار الموارد البديلة، والافتقار إلى شفافية السوق. هناك أيضا مشكلات تتعلق بالطبقات المتوسطة الناشئة في الهند والصين ودول الشرق الأوسط وإفريقيا بتحويل احتياجاتها من الطاقة، لتبريد منازلهم أو لتدفئتها باستخدام مكيفات الهواء.

المدير العام لـ”صندوق النقد الدولي”، كريستالينا جورجيفا، تقول، إن العالم يواجه أزمة فوق أزمة، أولا، الوباء الذي قلب حياة العالم واقتصاده رأسا على عقب ولم ينته بعد. إذ يمكن أن يؤدي استمرار انتشار الفيروس إلى ظهور متغيرات أكثر عدوى أو أسوأ وأكثر فتكا، مما يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات، والمزيد من التباعد بين البلدان الغنية والفقيرة. وثانيا، الحرب وغزو روسيا لأوكرانيا، المدمر في ذات الوقت للاقتصاد العالمي ولمصادر الطاقة في جميع أنحاء العالم.

من الناحية الاقتصادية، فإن النمو ينخفض والتضخم يرتفع، ومن الناحية الإنسانية، دخلُ الناس ينخفض وتزداد المصاعب، كما ترى جورجيفا، أن التفرقة في الحوكمة العالمية هو أخطر تحد للإطار القائم على القواعد الذي حكم العلاقات الدولية والاقتصادية لأكثر من 75 عاما، وساعد في تحقيق تحسينات كبيرة في مستويات المعيشة في جميع أنحاء العالم.

وفي معرض حديثها لمركز “كارنيغي” للأبحاث، أوضحت جورجيفا أنه في كانون الثاني /يناير الفائت، خفّض “صندوق النقد الدولي” توقعاته للنمو العالمي إلى 4.4 بالمئة لعام 2022. ومنذ ذلك الحين، تدهورت التوقعات بشكل كبير بسبب الحرب وتداعياتها. كما أن التضخم والتشديد المالي وعمليات الإغلاق الواسعة النطاق والمتكررة في الصين، والتي تسبب اختناقات جديدة في سلاسل التوريد العالمية، تؤثر أيضا على النشاط العالمي.

ونتيجة لذلك، تقول المدير العام لـ”صندوق النقد الدولي”، “إننا نتوقع مزيدا من التخفيض في النمو العالمي لكل من 2022 و2023. ولحسن الحظ، بالنسبة لمعظم البلدان، سيظل النمو في المنطقة الإيجابية. ومع ذلك، فإن تأثير الحرب سيسهم في تخفيضات التنبؤات لـ 143 اقتصادا هذا العام، وهو ما يمثل 86 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي”.

حقبة جديدة من مصادر الطاقة

بالنسبة للعالم الغربي، كان عام 1973 بمثابة صحوة، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي المستمر تقريبا، حيث واجه العالم الحديث أول أزمة طاقة كبيرة حقيقية. كان سببها الحرب التي قامت في تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته، والتي أعلنتها مصر وسوريا ودول عربية ضد إسرائيل.

تدخل القوتين الدوليتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك، أدى إلى وقف سريع لإطلاق النار، واستمرت الحرب قرابة أسبوعين. لكن الدول العربية المنتجة للنفط التابعة لمنظمة “أوبك”، والتي نما وزنها في سوق النفط الخام بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي، قررت حظر النفط.

الزيادة في أسعار النفط كانت فورية، وبحلول أوائل عام 1974، تضاعف متوسط سعر البرميل أربع مرات، من 3 دولارات إلى 12 دولارا، وبدأت فترة من التقشف في أغلب الدول الأوروبية، فغالبا ما كانت قيادة السيارات يوم الأحد محظورة، وكانت هناك أيام يمكن فيها استخدام أرقام لوحات ترخيص معينة فقط للعبور، وتم تقديم العديد من الإجراءات لتقليل استهلاك الكهرباء المحلي والتجاري، عبر تقليل إضاءة الشوارع، وإغلاق المكاتب والمحلات التجارية في وقت مبكر، وخفض الطاقة المتاحة للمنازل.

الحياة كانت أصعب من أي وقت مضى وفق ما تؤكده الشركة الإيطالية للطاقة المتجددة “إنيل”، على الرغم من أن فترة التقشف هذه كانت قصيرة نسبيا، لأن الحظر انتهى في آذار/مارس 1974 بعد أن توصلت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى اتفاق جديد. لكن الرسالة وصلت، إذ كان من الواضح أن هناك حاجة لتنويع مصادر الطاقة بسرعة، وهو ما تحاول “أوبك بلس” إيصاله الآن بعد أن خفّضت إنتاجها.

المستقبل في مصادر الطاقة المتجددة، هو ما تؤكده الأبحاث العلمية والعديد من الدول بقيادة الولايات المتحدة، حيث اقترحت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة، أنه بحلول منتصف هذا القرن، ستتجاوز الحاجة إلى التبريد والحاجة إلى التدفئة.

مستقبل الطاقة المتجددة

في عام 2016، أنشأت الأمم المتحدة الهدف السابع للتنمية المستدامة، من أجل “ضمان الوصول إلى طاقة حديثة وموثوقة ومستدامة وبأسعار معقولة للجميع”. وعلى الرغم من أن الهدف هو توفير تقدم كبير، إلا أنه لا يمكن إحراز تقدم حقيقي إلى أن تتم معالجة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، مثل الأجندة التي تحيط بإنتاج وتوزيع الطاقة.

تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من ثلاثة مليارات شخص في جميع أنحاء العالم يطبخون ويدفئون منازلهم بأنواع الوقود البسيطة مثل المواقد والنيران المكشوفة التي تحرق الأخشاب وروث الحيوانات والفحم.

التدفقات المالية الدولية إلى البلدان النامية لدعم الطاقة النظيفة والمتجددة وصلت إلى 18.6 مليار دولار في عام 2016، أي ما يقرب من الضعف من 9.9 مليار دولار في عام 2010. ومن المتوقع أن تنمو المصادر المتجددة بنسبة 2.6 بالمئة كل عام حتى عام 2040.

خُمس إمدادات الطاقة الأولية في العالم يأتي بالفعل من مصادر متجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية والطاقة الحرارية الأرضية، وتوفر الطاقة المتجددة فرصة لتصحيح الآثار البيئية الناجمة عن استخدام الوقود الأحفوري وتمنح البلدان النامية إمكانية أن يكون لها ثوراتها الصناعية الخاصة بها، دون التلوث الذي سيصاحب ذلك بالضرورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.