عمالة الأطفال تعتبر حقيقة منتشرة في مختلف الأراضي السورية، وعلى الرغم من أنها تشكل جزءا من الحياة اليومية في المنطقة، إلا أن المشكلة تأخذ أبعادا خطيرة ومقلقة بشكل خاص في حالة سوريا، حيث يعاني النسيج الاجتماعي ونظام التعليم من الآثار المدمرة المستمرة منذ أكثر من 11 عاما.

في سوريا يُجبر آلاف الأطفال على ترك المدرسة والالتحاق بسوق العمل في ظل الظروف الشديدة والصعبة، ويجد الكثيرون أنفسهم مضطرين إلى القيام بعمل شاق وخطير للغاية في قطاعات مثل تكرير النفط البدائي، أو العمل في إصلاح السيارات أو حتى البحث عن النفايات التي تُعاد تكريرها، حيث تتعرض حياتهم للخطر بسبب طبيعة العمل.

أحد هؤلاء الأطفال سليمان الخالدي يبلغ من العمر 10 أعوام، يعيش حاليا في منطقة نهر عيشة بالعاصمة دمشق، حيث قضى معظم حياته منذ نزوحه مع عائلته من ريف محافظة دمشق وهو يعاون أبيه في جمع المخلفات من النفايات وإعادة بيعها لتوفير المأكل وأجرة البيت.

أسوأ أشكال عمل الأطفال في سوريا

“باليوم بجمع حوالي 10 كيلو من الكرتون، وإذا صار معي وقت برجع عالبيت مشان أمي تدرّسني، لأنو اتفقنا مع المدرسة أحضر بس الامتحانات”، هنا يشرح الخالدي الاتفاقية غير الشرعية التي عقدها ذويه مع إدارة المدرسة، من أجل عدم حرمانه من الشهادة المدرسية، فهو يرى نفسه أنه أفضل من غيره من الأطفال الآخرين، لأنه حظي بها.

الخالدي يعمل بجمع الكرتون والعلب البلاستيكية والمعدنية داخل الحي الذي يقطنه، وتارة في الأحياء المجاورة، منذ أربع سنوات. كان يبلغ من العمر 6 أعوام فقط عندما أُجبر على ترك المدرسة ومرافقة والده والبدء في العمل هناك للمساعدة في إعالة أسرته، على الرغم من المخاطر والأمراض المرتبطة بمثل هذه المهام.

جميل الخالدي يوضح، والد سليمان لـ”الحل نت”، “كان عليّ جلبه للعمل في هذه المهنة لساعات طويلة يوميا، على الرغم من المخاطر وصعوبات التنفس واضطرابات الجلد التي لا تؤثر عليّ فحسب، بل تؤثر على جميع الأطفال والعاملين الآخرين في هذه المهنة”.

هذا العمل يتضمن جمع أكبر عدد من المخلفات التي تم رميها داخل حاويات النفايات أو بقربها، لكن مئات الأطفال الذين يعملون في هذا القطاع يجمعون النفايات حتى من المناطق التي لا تزال قيد الإنشاء أو المدمرة، ويتعرضون باستمرار للمواد السامة التي تسبب مجموعة من الأمراض تتراوح من السعال المزمن والربو التحسسي إلى التهاب الشعب الهوائية الحاد والالتهاب الرئوي، فضلا عن مخاطر الانفجارات المميتة الناجمة عن أدنى رقابة.

حقائق عن عمل الأطفال السوريين

في سوريا عمالة الأطفال كانت مشكلة قبل عام 2011، لكن الصراع أدى إلى تفاقم الوضع إلى حدّ كبير، وفق ما تؤكده الباحثة في شؤون الأطفال واللاجئين، لينا الزعبي، لـ”الحل نت”، حيث يعمل الأطفال في أكثر من 75 بالمئة من الأُسر في سوريا، ويُقال إن نصفهم تقريبا يوفرون مصدر دخل “مشتركا أو وحيدا”.

وفقا لحديث الزعبي، فإن الوضع في سوريا يتسم بأشكال خفية من الاستغلال وعمالة الأطفال، فبات من المألوف رؤية الأطفال يعملون في العراء وبمهن قاسية. ومع ذلك، تحولت عمالة الأطفال في سوريا بشكل متزايد نحو العمل في المصانع أو العمل كعمال نظافة، وجامعي قمامة، وعمال بناء، وميكانيكيين أو نجّارين.

القانون السوري طبقا لحديث الزعبي، يمنع أي شخص لم يكمل تعليمه الأساسي أو دون سن 15 من العمل. ومع ذلك، منذ عام 2011، نادرا ما يتم فرض ذلك. ففي دمشق، يمكن العثور على أطفال لا تتجاوز أعمارهم سبع سنوات يعملون، وحتى في الدول المجاورة، يعمل لاجئون سوريون لا تتجاوز أعمارهم خمس سنوات، وأصبح الكثير من الأطفال لا يرونه شيئا غريبا لأنهم محاطون بأطفال آخرين من نفس الأعمار.

تبعا لما تفيد به التقارير الدولية، يتم إرسال الأطفال بعيدا عن عائلاتهم إما داخل سوريا أو إلى دولة مجاورة لكسب المال، وبما أن سوريا والدول المجاورة لها قوانين رمزية لمنع عمالة الأطفال، فإن الأطفال محرومون من أي قوة تفاوضية ويعملون أحيانا 10 ساعات يوميا مقابل دولار إلى دولارين لكل وردية.

تفشي ظاهرة عمالة الأطفال

عشرات آلاف الأطفال في مختلف المناطق السورية يمتهنون مهنا مصنفة دوليا بالقاسية، مثل “نبش القمامة ومسح السيارات على الإشارات وغيرها”، هذا ما أكده معاون وزير الشؤون الاجتماعية والعمل، محمد فراس نبهان، خلال حديثه لصحيفة “الوطن” المحلي، أمس الثلاثاء.

معاون الوزير أوضح أن هذه الظاهرة تُعد عموما من أهم المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمعات وتعود لأسباب عدة أهمها الفقر والحاجة وغياب المعيل والتفكك الأسري في بعض الحالات إضافة إلى التسرب المدرسي، مضيفا “ولا يخفى على أحد الآثار النفسية والجسدية السيئة التي تصيب الطفل العامل جراء هذه الأعمال”.

من وجهة نظر نبهان، الذي لم يقدم حلولا جذرية سواء ذكر القوانين الناظمة في الدستور السوري التي تضمن حق الأطفال، فإن “ظاهرة وجود أطفال بالقرب من إشارات المرور أو في الطرقات يندرج تحت باب التسول، كما تقوم وزارة الداخلية بواسطة قيادات الشرطة في المحافظات بتخصيص أرقام ثلاثية ساخنة للإبلاغ عن أي حالة تسول من المواطنين ومكان وجود الحالة، ليتم ضبطها”.

من جانبها، الدكتورة منى كشيك، رئيسة قسم أصول التربية في كلية التربية في جامعة دمشق، رأت أنه وعلى الرغم من إبرام وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل مذكرتي تفاهم مع منظمة العفو الدولية قبل ما يزيد على 3 سنوات بالالتزام للحد من ظاهرة عمل الأطفال في سوريا ومكافحتها، فإنه ما يزال هناك عشرات الآلاف من الذين تقل أعمارهم عن 15 – 18 سنة، في مختلف المناطق السورية يعيشون في ظروف صعبة ويمتهنون مهنا تصفها المنظمة الدولية بالقاسية.

الدكتورة كشيك، لفتت إلى وجود آلاف الأطفال يعملون في مِهن متعددة بدءا من أعمال البناء الصعبة كنقل الرمل أو حمل البلوك، إلى ورشات للخياطة وصيانة السيارات وغسيل السيارات إلى جانب غيرها من المِهن التي تتطلب جهدا عضليا يزيد على طاقاتهم وقدراتهم الجسدية.

رئيسة قسم أصول التربية في كلية التربية في جامعة دمشق، قالت إنه “على الرغم من الجهود التي قامت وتقوم بها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ما زالت هذه الظاهرة في انتشار واسع في جميع المناطق، وإن دل هذا على شيء فيدل على أن الآليات والجهود التي تقوم بها هذه الوزارة غير كافية للحد من هذه الظاهرة”.

أرقام وحقائق

منذ عام 2018، تعمل منظمة العمل الدولية مع شركاء وطنيين ودوليين في سوريا للحد من أسوأ أشكال عمل الأطفال بين المجتمعات الضعيفة، من خلال منع وسحب وإعادة تأهيل الأطفال العاملين والأطفال المعرضين لخطر عمالة الأطفال، إلا أن النتائج تُظهر عكس ذلك، فالأطفال في سوريا باتوا “بلا حياة”.

تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، بيّنت أن 90 بالمئة من الأطفال في سوريا يستحقون الدعم بعد 12 سنة من الحرب، واصفة عمالة الأطفال بأنها مشكلة واسعة الانتشار وأكثرها تعقيدا من بين مشكلات حماية الطفل، مشيرة إلى أن نحو 2.45 مليون طفل في داخل سوريا و750 ألف طفل سوري في دول اللجوء، لا يذهبون إلى المدارس 40 بالمئة منهم من الفتيات.

السؤال الذي يتردد في بال الكثير من الأطفال في سوريا وهم يعملون، ما الذي يدفعهم لترك مدارسهم والتوجه لسوق العمل مبكرا بل والعمل في أعمال شاقة وخطرة على حياتهم، ومن المُتسبب بذلك.

تُعرّف الأمم المتحدة عمالة الأطفال، بأنها “أعمال تضع عبئا ثقيلا على الأطفال، وتعرض حياتهم للخطر”. وتعتبر عمالة الأطفال انتهاكا للقانون الدولي والتشريعات الوطنية، فهي إما تؤدي لحرمان الأطفال من التعليم، وإما تتطلب منهم تحمل العبء المزدوج، المتمثل في الدراسة والعمل.

وتحدد المنظمة الدولية أسوأ أنماط عمالة الأطفال، وعلى رأسها الاستعباد والاتجار بالبشر وسائر أشكال العمل الجبري، وتجنيد الأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة، وأعمال الدعارة والأعمال الإباحية والأنشطة غير المشروعة. وكل هذه الأنماط يمكن رصدها في ظاهرة عمالة الأطفال في سوريا.

وبحسب تقرير لـ”اليونيسيف”، فإن “أربعة من بين كل خمس أشخاص في سوريا يعيشون تحت خط الفقر. ما يدفع بالأطفال لاتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، مثل التوجّه إلى عمالة الأطفال، وزواج القصّر، والتجنيد للقتال، وذلك لمساعدة عائلاتهم”.

بالنسبة إلى سليمان والعديد من الأطفال في سوريا، فإن معالجة هذه المشكلة تتطلب من مختلف الجهات الفاعلة الإنسانية أن تجتمع معا لتحديد الأطفال الذين يعملون أو المعرضين لخطر الاضطرار إلى العمل، ولضمان حصول العائلات على النقد والدعم اللازمين للوصول إلى العمل ومصادر الدخل، ولتمكين أن يذهب الأطفال إلى المدرسة، ومساعدة العائلات على التعافي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.