في الوقت الذي بدأت فيه دوريات حماية المستهلك بتنفيذ إجراءاتها القاسية برأيها والمدغدغة للتجار برأي المواطن المنتظر لأي بارقة أمل برفع الرواتب والأجور، أعلنت رئاسة مجلس الوزراء، أمس الثلاثاء، موازنتها للعام القادم بزيادة 24.2 بالمئة الأمر الذي وجد به أصحاب الشأن الاقتصادي إقرار واعتراف بالتضخم حيث تمت زيادة الموازنة بمقدار التضخم.

هذه الموازنة برأي الخبراء الاقتصاديين، ليست سوى أكثر من دليل ملموس على عجز البنك المركزي عن السيطرة على التضخم، واعتراف شفهي من اللجنة الاقتصادية في الحكومة بعجزها عن الخروج بحلول أو بأفكار إبداعية من شأنها أن تساعد في السيطرة على هذا التضخم والحفاظ على استقرار الأسعار، فضلا عن عجزها على المحافظة على القدرة الشرائية لليرة السورية بالتالي زيادة تراجع قدرة الدخل على الاستهلاك.

وجود عشرات إشارات الاستفهام حول أرقام الموازنة، يقود بالضرورة إلى التنبؤ بأثرها الإضافي على التدهور المعيشي في سوريا، فما الذي ستحققه الموازنة العامة لسنة 2023، وما ينتظر السوريين على الصعيد الاقتصادي، هل ارتفاع أسعار متزايد أم زيادة تخلي الدعم الحكومي عنهم، والسؤال الأهم ماذا عن قيمة العملة وسعر صرف الليرة السورية.

كيف قسمت الميزانية العامة لسوريا؟

في جلسته الأسبوعية أمس الثلاثاء، أقر مجلس الوزراء برئاسة، حسين عرنوس، مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2023 بمبلغ 16550 مليار ليرة سورية، بزيادة قدرها 3225 مليارا مقارنة بموازنة العام 2022 وتوزعت الاعتمادات على 13550 مليارا للإنفاق الجاري و3000 مليار للإنفاق الاستثماري، وتم إقرار الدعم الاجتماعي بمبلغ 4927 مليارا، كما تم اعتماد كتلة الرواتب والأجور والتعويضات بنحو 2114 مليار ليرة، بزيادة 33 بالمئة عن موازنة العام 2022.

وبشأن الموازنة التي وافق عليها المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي، بما يزيد على موازنة العام الماضي بـ24,2 بالمئة، ذكرت صحيفة “الوطن” المحلية، أنها شهدت تخفيضا بنحو 600 مليار من اعتمادات الدعم، ومع الأخذ بالأرقام الثابتة بعد تصحيحها بنسبة التضخم، وهذه الاعتمادات فعليا أقل من اعتمادات العام الحالي.

دكتور الاقتصاد في جامعة دمشق، شفيق عربش، يرى أن العجز في الموازنة لن يسد، لأنه إذا أخذت بعين الاعتبار تصريحات القائمين على قطاع النفط وخاصة آخر تصريح للمدير العام لشركة محروقات قبل الزيادة الأخيرة للمشتقات النفطية، والذي أعلن فيه عبر شاشات الإعلام الرسمي، أن الدعم يكلف دعم المشتقات بـ 30 مليارا يوميا ما يعني أن الحاجة 11 ألف مليار، على حين المخصص 3 آلاف مليار.

أما بالنسبة للسكر والرز افترض دكتور الاقتصاد أنه في حال كان الدعم بـ 4000 ليرة للكيلو، يتبين أن المواطن لن يحصل على المخصصات الشهرية على مدار العام القادم. وفيما يتعلق باعتمادات الرواتب والأجور البالغة اعتماد كتلة الرواتب والأجور والتعويضات بنحو 2114 مليار ليرة، رأى عربش أنها تعني أنه لا أمل أبداً في تحسين الرواتب والأجور المنخفضة أصلاً قياساً على واقع الأسعار في الأسواق.

في الوقت الذي أشار إلى أن الموازنة لم تتحدث عن موارد الدولة، ولم تشر إلى نسبة العجز بالموازنة وكيف سيغطى هذا العجز، مضيفا أن “الموازنة غفلت عن دعم الكهرباء، ولا أعرف إن كان هذا يبشر برفع أسعار الكهرباء المنزلية أو التجارية والصناعية، واضعاً السؤال برسم الحكومة”.

ميزانية سوريا تحت المجهر الاقتصادي

في تفصيل لخفايا الموازنة المالية الحالية وآثارها، يقول الخبير في اقتصاديات الدخل والمالية العامة في الشرق الأوسط، آلان كروجر، إن الميزانية الجديدة بإجمالي المبلغ المعتمد 16550 مليار ليرة سورية، أكبر من أي موازنة سابقة تم إقرارها في تاريخ سوريا عند تقييمها في الخطة الاستراتيجية.

إلا أنها تعتبر من أقل الميزانيات التي وضعتها الحكومة عند احتسابها بالعملة الأجنبية، إذ بلغت ميزانية 2020، 4 تريليونات ليرة سورية أي نحو 9 مليارات دولار، بينما كانت ميزانية 2019، 3.8 تريليون ليرة سورية أي ما يقرب من 9 مليارات دولار، وميزانية 2022 المعتمدة بحوالي 6 مليار دولار أميركي وفقا لسعر صرف الليرة السورية الحالي (2512 ليرة سورية لكل دولار أميركي) في البنك المركزي.

الميزانية الحالية وفق كروجر، تمثل زيادة اسمية بنسبة 113 بالمئة عن ميزانية 2020، و33 بالمئة عن عام 2022، ومع ذلك، من حيث القيمة الدولارية، تراجعت الميزانية إلى 3.86 مليار دولار، بانخفاض أكثر من 10 بالمئة عن العام الماضي، لكن هذا لا يوضح سوى جزء من القصة.

في الميزانية الحالية، يرى كروجر، أن ملفات مهمة استثنيت من الميزانية التي يُنظر إليها على أنها انعكاس لطموحات الدولة أكثر من قدراتها. مضيفا “في الواقع، تعتبر الميزانية أداة علاقات عامة، وهي تُظهر كيف تحاول الدولة السورية توسيع مواردها المتناقصة لتغطية الاحتياجات المتزايدة”.

بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تشهد قيمة الليرة السورية مع الميزانية الجديدة للعام القادم، وفقا للخبير الاقتصادي، مزيدا من الانخفاض خلال العام المقبل مما يعني انخفاض القدرة الفعلية لهذه الميزانية.

كروجر يضيف، أنه مع انهيار الاقتصاد الإنتاجي، والصناعة الوطنية، وقطاع الخدمات، تركز الحكومة السورية نصيبا أكبر من مواردها المحدودة على الدعم الاجتماعي الأساسي. على سبيل المثال، تخصص الميزانية 100 مليار ليرة سورية فقط للشركات المملوكة للدولة وتخصص 40 مليار ليرة سورية فقط للقطاعات المستهدفة، بما في ذلك الزراعة والسياحة والصناعة، فيما يوجد ملفات حاسمة غائبة عن مشروع الموازنة بالكلية، من بينها قطاع الكهرباء وصندوق الدولة لإعادة الإعمار.

تغييرات في عملية إعداد الموازنة في سوريا

إذا كانت الموازنة تقاس بالليرة السورية نجد أن قيمتها ترتفع بشكل ملحوظ، حيث تبدأ من 0.8 تريليون عام 2011 إلى أكثر من 13 تريليون ليرة سورية عام 2022، ولكن عندما تقاس بالدولار الأميركي نجد أنها كذلك متراجعة بشكل ملحوظ، إذ كان في عامي 2011 و2012 نحو 17 مليار دولار، لتصل إلى أقل من 4 مليارات دولار عام 2022، بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية، وتراجع القوة الشرائية، وارتفاع التضخم في سوريا.

توضح الميزانية عاما بعد عام تزايد العجز المعلن في الميزانيات بشكل متزايد، في حالة موازنة 2011 شكل العجز 25 بالمئة، وفي 2014 و2015 بلغ 40 بالمئة، ورغم انخفاضه بشكل طفيف عام 2017، عاد إلى نحو 40 بالمئة عام 2020 وبلغ نحو الثلث عام 2021 كعجز فعلي، وكانت أكبر بكثير من ذلك، حيث وصلت في بعض الموازنات إلى أكثر من 75 بالمئة.

الحكومة السورية استطاعت تقليص العجز في بعض السنوات بالاعتماد على الديون الخارجية وخاصة من شركائه الرئيسيين، وكذلك باللجوء إلى الإتاوات ومصادرة أموال التجار والصناعيين كما هو الحال في عام 2020، وكذلك يُعتقد أن هذا النهج استمر في عام 2021 وأن يكون هو نفسه في عام 2023.

ما ينتظر السوريين على الصعيد الاقتصادي؟

إعلان الميزانية رافقه تعهدات حكومية بإعطاء الأولوية للدعم الاجتماعي والمشاريع الصناعية والزراعية الصغيرة والمتوسطة. على الورق، تمثل التعهدات قفزة كبيرة من عام 2020، ومع ذلك، فقد قوبل الإعلان بشكوك، خصوصا مع تراجع إيرادات الدولة بنسبة 80 بالمئة على الأقل منذ عام 2011، بسبب تقلص تحصيل الضرائب، وتقسيم قطاع النفط والغاز، والانخفاض الكبير في الصادرات من جميع الأنواع وسط دمار واسع النطاق.

من المرجح برأي الخبير في اقتصاديات الدخل والمالية العامة في الشرق الأوسط، أن تلجأ الحكومة السورية إلى ثلاثة مقاربات لتمويل خطط الإنفاق الخاصة بها. أولا، طباعة المزيد من الأموال، وهنا قد يغطي هذا الإجراء الفجوات النقدية، لكنه سيؤدي أيضا إلى زيادة التضخم، وتقويض سُبل العيش، ويزيد من تآكل قدرة الدولة على تمويل الواردات الحيوية.

ثانيا، قد تلجأ دمشق إلى حليفتيها روسيا وإيران، عبر الدعم العيني مثل “خط الائتمان” الإيراني. ومن المتوقع أن تكون التنازلات في قطاعات رئيسية، مثل الطاقة والاتصالات والموارد الطبيعية هي الثمن الذي يجب دفعه مقابل هذا الدعم.

وطبقا لما يراه كروجر، فإنه إذا أخفقت الحكومة في الوفاء بتعهداتها، فمن المرجح أن يواجه الدعم الاجتماعي المقدم للمواطنين في سوريا المزيد من التقليص كما حصل هذا العام، خصوصا مع إعلان الحكومة في وقت سابق أنها بصدد الذهاب نحو التقشف وإلى إجراء المزيد من التغييرات على خطط دعم السلع الأساسية مثل الوقود والخبز، والتي هي بالفعل في أزمة، وهذا بدوره قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويترك السوريين لمواجهة الفقر بأنفسهم.

وعليه، فإن المشكلة الحقيقية لا تتعلق فقط بتغطية العجز، بل تطرح السؤال عن آليات تمويل الموازنة في ظل تعطل حوامل الاقتصاد، وندرة العوائد الحكومية وتوقف إيرادات مختلف القطاعات الاقتصادية والتجارية والزراعية والاستثمارية، وتراجع حجم الصادرات إلى معدلات كبيرة جدا، ما يترك السوريين في عام 2023 أمام أقسى عام اقتصاديا ومعيشيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.