بعد عدة أشهر من الجمود، فشل رئيس الوزراء المعين من قِبل البرلمان، فتحي باشاغا، في الإطاحة بمنافسه عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة “الوحدة الوطنية المؤقتة” الذي تم تعيينه رئيسا للوزراء من خلال عملية دعمتها الأمم المتحدة العام الماضي، وحتى الآن، رفض الدبيبة التنازل عن السلطة.

لهذا السبب، في ليلة الجمعة 26 آب/أغسطس 2022، اقتحم باشاغا، برفقة مقاتلين متحالفين، طرابلس في محاولة للسيطرة على الحكومة في هجوم عسكري سريع. ومع ذلك، سرعان ما قوبل بمعارضة من القوات المتحالفة مع الدبيبة، واندلعت اشتباكات بين الميليشيات المتناحرة، مما أسفر عن مقتل 32 مدنيا على الأقل.

التطور الكبير في القضية، هو إعلان قائد “الجيش الوطني” الليبي، خليفة حفتر، في الأسبوع الفائت، عن الاقتراب من اتخاذ ما وصفه بالقرار الحاسم لتحديد المسار نحو “استعادة الدولة”، حيث قال،” سنتحرك انسجاما مع إرادة الشعب الليبي بعد أن أوصلتنا كل المسارات السابقة إلى طريق مسدود ونتائج مخيبة”، وجدد نيّه بذلك من خلال استعراض ما يمتلكه “الجيش الوطني”، من مقاتلات حربية، بعد التصريح بأيام.

هذا التصعيد العسكري المتزايد صعّدت المخاوف من انجرار البلاد إلى معركة عسكرية جديدة، ما أرغم العديد من أصحاب المصلحة لإصدار البيانات والإعلانات المشتركة، للتأكيد على أن الحل السياسي وحده هو الذي سيحل الأزمة الليبية ويهددون بمحاسبة أي فصيل أدى إلى تصعيد الصراع. لكن في الواقع، لعب معظم أصحاب المصلحة طوال الوقت على مجالين، الأول المجال الدبلوماسي، حيث يكررون باستمرار دعمهم للحلول السياسية والمبادرات التي تقودها الأمم المتحدة، ثم ساحة المعركة، فهل ما يزال الحل السياسي في ليبيا لديه حظوظ أم سنزلق البلاد نحو الاحتكام للسلاح.

خيارات صعبة

أرغم تصاعد المخاوف من اندلاع حرب جديدة، عدة أصوات لمطالبة ساسة البلاد بضرورة التوافق على قواسم مشتركة تمنع الانزلاق إلى الاحتكام للسلاح، حيث جدّد التلويح العسكري بين جبهتيْ شرق وغرب البلاد في ليبيا الدعوات المُلحة لاستعجال حلّ سياسي، وضرورة كسر الجمود السياسي، والتفاوض بين الأطراف المتنازعة قبل جرّ البلاد إلى حرب جديدة.

الخبير في الدبلوماسية الدولية وعمليات حفظ السلام والاستقرار، دانيال إيجل، أوضح في حديثه لـ”الحل نت”، أنه على عدة مستويات يعكس الصراع في ليبيا مرة أخرى، مجتمعا دوليا منقسما ومستقطبا في الشرق الأوسط الذي لا يزال يحاول شق طريقه منذ عام 2010.

وعلى الرغم من الجهود المتضافرة، ولأسباب لا تُعد ولا تحصى، بحسب إيجل، لم يتمكن المجتمع الدولي من دفع سلام تفاوضي إلى الأمام. وفي الآونة الأخيرة، كان التأثير الروسي والتركي وحده هو الذي حرك العجلة. حيث كثّف البلدان تدخلاتهما في ساحة المعركة، وعلى الرغم من اقتناع الأطراف المتنافسة بالالتزام بوقف إطلاق النار، وللتفاوض على اتفاق سلام، إلا أن توقيع الاتفاقيات الأخيرة بين تركية وحكومة الدبيبة المنتهية ولايتها، حدّ من ظروف إنهاء الصراع من خلال طريق سياسي.

يرتبط عدم الاستقرار السياسي المستمر في ليبيا ارتباطا وثيقا بالتحديات الاقتصادية، وفقا لإيجل، حيث أدى التنافس على السيطرة على الموارد النفطية المصدر الأكثر ربحا للإيرادات العامة في ليبيا، والدورة المستمرة للعنف السياسي الذي تحركه النخبة، إلى إعاقة جهود الحكومة الليبية للحد من الفقر وعدم المساواة الاقتصادية وتوفير الرعاية الاجتماعية.

هذا العنف هو نتيجة وجود حكومات موازية واختلاس موارد الدولة، ويجب على الأطراف الليبية والمجتمع الدولي الاعتراف بعدم وجود حل عسكري لأزمة ليبيا. وبدلا من ذلك، يجب على جميع الأطراف الليبية المشاركة بشكل بنّاء في عملية سياسية بوساطة الأمم المتحدة، بدعم من المجتمع الدولي الأوسع، للاتفاق على مسار نحو انتخابات حرة ونزيهة وشاملة في أقرب وقت ممكن.

حل حقيقي أم وهم؟

زيادة في النشاط التركي المفاجئ، أثار العديد من التساؤلات حول عودة المعارك إلى ليبيا، واحتمالية أن تنعكس الاتفاقية التركية الجديدة مع ليبيا في علاقتها مع القوى الداخلية الليبية وظروف إنتاج حل سياسي، ومسار حل سلام دائم داخل البلاد التي تعيش أزمة حروب مستمرة منذ عقد.

وسط المأزق السياسي في ليبيا، أدى تجدد المنافسة بين مجلس النواب ومقره طبرق وحكومة “الوحدة الوطنية” التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، إلى شل إطار العمل الذي أقرته الأمم المتحدة، والذي انبثق عن منتدى “الحوار السياسي” الليبي. كما أدت هذه المنافسة بين النخب إلى جذب الانتباه بعيدا عن الدوافع الأساسية للعنف وانعدام الأمن، وتسببت في تدهور الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية وحقوق الإنسان.

حول شرعية العملية وقابليتها للتطبيق السياسي، يُنظر إلى العديد من الأطراف الليبية على أنهم جزء من المشكلة واستفادوا من عدم الاستقرار في البلاد. لذلك من غير الواضح ما إذا كان لديهم مصلحة في التوصل إلى اتفاق.

في ظل الوضع الحالي، يرى إيجل أن مستقبل السلطة التنفيذية في ليبيا محل تكهن، يبدو أنه لا توجد تسوية سياسية شاملة، والطرفان لديهما النّية بالتحول إلى الحرب. كما إن عدم وجود حل سياسي في الأفق يُزيد من مخاطر اندلاع أزمة وشيكة، حيث لا يمكن أن ينتهي المأزق إلا بتنازل باشاغا والسماح للدبيبة بالاحتفاظ بمنصبه حتى إجراء الانتخابات، أو لجوء باشاغا إلى القوة العسكرية.

ويعتقد إيجل أن الخيار الثالث، هو نقل السلطة إلى طرف ثالث بينما يتم التفاوض على خارطة طريق سياسية جديدة تؤدي إلى الانتخابات ووضعها. ومع ذلك، نظرا لعدم وجود خطط لإجراء انتخابات في أي وقت قريب، لا يزال مستقبل البلاد غير واضح، مما يجعل القادة الليبيين مترددين في التنازل عن السلطة أو ترك مناصبهم.

على الرغم من الاختلافات الكبيرة حول كيفية رغبة الليبيين في تجاوز الأزمة الحالية، إلا أنهم شبه مجتمعيين في إدانتهم لوجود مرتزقة ومقاتلين أجانب وقوات أجنبية، والتدخل الأجنبي المستمر في شؤون البلاد. لذلك فإن حل الأزمة يجب أن يأتي من داخل ليبيا، بناء على إرادة الشعب الليبي.

التدخل الأجنبي والوضع السياسي المعقد

بعد إعلان تركيا في الـ 3 من تشرين الأول/أكتوبر الفائت عن توقيعها مذكرتي تفاهم في مجال عمليات التنقيب على الغاز والاستثمار النفطي، مع حكومة الدبيبة المنتهية مدتها، شهِدت الأراضي الليبية تحركات واستعراضات عسكرية من الجانبين، حيث قامت حكومة الدبيبة مؤخرا بدعم كافة التمركزات الأمنية في المنطقة الغربية والوسطى، كما أجرت قواتها مناورات لرفع جاهزيتها وتعزيز استعداداتها، وذلك بعد أيام من استعراض عسكري لقوات الجيش الليبي في مدينة سبها جنوب البلاد بحضور الجنرال حفتر.

توتر العلاقات بين طرفي النزاع انعكس في إظهار كل طرف مدى قدرته على حسم المعركة، من ضمنها توقيع عبد الحميد الدبيبة، اتفاقيات عسكرية مع حلفائه الأتراك لرفع كفاءة الطيران العسكري؛ بغية التحضّر لـلمستقبل.

اندلاع الأزمة الحالية كان أبرز مسببيها الدبيبة، الذي لم يتنازل عن السلطة بعد انتهاء ولاية حكومته، وفق ما نقلته صحيفة “الشرق الأوسط”، وذهب نحو تحصّنه بأنقرة، ودخوله معهم في مباحثات جديدة أثمرت توقيع اتفاقيتين عسكريتين. تنص الاتفاقية الأولى على رفع كفاءة قدرات الطيران الحربي في غرب ليبيا بالاستعانة بالخبرات التركية في هذا المجال، كما تضمنت الاتفاقية الثانية بروتوكولات تنفيذية للاتفاقية الأمنية، الموقّعة من قبل المجلس الرئاسي لحكومة “الوفاق الوطني” السابقة عام 2019.

في حين رأى البعض ما أقدم عليه الدبيبة تصعيدا لافتا وخرقا لـ”اتفاق وقف إطلاق النار”، نشر “الجيش الوطني” للمرة الأولى صورا لمقاتلات حربية رابضة في قاعدة “الجفرة” الجوية، في أعقاب زيارة حفتر للمنطقة، وتوعده بـ”خوض المعركة الفاصلة”.

من جهتها، بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في موقف صعب داخل البلاد؛ حيث تحاول تنفيذ الأجندة المتفق عليها مع إدارة المصالح المتضاربة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لا سيما في مجلس الأمن. أقر العديد من المشاركين بأن المصالح الوطنية للدول الأعضاء الأخرى ما زالت تؤثر بشكل كبير على المصالح السياسية وديناميكيات الصراع في ليبيا.

في غضون ذلك، فإن المواجهة بين حكومة “الوحدة الوطنية” التي تستمر في الإصرار على أنها ستنقل السلطة فقط إلى حكومة منتخبة ومنافستها التي يديرها فتحي باشاغا، قادرة على تقويض أي عملية سياسية، كما تفعل الجهات الخارجية المتنافسة المتحالفة مع الفصائل المحلية. ربما شهدت ليبيا سلاما هشا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2020، لكنها لا تزال منقسمة بشكل خطير ولا يمكن استبعاد العودة إلى العنف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة