سيناريو يبدو أن جميع حلفاء بكين باتت تخشاه، ألا وهو مشهد هروب الرئيس السيرلانكي واقتحام المحتجين للقصر الرئاسي في تموز/يوليو الماضي على خلفية احتجاجات شعبية غاضبة نتيجة لتردي الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث أضحت إسلام آباد مهددة بخطر قد لا يختلف كثيرا عنما واجهته كولوبو.

إذ تحوّل رهان باكستان على انخراطها مع الصين تحت مظلة “مبادرة الحزام والطريق” إلى أن يكون أقرب نحو الخسارة، على أن يحقق لها الرخاء والاستقرار ويجنبها سيناريو كارثي مشابه لما حدث في سريلانكا مؤخرا، لاسيما في ظل ما تشهده البلاد من أوضاع اقتصادية وسياسية غير مستقرة، وذلك فضلا عن مخاطر ركونها إلى جانب نظام الحزب “الشيوعي” الصيني في مطامعه التوسعية

مخاطر باكستان تنامت مع الاعتبارات التي أفرزها المشهد السيرلانكي الذي نشأ جراء انهيار الاقتصاد وارتفاع أسعار السلع الأساسية وأزمة الديون الهائلة التي كانت بكين سببا رئيسيا فيها، ليمثل ذلك ناقوس خطر كبير لإسلام آباد التي تعتمد بشكل كبير على الصين، لاسيما في موضوع القروض التي تدين بها لبكين بنحو ربع ديونها الخارجية التي تضاعف حجمها الإجمالي منذ العام 2016 إلى 131 مليار دولار، إضافة إلى غزو شركات الصين الاستثمارية للسوق الباكستاني خصوصا في مجالات الطاقة.

لماذا تثير علاقة باكستان بالصين المخاوف؟

علاقة باكستان بالصين التي تحولت إلى طريق محفوفة بالمخاطر، استندت على التعهدات الصينية باستثمار 62 مليار دولار، أي ما يعادل تقريبا خمس الناتج المحلي الإجمالي لباكستان في الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو المشروع الأكبر المخصص لدولة واحدة ضمن برنامج بكين لاستثمارات البنية التحتية حول العالم، والمعروف بـ “مبادرة الحزام والطريق“، الأمر الذي فتح المجال إلى التدخلات الصينية والتأثير في العملية السياسية الباكستانية.

بغض النظر عن تداعيات ذلك، غير أن حجم التدخل الصيني قد ظهر بشكل هائل، إذ عززت تلك الاستثمارات نفوذ الشركات الصينية، في حين تندفع حكومة باكستان بقوة تجاه بكين إذ منحت المشروعات الصينية إعفاءات ضريبية شاملة، مما تسبب في خسارة للدخل القومي، وفقا لدراسة أعدها كل من مدير منطقة جنوب ووسط آسيا في معهد “هدسون” حسين حقاني، والسفير الأميركي السابق في باكستان، وجاويد أحمد الزميل البارز في “المجلس الأطلسي“، والباحث غير المقيم في “معهد الشرق الأوسط“، والسفير الأفغاني السابق لدى الإمارات، ونشرتها حديثا مجلة “فورين أفيرز” الأميركية.

اقرأ/ي أيضا: مخاوف من صراع عرقي.. بكين تدعم زيمبابوي بنظام رقابي

تسهيلات الحكومة الباكستانية، تسببت في زيادة كبيرة لقيمة واردات الدولة، لسبب أن معظم هذه المشروعات تتطلب معدات من الصين، في حين لم تقدم المشروعات الصينية الكثير لتعزيز توظيف الباكستانيين في وطنهم، حيث تفضل شركات صينية عديدة جلب عمالتها الخاصة وتسكينها في مجمّعات سكنية حديثة البناء، حيث لا يتعاملون مع السكان المحليين إلا نادرا، فيما نتج في بعض الحالات عن الاستثمارات الصينية استيلاء على أراض باكستانية، وتهديد الصيادين الباكستانيين في قوت يومهم، وتشريد العشرات من السكان المحليين، مما أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار.

فيما يخص المأزق الباكستاني، أحجمت الصين عن الاستثمار في باكستان طيلة العامين الماضيين بسبب المخاوف الأمنية والقلق بشأن عائدات الاستثمارات، ورغم اتفاق التجارة الحرة مع الصين، فإن الصادرات الباكستانية راكدة إلى حد كبير، ففي السنة المالية 2020-2021، بلغ حجم التجارة البينية أكثر من 17 مليار دولار، في وقت لم تشكل فيه الصادرات الباكستانية منها سوى 2.3 مليار دولار، بينما باتت حكومة إسلام آباد تعاني من سداد فاتورة متأخرة لصالح منتجي الطاقة الصينيين تجاوزت قيمتها 1.5 مليار دولار، ما دفع باكستان إلى الحصول على المزيد من القروض الصينية لسداد تكاليف الطاقة التي تسيطر على تشغيل مشروعاتها أكثر من 24 شركة صينية، تهدد بتجميد نشاطها إذا لم تسدد المبالغ المستحقة المتأخرة.

على جانب آخر، يبدو أن بكين تحاول استغلال مخاوف باكستان من تهديدات الهند إليها للتمدد العسكري في المحيط الهندي، وذلك من خلال مساعدة إسلام آباد في الاستعداد لحرب تقليدية محتملة مع نيودلهي، إذ تمدها بمجموعة كبيرة من الطائرات المقاتلة والمسيّرات المسلحة وأنظمة الدفاع الجوي والغواصات والسفن المقاتلة، ومروحيات النقل والاستطلاع والدبابات والذخيرة الموجهة، علاوة على تزويد باكستان بأنظمة صواريخ باليستية، في خرق واضح لاتفاق “نظام ضبط انتشار تكنولوجيا الصواريخ” الذي يشمل 35 دولة ملزمة بألا تنتشر تقنيات صناعة الصواريخ حول العالم.

دليلا على ذلك، إن الصين تعد أكبر مورّد للأسلحة إلى باكستان، حيث زودت بكين إسلام آباد بـ 70 بالمئة من وارداتها من الأسلحة بين عامي 2010-2019، التي بلغت قيمتها أكثر من خمسة مليارات دولار، فيما بلغ نصيب باكستان من إجمالي صادرات الأسلحة الصينية عالميا بين عامي 2017-2021 نسبة وصلت إلى 47 بالمئة، وهو الأمر الذي وضع باكستان أمام احتمالية وقوع تداعيات أخطر بكثير من سريلانكا.

مخطط الديون

بشأن تلك المخاطر، يقول الخبير السياسي باسم الخزرجي إن الصين باتت تستخدم استراتيجية الديون لمدّ نفوذها عبر الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية، وتمتلك في ذات الوقت أبعادا جيوسياسية واقتصادية، مبيّنا أن بكين أغرقت سيريلانكا في الديون، وهو الأمر الذي لم تتمكن سريلانكا من سداده مقابل سحب الصين يد العون، مما تسبب بأسوأ أزمة مالية على مدى عقود، فضلا عن تأثيرات ذلك على حاجات المواطنين من مواد غذائية ووقود وإلى ما ذلك، ما دفعهم للتعبير عن غضبهم.

بالتالي إن بكين تحاول استنساخ تلك التجربة مع باقي الدول في التأثير على الحكومات التي تسعى من خلالها إلى الحصول على أكبر مدى من النفوذ لاسيما في مجالات الطاقة، كما يرى الخزرجي، ويضيف في حديث لموقع “الحل نت” أن ذلك من خلال توريطها في سياسة مالية لا تمتلك تلك الحكومات المتصدعة في الأساس القدرة عليها، ما يضعها تحت تأثير النظام الصين الذي سيستمر في المقابل في الضغط على تلك الحكومات في الحصول على تنازلات سيادية تسمح لبكين في تنفيذ مشروعها التوسعي، وإلا تركها بمواجهة الغضب الشعبي والإطاحة بها.

اقرأ/ي أيضا: لماذا تجدد بريطانيا دعواتها لإرسال اللاجئين إلى رواندا؟

الخزرجي أشار إلى الإشكالات التاريخية بين باكستان والهند، وكذلك التدافع السياسي والعسكري له جذور قديمة تتعلق في استقلال الدولتين وميولها الخارجية، الأمر الذي يضع الدولتين بمواجهة مستمرة، وهو ما أتاح الفرصة أمام النظام الصيني لاستغلال ذلك من خلال تقديم يد العون إلى إسلام آباد مقابل التواجد في المحيط الهندي، مبيّنا أن المخطط الصيني يعود للرغبة في السيطرة على الممرات التجارية، والضغط على الخصوم وتطويق المنطقة.

في الوقت ذاته، تخوض بكين صراعا مع دول آسيوية عدة في حدودها المائية منها اليابان وتايوان، بالتالي تريد مدّ نفوذها على الحدود الشمالية المتمثلة بباكستان، بغية السيطرة على كل المنافذ التجارية وتوسعة اسطولها البحري تحسبا لأي تدخلات عسكرية ضدها أو مضايقات، لافتا إلى أن خارطة النفوذ تركز في الوقت الحالي على حدود الدول التي تشملها مبادرة “الحزام والطريق“، وفقا للخزرجي.

الخبير السياسي اختتم في حديثه لموقع “الحل نت” بالقول، إنه حتى اللحظة لم تتضح المعالم الحقيقية لمبادرة “الحزام والطريق”، حيث لم يتم تحقيق أي من مشاريعها المتفق عليها بين الدول وعلى الرغم من مرور نحو عقد على إطلاقها، واقتصرت المبادرة على الاتفاقيات التي سمحت للصين بمد النفوذ إلى بعض الدول والسطوة على استثماراتها، ومن ثم ابتزازها في بالانسحاب ما لم يتم تسديد الديون التي ترتبت عليها، مشيرا إلى أن تلك الاستراتيجية بدأت في التوغل بمنطقة الشرق الأوسط حاليا.

حسابات باكستانية في صالح الصين

يُشار إلى أن مخاطر باكستان باتت أكبر من سريلانكا، حسبما بيّنت الدراسة أن هناك أشياء على المحك أكبر بكثير مما كانت عليه الأمور في كولوبو، إذ تًعد باكستان موطنا لخامس أكبر تعداد سكاني في العالم، ويبلغ حجم اقتصادها 340 مليار دولار، في حين انخفضت إنتاجيتها الاقتصادية في السنوات الست الماضية إلى مستويات غير مسبوقة، حيث انكمشت العائدات المحلية والاحتياطي الأجنبي، وانخفضت قيمة العملة المحلية، وزادت البطالة، وتفاقم الفساد السياسي.

في محاولة لتدارك تلك المخاطر، ولتجنب التخلّف عن سداد الديون، اقترضت الحكومة الباكستانية الجديدة في حزيران/يونيو مليار دولار إضافية من الصين لدعم الاحتياطي الأجنبي لديها، كما تفاوضت مع صندوق “النقد الدولي” على استئناف حزمة الإنقاذ البالغة ستة مليارات دولار، وانطوت هذه الحزمة على رفع أسعار المحروقات والكهرباء، مما أثار غضبا شعبيا.

في غضون ذلك، ركزت الصين بشكل كبير في الاستثمار في بناء ميناء “جوادر“، وهو ميناء بحري على ساحل بحر العرب في محافظة “بلوشستان“، ويفترض أنه سيوسع نطاق الوصول إلى الشرق الأوسط، حيث استأجرت الحكومة الصينية الميناء لمدة 40 عاما بدأت في 2017، على أن تشغل الميناء “الشركة الصينية للموانئ الأجنبية القابضة” فرع باكستان، وهي شركة صينية مملوكة للدولة وتحصل على 91 بالمئة من أرباح الأنشطة الجارية في الميناء.

غير إن الشركة الصينية لم تحرز سوى تقدما طفيفا في تنمية أعمال الميناء التجارية، كما أن السفن الصينية التي تتردد على الميناء بانتظام حملت أقل بكثير من الحمولة السنوية المفترضة والبالغة 13 مليون طن، فضلا عن عدم معالجة الشركة لمشكلات الميناء الأساسية؛ مثل إمدادات المياه وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وبدلا من ذلك، ركّزت الشركة الصينية على توفير إمدادات المياه والطاقة لعدد قليل من الشركات الصينية الأخرى التي تعمل في الميناء ومحيطه.

بالتالي فأنه على غرار تعثر ميناء “همبـنتوتا” السريلانكي المدعوم من الصين في توفير تكاليفه، فشل ميناء “جوادر” في جذب حركة ملاحة بحرية كثيفة، ولربما بدا استثمار الصين الضخم في الميناء انتصارا رمزيا لباكستان، في حين مع هذه الصعوبات، تنامت مخاوف كبيرة في الهند والغرب بشأن نيات الصين لتدشين قاعدة بحرية في “جوادر“، ما قد يتحول إلى استخدام مزدوج للميناء، بحيث تديره الصين باعتباره منشأة تجارية وعسكرية في آن واحد، ليتحول إلى ميناء مزدوج الاستخدام بهذا الشكل  ما يعزِز قوة الصين البحرية ويضيف قوة إلى وجودها البحري القوي في جيبوتي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة