هناك خطاب رائج ومقبول اجتماعيا، بأن النساء لا يستطعن الجمع بين العمل خارج المنزل وداخله، إحدى النقاط التي يسعى هذا الخطاب لتحقيقها ضمنا هي منع النساء من النجاح في مهنهن، فالنساء اللواتي يستطعن الوصول لتحقيق أحلامهن في الحياة العملية، هن قليلات جدا مقارنة بالرجال وتلك حقيقة.

عادة ما يرتبط نجاح إحداهن بوصفها عصابية أو متمردة أو أنانية وفاشلة في حياتها الزوجية، هذا الربط له بعد داخلي عميق لدى الجنسين بقناعات راسخة عما يمكن لكل منهما إنجازه، والميزات التي يتمتع بها الإنسان الناجح والتي ترتبط بشكل أساسي بكونه ذكر، فما الأسباب التي تمنع النساء من النجاح بمهنهن.

نمط الحياة

مجموعة من القيم الراسخة تحكم المجتمعات، حيث يصعب خلخلتها أو تجاوزها في وقت قصير، وتتداخل هذه القيم مع بعضها البعض لتشكل مجموعة من القيود والضوابط التي تحكم سلوكيات الأفراد، تنتمي النساء إلى الفئة الأكثر تقييدا بالضوابط الأخلاقية والدينية، ومع الزمن هذه الضوابط تحولت إلى نمط عيش تخضع له النساء ويرسم شكل حياتهن.

في المجتمع السوري يمكن تعميم النمط التقليدي للمرأة وحياتها داخل المنزل ومع الأولاد، الخروج عن هذه القاعدة لا زال ضئيلا ومحدودا، منال الجابر، سيدة سورية تبلغ من العمر 35 عاما، تتحدث عن حياتها المهنية وصعوبة التوفيق بينها وبين حياتها الخاصة لـ “الحل نت”، حيث تقول، بإنها “تزوجت منذ ثماني سنوات، ولديها طفلان. تعمل منذ سنتين كمساعدة في مكتب لهندسة العمارة، بعد تخرجها وزواجها، اضطررت للتوقف عن العمل بسبب الإنجاب، الآن عادت من جديد لكن ليس هناك أفق لتغييرات كبيرة في وضعها الوظيفي، فهي تقوم بواجبها لتحصل على الراتب نهاية الشهر، وفكرة تطوير نفسها أو تحقيق أهداف كبيرة أصبحت غير موجودة لديها” بحسب تعبيرها.

غالبا ما تتخلى النساء عن أحلامهن في وقت مبكر، وهذا طبعا في حال كانت لديهن أحلام، بعض الفتيات يتربين على هاجس واحد وهو إيجاد زوج وعائلة، ولا يمكننا لومهن على ذلك، فالسلوكيات التي يتربين عليها والتي تحفز هذا التفكير لديهن طوال الوقت خارجة عن إرادتهن، وغالبا ما يصلن إلى الوقت الذي يرغبن بالتغيير فيه متأخرات.

سمر سلوم، 34 عاما، سيدة سورية أخرى لديها أربعة أولاد وزوجها متوف في الحرب، لم تخرج من المنزل أثناء زواجها، ولكنها بعد وفاة الزوج بدأت بالبحث عن عمل. تتحدث لـ “الحل نت”، قائلة “لم أكن أعرف أن الحياة واسعة هكذا، كنت أظن أنه لا يمكنني العيش خارج حدود منزلي، الآن أنا أخرج وأتسوق وأعمل، بعد أن تعلمت مهنة الخياطة في ستة أشهر وبدأت أعمل على مشروعي الخاص، والذي أهدف منه إلى إعادة خياطة ألبسة قديمة بشكل جديد. ما أشعر به أن النساء يستطعن العمل والنجاح مثل الرجال، إن لم يحبسوا في منازلهم” وفق وصفها.

النساء يحاولن جاهدات أن يفعّلن نقاط قوتهن الداخلية التي تمحى منذ سنواتهن الأولى، نجاح إحداهن يتوقف على الكثير من الجهد والمحاربة، فالعوائق ليست متعلقة فقط بالقيود التي تمارس على حياتهن الشخصية، بل تمتد لتشمل قوانين العمل والتراتبية المهنية والتفضيلات المبنية على الجنس.

التربية ووسط العمل والوسط الاجتماعي

النساء تنتمي إلى الفئات المهيمن عليها ثقافيا وسياسيا، وتلجأ السياسات العامة والسياسات داخل المؤسسات إلى فرض الهيمنة الذكورية وإعطائها القيمة العليا، يتمثل هذا الفرض بأشكال متعددة حتى وإن لم تكن ظاهرة، فالهيمنة الرمزية والعنف الرمزي الذي يمارس على النساء، يشكلان عائقا نفسيا يعطل فاعليتهن ونجاحهن، يبدأ ذلك من الكتب المدرسية وأساليب التربية المتبعة فيها، لينسحب على جميع أشكال الحياة إن كانت اجتماعية أو ثقافية.

 هناك منظومة كاملة قائمة على استبعاد المرأة من الأماكن التي يمكنها النجاح فيها أو تطوير نفسها، والأساليب لذلك متعددة، فعدم الأمان الذي تعانيه النساء في أماكن العمل بالإضافة للمقارنات مع الرجال وقدراتهن، كل ذلك يؤدي إلى إشغال النساء بالبحث عن أمانهن النفسي، وإثبات قدراهن لأنفسهن بما يستطعن فعله.

تلك عملية معقدة تعرفها معظم النساء، فبدل أن ينخرطن في الإنجاز يهدرن وقتهن في محاولات إثبات الوجود الشكلي والاجتماعي عبر تبني نمط معين من السلوكيات وطريقة الكلام، دون أن يدركن الفخ الذي وقعن به والذي يحيدهن عن الفعل الحقيقي لإثبات أنفسهن.

 سلمى منير، فتاة سورية  تبلغ من العمر 30 عاما، تعمل مهندسة صوت في إحدى الشركات تقول  لـ “الحل نت”، إنه “مهما كنت تنجزين من أعمال مقارنة بالرجال فهم يصنفون على أنهم الأفضل، وفي نفس الوقت نتعرض نحن النساء، لمحاولات إلهاء من قبل زملائنا أو المدراء وإعطائنا أعمالا ضمن اعتبارات محددة لأننا نساء، وإذا عرض علينا عمل أفضل أو منصب أفضل، فالدافع وراء ذلك يكون الاستغلال لنا، هناك نساء في معظم الشركات يتم استغلالهن شكليا وجسديا واستغلال حاجاتهن، واذا حاولت امرأة أن تطور من مهاراتها في العمل تتعرض للسخرية والتشكيك” وفق تعبيرها.

في مجتمعنا غالبا ما يتم تحويل العلاقات في مكان العمل وبشكل مقصود إلى حالة من التحدي السلبي بين النساء، فيما يتم تدريجيا تجاهل ذلك التنافس مع الرجال، حيث تجر النساء إلى الصدام مع بعضهن البعض نتيجة استراتيجيات محددة يتبناها مدراء العمل، في الوقت الذي ينجز فيه الرجال أعمالهن، وهذا يعود لأسباب كثيرة تشربتها النساء في حياتهن من التربية والوسط الاجتماعي، بالإضافة لتعرض النساء للتحرش والاستغلال وخوفهن الدائم من ذلك، والتشكيك بقدراتهن في أي مجال كان.

عن المعوقات في مكان العمل تقول الناشطة النسوية ” هبة الحمد” لـ “الحل نت” إن “أبرز ما تتعرض له المرأة في أماكن العمل هو التحرش، فلا تزال بيئات العمل قاصرة عن تحقيق الأمان النفسي للمرأة، والتي تجد نفسها محاطة بعقول ذكورية تنظر لها نظرة جنسية، فقد تتوقف ترقية إحداهن على قبولها سهرة عشاء مع مدير العمل، بالإضافة للنظرة الدونية لها على أنها أقل شأنا أو مهارة من زملائها الرجال”.

تتابع الحمد حديثها بالقول، “كل ما تم ذكره نراه واضحا في مجتمعنا فالغالبية مثلا يفضلون توكيل محام وليس محامية، أو يذهبون لمكاتب هندسية يديرها ذكور أو يتوجهون لطبيب وليس طبيبة، وبهذا تطلب من المرأة جهود نفسية وجسدية مضاعفة للتطور في عملها، والوصول إلى مناصب عالية، مع الأخذ بعين الاعتبار العمل داخل المنزل والذي يفتقر للمساواة أيضا ويعتبر إضافة لعملها في الخارج”.

دراسات وأبحاث

النساء تعاني من التحيز الجنسي وعدم المساواة في العمل، وعرقلة نجاحهن في مختلف أنحاء العالم، قد تكون معاناة النساء العربيات أكبر بكثير بسبب انعدام المهنية، وعدم وجود قوانين تنصف النساء، والحياة الاجتماعية والسياسية التي تتحكم بمصائرهن.

حسب دراسة أجراها مركز “القيادة الإبداعية” في الولايات المتحدة “سي سي أت” في كانون أول/ديسمبر 2019، حيث قام بإجراء مجموعة من الأبحاث عن المرأة في مكان العمل عبر دراسة استقصائية لتقدير نسبة تواجدهن من 0-100 بالمئة، كان المتوسط حوالي 45 بالمئة.

في البحث تبين أن الشركات التي تتواجد فيها النساء تحقق عملا أكثر جدوى وزيادة في التنظيم ورضا وظيفي لدى الموظفين، ووضحت الدراسة أن ما تطلبه النساء في مكان العمل، هو المرونة والرغبة بوجود فرص قيادية حقيقية، ومعظم النساء تحدثن عن رفضهن للمراكز القيادية غالبا بسبب عدم الثقة بمؤهلاتهن وعدم تلقيهن للدعم وخوفهن من الفشل.

دراسة أخرى قامت بها مدونة “ماكينزي” في تشرين أول/أكتوبر من هذا العام بالشراكة مع “لينالن دوت أورج” تحت عنوان “المرأة في مكان العمل”، والتي تمثل أكبر دراسة للنساء في الشركات الأميركية، أن تمثيل النساء ناقص في المراكز القيادية، فقلة من النساء ارتقين في السنوات الماضية في الرتب والشركات تكافح للاحتفاظ بهن، وذلك غالبا بسبب التشكيك بقدرات النساء وعدم إعطاء الشركات أولوية للمرونة في التعامل ورفاهية الموظفين والتنوع والمساواة.

الدراسة اعتبرت أن الشابات أكثر طموحا ومطالبة بشروط عمل منصف وداعم، وأنهن يتوجهن للتخلي عن العمل في حال عدم توفرها، وتبين أن هناك امرأة واحدة فقط بين كل أربعة قادة من الرؤساء التنفيذين في الشركات، وخلال ثمان سنوات أجريت فيها هذه الدراسة، تبين أن مقابل كل مائة رجل تم ترقية 87 امرأة إلى مناصب إدارية، فيما ازدادت مطالبة النساء بالعمل عن بعد، لتفادي عدم الأمان الذي يعانينه في أماكن العمل.

في سوريا وحسب تقرير لـ “المرصد الاقتصادي السوري” الصادر عن البنك الدولي لعام 2021، هناك زيادة ملحوظة في عدد النساء العاملات بعد اندلاع الحرب، حيث تضاعفت النسبة من 13 بالمئة عام 2010 إلى 2 بالمئة عام 2021، إلا أن ذلك لم يزيد من فرصهن بالوصول لمراكز قيادية، فقوانين العمل لم تتغير ولا زالت لا تحقق المساواة بين الجنسين.

نظرة النساء لأنفسهن

تبقى نظرة المرأة لذاتها ودرجة وعيها عاملا أساسيا في تطورها ووصولها للنجاحات التي ترغب بها، تتشكل هذه النظرة الذاتية في عمر صغير، فغالبا تربية الفتيات في مجتمعنا تميل لأن تكون تقليدية ضمن الحدود الدنيا للنجاح والعمل، ولكن يمكن للنساء والفتيات أن يغيرن أنفسهن بتحقيق الوعي اللازم بما يمتلكنه من قدرات والإيمان بأنفسهن وإنسانيتهن وتساويهن مع الرجال.

 عن النظرة الذاتية والأسباب النفسية، يقول المختص بالعلاج النفسي أنس الحلبي، لـ “الحل نت” إن “الهوية الجندرية لا تساعد المرأة بأن تنجح في مهنتها وتصل لأماكن قيادية، فالمرأة ترى دائما أنه لا يمكنها فعل شيء دون رجل، وتصورها لمستقبلها يكون بوجوب وجود رجل في حياتها، هذه المفاهيم تجعلها تظن أنها غير قادرة على فعل شيء وحدها، هذا ليس خاطئا إن كان وجود الرجل هو عبارة عن شراكة، ولكنه خاطئ في حال اعتقادها بالعجز عن فعل شيء بمفردها”.

النساء في مجتمعنا، وفق الحلبي، لديهن تقدير ذات منخفض والمجتمع يعزز ذلك، خاصة الرجال الذين يدعمهم هذا المجتمع بشكل تلقائي للوصول لأماكن متقدمة في العمل، فيما تحارب النساء من قبلهم ومن بعضهن والسبب هو الخوف من نجاح إحداهن.

 التربية والبيئة في مجتمعنا لا تهيئ المرأة لتكون مديرة أو بمنصب عال بل تهيؤها لتكون أما أو مدبرة منزل، وهذا يجعلها عاجزة عن تنمية مهارات أخرى، بسبب بنيتها النفسية الهشة والتي تبنى على حالة من الضعف وعدم الإنجاز سوى في هذه الأعمال.

السنوات الأولى في حياة الفتاة هي الأهم بتشكيل هويتها النفسية والاجتماعية، وتوعيتها بقدرتها على الفعل والنجاح، وهذا يتطلب وعيا من الأهل وعدم تمييز بين أبنائهم من الجنسين بالإضافة لتنمية مهارات مختلفة لدى بناتهن وعدم تبني النمط التقليدي في التربية.

قد يهمك: العنف ضد المرأة السورية.. مواجهة الواقع المرير أسلوب حياة؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.