يبدو أن التطورات الميدانية للغزو الروسي لأوكرانيا، بات يفرض واقعا آخر عما كانت عليه مجريات الأمور، إذ أن تحول روسيا من وضعية الهجوم إلى وضعية الدفاع عن المناطق التي احتلتها منذ بداية المعارك في شباط/فبراير الماضي، مع التقدم المستمر للقوات الأوكرانية التي تصر على تحرير كامل أراضيها، بات يضع خيارا المفاوضات أمام الجميع.

ما يعزز ذلك أكثر، الحديث عن خسائر بشرية فادحة تصل إلى أكثر من ٢٠٠ ألف بين قتيل وجريح من الطرفين، ومع ما تكبدَته موسكو من خسائر اقتصادية وسياسية واستراتيجية كبيرة، جعلتها في حيرة من موقفها أمام خسائرها وتصاعد نبرة إيقاف الحرب في الداخل الروسي.

ليست الأوضاع على مستوى روسيا وأوكرانيا وحدها من تدفع باتجاه ذلك، بل أن الأوضاع في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومع تصاعد أزمة الطاقة، تضغط كلها باتجاه فتح قنوات مفاوضات لتهدئة ما، تمنع الانزلاق إلى أبعد مما هو عليه الوضع الآن بعد أكثر من ثمانية أشهر ونصف الشهر من الحرب الروسية على أوكرانيا.

المؤشرات على تجميد الصراع والذهاب نحو مفاوضات سلام، تتزايد بشكل كبير، على الرغم من أن المواقف المعلنة لا تبشّر بقرب التوصل إلى تسوية مُرضية للطرفين الروسي والأوكراني، لكن التواصل الأميركي الروسي الأخير، ومع انسحاب الجيش الروسي من مقاطعة خيرسون الأوكرانية ذات الأهمية البالغة للطرفين، تلوّح إلى رغبة موسكو بفتح مفاوضات تفضل أن تكون مع الولايات المتحدة ضمن صفقة شاملة، لا تقتصر على أوكرانيا بل تطال ملفات التوازن الاستراتيجي وتمديد اتفاقية “ستارت 3”، المتعلقة بالحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية لدى البلدين، والعلاقة المستقبلية مع “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو) ورفع جزء من العقوبات الغربية على موسكو.

يأتي ذلك في الوقت الذي كشفت فيه صحيفة “واشنطن بوست” خلال الأسبوع الماضي، أن الولايات المتحدة شجعت حكومة كييف سرا من أجل اظهار انفتاحها على مفاوضات مع روسيا، مبينة أن رفض أوكرانيا التفاوض سيجر تبعات كبيرة على تكلفة الغذاء والوقود، وهو ما يفرض على كييف الجلوس على طاولة المفاوضات، بمحاولة وصفتها واشنطن بالمحسوبة لضمان أن تحافظ كييف على دعم دول أخرى.

اقرأ/ي أيضا: بعد الانسحاب من خيرسون.. ماذا يخطط الجيش الروسي؟

روسيا تغازل؟

بدورها، أعلنت روسيا الثلاثاء موقفها من استئناف المفاوضات مع أوكرانيا، ووضعت شرطا رئيسيا مقابل عودتها إلى طاولة المحادثات، في وقت اعتبرته واشنطن فرصة سانحة للانخراط في مستويات عُليا من التواصل مع الروس، لاسيما مع تصاعد المعارك على جبهات دونيتسك شرقي أوكرانيا، وانسحاب الجيش الروسي من خيرسون جنوبا.

روسيا تقول، ليس لديها شروط مسبقة لإجراء مفاوضات مع أوكرانيا، لكن يتوجب على كييف إبداء حسن النية، في وقت أن هناك جهات أخرى تعمل إعلاميا ورسميا لبدء مفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، بخاصة “البيت الأبيض”، الذي طالب كييف بالمرونة في قبول المفاوضات.

في المقابل، يبدو أن كييف تتجه إلى تقديم بعض التنازلات عن الشروط التي طرحتها سابقا نتيجة فقدان الهجوم البري الأوكراني زخمه، بعد الاختراقات الكبيرة في الشهرين الماضيين في خاركيف وليمان، ومخاوف أوكرانيا من أن يطول أمد الهجوم لتحرير خيرسون، بسبب عدم وجود يقين بشأن مخططات روسيا في المدينة التي بات الجزء الغربي منها فارغاً وبحكم الساقط استراتيجيا.

إذ أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أمر أمس بانسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى (الغربية) لنهر دنيبرو في خيرسون. وقال على التلفزيون نفذوا انسحاب الجنود، وذلك بعد اقتراح من قِبل قائد العمليات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين الذي أقرّ بأنه ليس قرارا “سهلا“.

في غضون ذلك، انتقلت روسيا إلى استهداف البنى التحتية للطاقة والمياه في مختلف المدن الأوكرانية، انتقاما لاستهداف أوكرانيا مدينة سيفاستوبول، مركز أسطول البحر الأسود الروسي.

اقرأ/ي أيضا: الخلافات الألمانية الفرنسية.. تهديد لوحدة “الاتحاد الأوروبي”؟

المفاوضات على حساب الحرب

الطرفان الروسي والأوكراني يواجهان أوضاعا صعبة في ميدان المعارك في دونيتسك في محور باخموت والمناطق المحيطة بها. ولم يسهم الزج بمرتزقة “فاغنر” وجنود الاحتياط، في تحقيق أي تقدم في الأسابيع الأخيرة بالنسبة لروسيا، لاختراق الدفاعات الأوكرانية المتماسكة منذ بداية الغزو في 24 شباط/فبراير الماضي في هذه المنطقة، كما لم يستطع الأوكرانيون التقدم كثيرا في مقاطعة لوغانسك، استكمالا للهجوم الذي بدأ قبل نحو شهرين في خاركيف.

كلها تلك مؤشرات تدفع باتجاه جلوس الطرفين في محادثات لتسوية توقف الحرب التي شردت ملايين الأوكرانيين، وتسببت بأزمة طاقة وغذاء عالميتَين، في حين قالت صحيفة “وول ستريت جورنال”، إن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، أجرى محادثات سرية مع الجانب الروسي، وهو ما قال حوله “الكرملين” إن وسائل الإعلام البريطانية والأميركية تورد الكثير مما وصفها بالمعلومات الكاذبة.

لكن مع ذلك، فقد قال مستشار الأمن القومي الأميركي، إن الفرصة سنحت للانخراط في التواصل على مستويات عليا مع الروس من أجل خفض المخاطر وتقليص فرص أي استخدام محتمل للأسلحة النووية، وتوضيح عواقب استخدامها، مؤكدا بذل جهود كبيرة خلال الأشهر الماضية لخفض أسعار الطاقة، مع الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالمعدات الضرورية.

ومع التأكيدات الروسية على الانفتاح على أميركا في المجالات التي تتطلب ذلك، ومع تعثر عمليتها العسكرية واليقين بأن الضربات الصاروخية لن تحسم الحرب واقتراب الشتاء، من الواضح أن روسيا لا تمانع في خوض مفاوضات يمكن أن تؤدي إلى تجميد الصراع لفترة الشتاء على الأقل، بانتظار استكمال تدريب جنود الاحتياط وتعويض النقص في الأسلحة والعتاد.

بوتين أمام تحدي الشارع

إضافة إلى ذلك، تراهن موسكو على الشتاء، حيث يمكن أن يحمل أنباء سارة من أوروبا في حال كان قاسيا وعانت مدنها من انقطاع الكهرباء وتوقف جزء من المصانع نتيجة نقص الغاز، وبالتالي زيادة النقمة الشعبية على الحكومات الأوروبية ما يجبرها على وقف دعم أوكرانيا وإجبار زيلينسكي على التفاوض بالشروط الروسية، وهو ما يبدو بعيدا عن الواقع في ظل استمرار تأكيدات أميركية على دعم أوكرانيا وتزويد أوروبا بالغاز.

تزايد أعداد قتلى الروس هو ما يقلق موسكو أكثر، وما قد يدفعها إلى القبول بتهدئة أو تجميد الصراع، على ألا يتسبب ذلك بإثارة الاحتجاجات في الشوارع الروسية، على وقع تدهور الأوضاع الاقتصادية، بسبب حزم العقوبات الغربية المتتالية على الاقتصاد، ونزوح الشركات ورؤوس الأموال، والحديث عن إمكانية فرض عقوبات إضافية على قطاعي الغاز والنفط، اللذين يزودان الخزينة الروسية بأكثر من نصف وارداتها.

مع المخاوف من العقوبات الغربية وتأثر الاقتصاد الروسي بشكل كبير، باتت موسكو تحت ضغط كبير لا سيما مع استدعائها مؤخرا نحو 500 ألف شاب للخدمة ضمن التعبئة الجزئية، ما حرم الاقتصاد الروسي من أكثر من مليون عامل وهو عدد الجنود المشاركين في الغزو، ووضعها تحت ضغط النفقات المتزايدة من أجل تجهيز جنود الاحتياط بالألبسة والمعدات، ما يعني تحول الاقتصاد إلى حالة الحرب عمليا، وهو ما قد يدفع بوتين إلى وقف الحرب.

كما أن هناك مخاوف من تمكّن أوكرانيا التي تحرز تقدما كبيرا في المعارك الأخيرة، من استعادة المزيد من الأراضي، وهو ما سيضع القيادة الروسية أمام تهديد سياسي واستراتيجي كبير.

اقرأ/ي أيضا: تعثر المفاوضات بين إيران و”الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.. ما هي اتفاقية الضمانات؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة