قد يبدو من غير المعقول الاستمرار في التأكيد على عدم الأهمية الاستراتيجية لجنوب شرق آسيا “الآسيان” والهند على مدى العام الماضي، ويرجع ذلك في الأساس إلى القمم الثلاث ذات الوزن الثقيل التي عقدت في الجوار. تاريخيا، كان الأمر على هذا النحو دوما منذ حقبة التسعينيات عندما استحوذت الصين على قرار المنطقة السياسي والصناعي بسبب توغلها، لتحقيق موطئ قدم وأثرت على هذه البلدان في مختلف أنحاء البر الرئيسي للمنطقة وأرخبيلها.

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير الفائت، ساعدت الحرب على إبراز قيمة جنوب شرق آسيا تحت مظلة “الآسيان” والهند ووضعت الكتلتين على الخريطة الجيواستراتيجية العالمية. في الماضي كانت الحرب الباردة هي التي وضعت جنوب شرق آسيا في قلب الصراع الإقليمي.

لطالما كانت نيودلهي قلقة بشأن نفوذ الصين في جوارها، بما في ذلك نيبال وبنغلاديش وسريلانكا. تصاعدت الحساسيات، وتوترت العلاقات الدبلوماسية، منذ اشتباكات بين القوات الهندية والصينية على طول حدود الهيمالايا النائية في عام 2020، مما أسفر عن مقتل العشرات من الجنود، لكن كيف باتت مكانة الهند و”الآسيان” الدولية آخذة في الارتفاع.

الهند تشق طريقها إلى سريلانكا

إذا كانت الصين غارقة في فيض من التشاؤم بسبب سياستها، فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للهند، وفق ما يقوله المحللون، وهذا يعني أن إعادة الانفتاح الحالية للاقتصاد الصيني لن ينهي الأداء المتفوق للهند في عام 2023، برأي المستثمرين العالميين.

بالمقارنة مع العام ونصف العام الماضي، عندما كان اقتصادها قد بدأ للتو في إعادة الانفتاح بعد طفرة مدمرة لمتغير “دلتا”، فإن سوق الأسهم في الهند لم يتغير من حيث القيمة الدولارية. ومع ذلك، فقد تجاوز في وزنه مؤشر “إم إس سي أي” للأسواق الناشئة تايوان وكوريا الجنوبية إلى المركز الثاني، مع تحقيق مكاسب كاملة تقريبا على حساب أكبر مكون للمقياس وهو الصين.

المختص في العلاقات الدولية لشرق وجنوب شرق آسيا، دانيال لينش، أوضح لـ”الحل نت”، أنه عندما انزلقت سريلانكا إلى أسوأ أزمة اقتصادية لها منذ سبعة عقود، مما أدى إلى أعمال شغب قاتلة ونقص مقلق في الوقود والغذاء والأدوية في وقت سابق من هذا العام، تدخلت جارتها الشمالية لنشلها.

الهند قدمت حوالي 4 مليارات دولار في شكل مساعدة سريعة بين كانون الأول/يناير وتموز/يوليو من العام ذاته، بما في ذلك خطوط الائتمان وترتيب مقايضة العملات ومدفوعات الواردات المؤجلة، وأرسلت سفينة حربية تحمل الأدوية الأساسية لسكان الجزيرة البالغ عددهم 22 مليون نسمة.

الآن، مع اقتراب سريلانكا من صفقة قرض بقيمة 2.9 مليار دولار من “صندوق النقد الدولي” واستقرار اقتصادها، تسعى الهند إلى جذب استثمارات طموحة طويلة الأجل، مع التركيز على مواجهة تأثير منافستها الإقليمية الصين، تبعا لـوجهة نظر لينش.

وزير الخارجية السريلانكي علي صبري، قال في مقابلة هذا الشهر: “ما نتطلع إليه الآن هو استثمار منهم”، في إشارة إلى مجموعة من المشاريع التي تزيد قيمتها على مليار دولار قيد المناقشة حاليا والتي من شأنها أن تساعد في تعزيز وجود الهند في سريلانكا، فالهند على استعداد للاستثمار بقدر ما يتطلب الأمر.

تفاؤل بصعود الهند

إذا كانت تجارب البلدان الأخرى تشكل أدلة على نجاحها، فإن الانتقال الحاسم للهند بعيد عن السياسة الصينية “صفر كوفيد” ساعد في إبعاد الشعور الاستهلاكي والتجاري عن الانخفاض، ودفع المحللين إلى مضاعفة توقعاتهم لنمو الأرباح بنسبة 18 بالمئة على مدى الأشهر الإثني عشر المقبلة.

المختص في العلاقات الدولية لشرق وجنوب شرق آسيا، أشار خلال حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن الهند تسعى في المستقبل لدعم جاذبيتها الاستثمارية من خلال الظهور كبديل للصين. ومع تسبب سياسات الرئيس شي جين بينج في تفاقم الصدع مع الغرب، يسعى رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى تحويل بلاده إلى وجهة للشركات المتعددة الجنسيات للحد من تعرضها المفرط لسلاسل التوريد الصينية.

حتى الآن، يبدو أن التركيز المتزايد بالصعود التجاري قد عمل بشكل جيد بالنسبة للمستثمرين المحليين فهم ليسوا متشككين جدا في مصير بلدهم، ولا ينتقدون اتجاهها كثيرا. ذلك لأن ازدهارهم مرتبط أيضًا بنفس عربة السياسات المؤيدة للرأسمالية. وفق حديث لينش.

مع صافي التدفقات الخارجة التي تجاوزت 187 مليار دولار، كان خروج المستثمرين العالميين من الصين هذا العام أكثر. ومن خلال الاستفادة من قرب شمال سريلانكا من الهند، يمكن للمشاريع أن تساعد نيودلهي على تحقيق التوازن بين مشاريع البنية التحتية الواسعة للصين في جنوب الجزيرة التي تم بناؤها على مدى السنوات الـ 15 الماضية.

تؤكد المحادثات وحجم المساعدات الهندية هذا العام الذي يتجاوز بكثير المانحين الآخرين، جهود نيودلهي لاستعادة نفوذها في الجزيرة الواقعة على بعد أميال قليلة من طرفها الجنوبي على طول الممرات المائية المزدحمة التي تربط آسيا بأوروبا.

جنوب شرق آسيا.. العالم الحر

هذه المرة وفي هذا العام تحديدا، شعرت دول رابطة “الآسيان” أنها في لعبة مختلفة، إذ يمكن للمنطقة أن تختار، رافضة ما تفرضه القوى الخارجية أو ميول الهيمنة، فطوال الفترة السابقة كانت بكين تسعى لاستخدام الدول النامية أو الصغيرة للمساهمة في الجهود العسكرية الرامية للوقوف بجانب بروسيا. وفى حالة “الآسيان” فإن الحزب “الشيوعي” الصيني يريد من الكتلة اتباع التحركات الدبلوماسية من خلال رفض العقوبات لمعاقبة روسيا. 

على هذا النحو، من الطبيعي أن يتخلل الصراع الجاري جداول الأعمال الإقليمية، بما في ذلك مؤتمر القمة المتصل بالرابطة، ومجموعة العشرين، واجتماع زعماء آسيا والمحيط الهادئ في بنوم بنه وبالي وبانكوك. قبل هذه القمم، لا أحد كان يتوقع أن تكون القمم الثلاث قادرة على الارتقاء إلى مستوى الحدث.

ذلك أن بلدان جنوب شرق آسيا كانت تحمل وجهات نظر ومواقف مختلفة حيرت العالم الغربي. وفي أكثر من جانب، استمدت هذه الاختلافات من الهيمنة الصينية وتجربة ما بعد الاستعمار الاقتصادي في عملية بناء الدولة، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم.

طوال هذه السنوات، تعلمت دول جنوب شرق آسيا بحسب لينش، فن النجاة والتعايش مع القوى العظمى الصديقة والعدائية في الجوار.

من المحتم، مع انعقاد القمم الثلاث في جنوب شرق آسيا، أن “الشيوعي” الصيني مضطر إلى الانتباه إلى نتائج اجتماعات هؤلاء الزعماء، وخاصة سلوكهم في مناسبات مختلفة. وقد حدثت بعض الاتجاهات الدبلوماسية الجديدة خلال تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وقد يكون لبعضها آثار طويلة الأجل على ظهور نظام دولي جديد.

بداية كانت السمة الأكثر وضوحا هي القدرة الدبلوماسية للبلدان النامية في التعامل مع القوى العظمى. فهم يريدون التأكد من أن موطنهم لا يستخدم للمواجهة. على سبيل المثال، بوصفه مضيف قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا، استغل رئيس الوزراء هون سين الحدث لإظهار كمبوديا في مرحلة ما بعد الحرب، وموازنتها الدبلوماسية مع كل الأطراف المعنية.

لقد اكتسبت رابطة دول جنوب شرق آسيا باعتبارها كتلة، مكانتها المركزية على نحو لم يسبق له مثيل. ففي السابق، كانت مركزية “الآسيان” تعنى أن تضع الكتلة جدول أعمالها وتلتزم بمنطقتها. ولكن “الرابطة” بادرت الآن في تدعيم مركزية التكتل، وانعكس ذلك في قضية ميانمار.

وقد حددت هذه الأطر جنوب شرق آسيا بوصفها محورها الأساسي الذي يربط بين المحيطين الهندي والهادئ. وعلى هذا النحو، لم يعد بوسع المنطقة من الآن فصاعدا أن تظل سلبية وخاملة. وتحت الرئاسة الإندونيسية سوف تكون رابطة “الآسيان” أكثر ثقة في إدارة العلاقات مع القوى العظمى.

فى قمة بنوم بنه، تبنى زعماء “الآسيان” الخطوط العامة لتعميم منظورهم حول منطقة الهند الباسفيك، ونجاح أي استراتيجية هندية يتطلب إعادة تزامن هذه الاستراتيجية مع مبدأ حرية العمل. وتعتزم رابطة دول جنوب شرق آسيا استخدام هذا التحالف كأداة لتوجيه وإدارة هذه الاستراتيجيات المتنافسة حتى لا ينتهي بها الحال إلى التشابك أو التداخل فيما بينها.

والأهم من ذلك أن التحالف سوف يضمن عدم تحول أي برنامج أو نشاط تضطلع به رابطة دول جنوب شرق آسيا بين طرف وآخر. ذلك أن منطقة”الآسيان” لا تزال تشكل الأساس الذي تستطيع كل القوى العظمى، الكبيرة منها والصغيرة، أن تجتمع وأن تقتنع بتوقعات القوة ونفوذها، وبإمكان المنطقة أن تتخذ قرارها بنفسها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة