خلافا لكل التوقعات، بما فيها تقارير “صندوق النقد الدولي“، تُظهِر الأرقام تراجعا ملحوظا لنمو الاقتصاد العالمي، حيث عدّل “صندوق النقد الدولي” توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي بالخفض أربع مرات، وذلك بعد أن توقع في تقريره الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2021، استمرار التعافي الاقتصادي مع ضعف قوة الدفع وزيادة الشكوك، فضلا عن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 4.9 بالمئة لعام 2022؛ أي أقل بنقطة مئوية عن تقديرات نمو الاقتصاد العالمي في 2021 عند نسبة 5.9 بالمئة.

تعديلات “صندوق النقد الدولي“، جاءت في المرة الأولى على مدى العام وفي تقريره السابق من 4.9 بالمئة إلى 4.4 بالمئة، قبل أن يعود ليخفّض توقعاته بالنمو العالمي لعام 2022 مجددا إلى 3.6 بالمئة، ثم أخيرا وقبل شهرين خفّض الصندوق توقعاته لنمو الناتج المحلي العالمي هذا العام إلى نسبة 3.2 بالمئة، مقدرا نسبة النمو العالمي للعام الحالي 2023 بمعدل أقل عند نسبة 2.7 بالمئة.

تأكيدا على ذلك، ليس “صندوق النقد الدولي” وحده من خابت توقعاته حول مستوى الاقتصاد العالمي، بل على مدى عام جاءت الوقائع عكس تقديرات مؤسسات اقتصادية كبيرة، بل إن أغلب المؤسسات وكثير من الاقتصاديين والاستشاريين كانوا يتوقعون العام الماضي أن تبدأ فورة نمو في أعقاب الركود الحاد القصير الأمد خلال ذروة أزمة “وباء كورونا” التي بدأت في عام 2020.

الاقتصاد العالمي والتوقعات الخاطئة

إذ كانت التقديرات أثناء أزمة “كورونا” تشير إلى إمكانية انتعاش الاقتصاد بشكل قوي وسريع مع نهاية الإغلاق الذي شهده العالم نتيجة لتفشي الوباء، استنادا على إن الركود الاقتصادي ليس أمرا طبيعيا ضمن دورة اقتصادية من نمو وركود ومن ثم نمو، وإنما فعل قسري نتج من إغلاق متعمد للنشاطات الاقتصادية كإجراء وقائي للحيلولة دون انتشار الفيروس، وبما أنه إجراء مفتعل كان الركود حادا، وسيكون النهوض سريعا.

في البداية جانبت تلك التوقعات الصواب، سيما مع مطلع العام الماضي، خصوصا مع ما أظهرته بيانات الربع الثالث من العام التي جاءت قوية، غير أنه سرعان ما بدأت المؤشرات في التراجع، حتى بدأت الهوة المتعلقة بحال التعافي بين مجموعات الاقتصادات المختلفة تتسع، كما هو الحال بين الاقتصادات المتقدمة والبلدان النامية منخفضة الدخل، وذلك بالتوازي مع ارتفاع مستويات التضخم بدرجة ملحوظة خاصة بين اقتصادات الأسواق الصاعدة.

اقرأ/ي أيضا: مع حلول عام 2023.. ما سيناريوهات الغزو الروسي لأوكرانيا؟

خلاصة موقف “صندوق النقد الدولي” بيّنت أنه في ظل هذا السيناريو، أن الوضع ازداد سوءا حتى مع إرخاء القيود التي فُرضت عالميا جراء تفشي “كورونا“، لسبب أن معدلات الطلب تسارعت أمام استجابة بطيئة من حيث العرض، الأمر الذي تجلى في أفاق التضخم التي خيمت على الواقع حتى مع انحسار الضغوط السعرية في معظم البلدان عام 2022، إضافة إلى استمرار توظيف العمالة دون مستويات ما قبل الجائحة في كثير من الاقتصادات، مما يفرض خيارات صعبة على صُنّاع السياسات.

للحديث عن أسباب ذلك، تواصل موقع “الحل نت” مع المختص في الشأن الاقتصاد السياسي الدولي أحمد القاروط، وقال إن “توقعات النمو كانت تشير إلى أن هناك تعافي مستقبلي من أزمة كورونا، وسيكون هناك فتح للإغلاقات وعودة الأنشطة الاقتصادية، لكن واقعا وفعليا لم يحصل سوى جزء بسيط من ذلك، لتأتي الحالة الأوكرانية ومن ثم الأزمة الصينية“.

إذ إن الصين تشكل جزء مهم من الاقتصاد العالمي، لما تمثله من نسبة 15-20 بالمئة من الاقتصاد، فبعد عودة تفشي الوباء في الصين وعودة الإغلاقات وما تسبب به من مشكلات للاقتصاد الذي أثّر على نمو الاقتصاد العالمي، بحسب القاروط، لافتا في الوقت ذاته إلى فشل استراتيجيات النهوض بالاقتصاد العالمي مجددا سببه لأنها وضعت لإدارة تبعات الوباء وليس لحل مشكلة الوباء.

استمرار فشل نمو الاقتصاد العالمي

وفق هذا المشهد، يرى خبير الاقتصاد السياسي الدولي، أن الاستراتيجيات كانت محتومة بالفشل نسبيا لأنها لم تكن جزء من خطتها التعامل مع الأزمة الأوكرانية، في وقت عادت الأزمة الأوكرانية لتخرج المعادلات القديمة وعادت لتخلق معادلات استراتيجية جديدة تمثل محركا للأحداث يتم التركيز عليها وبناء على مخرجاتها يتم إعادة تشكل الاقتصاد العالمي وهو ما يؤثر أيضا على النمو، مؤكدا أن في الوقت الحالي ليس هناك أي انفراجة قريبة لنمو الاقتصاد العالمي.

يُشار إلى أن الشائع في الوقت الحالي إعادة احتمالات الركود الاقتصادي نتيجة لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الرغم من أن ملامح ذلك قد ظهرت واضحة قبل الحرب بأشهر، وتحديدا من نهاية صيف العام السابق، خصوصا مع ظهور بوادر فشل توقعات النمو القوي والسريع التي اتضحت بالفعل منذ النصف الثاني من العام السابق، حيث أصبح واضحا لعدد معقول من الاقتصاديين أن التوقعات بانتعاش قوي وسريع لم تكن صائبة تماما.

اقرأ/ي أيضا: متجاهلة لـ “كارثة بيئية واقتصادية“.. لماذا تصر بكين على نهب البحار الإفريقية؟

أسباب ذلك تعود بحسب تقارير مختصة، إلى تضافر معدلات التضخم المرتفعة مع أزمة طاقة وزيادة في كلفة المعيشة التي أدت إلى تراجع في إنفاق المستهلكين، الذي يمثل النسبة الأكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة، في حين زاد من انكماش الإنفاق الاستهلاكي حال التخوف من المستقبل وسط توقعات الركود المتكررة على مدار العام، لتعقّد الحرب في أوكرانيا تلك المقدمات التي برزت في العام السابق مما أدى إلى مزيد من انكماش النشاط الاقتصادي بشكل عام.

كذلك من بين العوامل التي أدت إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي وإحباط إمكانية الانتعاش القوي والسريع ما بعد إغلاقات “كورونا“؛ تراجع الإنفاق الاستثماري بشكل عام والإنفاق الحكومي بشكل خاص، إذ وبعد سياسات التيسير الكمي التي كلفت الموازنات العامة تريليونات الدولارات للحفاظ على القطاعات الاقتصادية المختلفة بعيدا من الانهيار خلال إغلاقات أزمة الوباء، اضطرت الحكومات إلى ضبط موازناتها ومواجهة العجز.

هذا إضافة إلى أن السيولة الهائلة التي ضُخت في الاقتصاد خلال أزمة الوباء وانخفاض أسعار الفائدة إلى نحو الصفر تقريبا أسهم في زيادة الضغوط التضخمية، ومنذ نهاية العام الماضي بدأت البنوك المركزية في تغيير سياستها إلى التشديد النقدي؛ أي رفع أسعار الفائدة ووقف برامج شراء سندات الدين. مقابل ذلك اختنقت بسرعة احتمالات النمو في ظل التقشف الحكومي من ناحية الاستثمار العام وتقشف القطاع الخاص أيضا نتيجة ارتفاع كلفة الاقتراض مع زيادة نسب الفائدة.

الصين وعلاقتها بفشل الاقتصاد العالمي

مع الربع الثاني من العام الماضي، تلاشى النمو الذي شهده الربع الثالث من العام الذي سبقه، وبدأ التباطؤ الشديد في الاقتصاد، وعلى عكس توقعات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي لـ “صندوق النقد الدولي” في نهاية عام 2021 باستمرار نمو الطلب وانكماش العرض في الاقتصاد، تعرض الطلب العام أيضا للضغط نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.

كذلك فاقمت الحرب في أوكرانيا أزمة النمو في الاقتصادات الأوروبية، وإن لم تؤثر كثيرا على أكبر اقتصادات العالم كالولايات المتحدة، بينما شهد الاقتصاد الروسي انكماشا هائلا نتيجة كلفة الحرب والعقوبات الاقتصادية التي فُرضت على موسكو، كما أثقلت موازنات الدول الأوروبية بكلفة تقديم المساعدات لأوكرانيا، فضلا عن اضطرار دول أوروبا لدفع أسعار أعلى لاستيراد الغاز الطبيعي المسال بخاصة من الولايات المتحدة.

في غضون ذلك، ومع عودة موجة جديدة من وباء “كورونا” إلى الصين، التي دفعت الحكومة للجوء إلى سياسة “صفر كوفيد“، مما جعلها تغلق النشاط الاقتصادي في مناطق واسعة، أدى ذلك بمعدل النمو في الاقتصاد الصيني لأن يهوي إلى نسب متدنية جدا خلال العام الماضي، ولأن اقتصاد الصين في السنوات الأخيرة مثّل نقطة لافتة في الاقتصاد العالمي، كان لانهيار نسب النمو عليه تأثيره القوي.

بحسب تقرير لصحيفة “اندبندنت عربي” البريطانية، فأن ما يجري في الصين والذي يتردد صداه في العالم، فقد كان لعودة الإغلاقات فيها بسبب موجة “كورونا” الجديدة تأثير في تباطؤ التجارة العالمية واستمرار اختناقات سلاسل التوريد، كما أسهم ذلك في تراجع التجارة ما أثر على النمو الاقتصادي بشكل عام مع استمرار العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية والدولية على دول مثل فنزويلا وإيران، إضافة إلى حزم العقوبات غير المسبوقة على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا.

وسط ذلك، تكاد تجمع التقديرات على أن العام الحالي سيشهد ركودا اقتصاديا تتباين سيناريوهات مدى عمقه وما إذا كان لفترة قصيرة أم طويلة الأمد نسبيا، وإذا كان “صندوق النقد الدولي” توقع في آخر تقاريره قبل شهرين نموا في الاقتصاد العالمي يتجاوز نسبة اثنين بالمئة، فمن الحكمة تطبيق درس العام الماضي وانتظار احتمالات أن يعيد الصندوق وغيره من المؤسسات تقييم الوضع في ضوء نتائج الربع الأول من العام، وربما يتم خفض تلك التوقعات مجددا كما حدث سابقا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.