في وقت يشهد العالم فيه تحولات وصراعات سياسية واقتصادية كبيرة، تزداد أهمية العراق شيئا فشيء، وذلك لما يتمتع به من مصادر اقتصادية كبيرة وموقعا استراتيجيا في قلب خارطة التدافعات الدولية. الأمر الذي شكّل حافزا كبيرا لعديد من الدول العربية والشرق الأوسط للانفتاح عليه، لاسيما في السنوات الثلاثة الأخيرة التي شهدت بغداد أثناءها تحولات ومطبات مفصلية عدة، لعل أبرزها الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت البلاد في أواخر العام 2019، وما تبِعها من إرهاصات وتطورات سياسية سنأتي عليها في السطور التالية.

على مدار العقد الماضي، وخصوصا خلال العام 2019، شهد العالم مرحلة جديدة من التدافعات الدولية، فيما يتعلق بالتنافس الأميركي الروسي الصيني، فضلا عن مماحكات دول الشرق الأوسط، مثل الصراع الخليجي الإيراني، والإيراني التركي من جهة، وغيرها العديد من الجبهات التي جعلت من العراق قبلة تتسابق عليها القوى الإقليمية والدولية للتنفيس عن ضغوطاته، أو لاستخدامه كورقة للضغط على خصومهم في ساحات النفوذ، لينعكس ذلك على العراق بالدرجة الأولى، إلا أن هذه المرة بالشكل الإيجابي لتختلف الصورة السلبية لبلاد الرافدين التي اكتسبها طيلة الـ 19 عاما الماضية من التدخلات الخارجية وانصياع القوى الداخلية للولاءات الإقليمية.

بعد أن تحول العراق بعد العام 2003 إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، عادت بغداد لتشغل مساحتها الطبيعية، خصوصا خلال عامي 2020-2022، وتلعب دورا إقليميا بارزا، لربما يمكن التماسه من خلال قيادة مفاوضات ماراثونية للتقريب بين السعودية وإيران، وذلك بعد أن كانت إيران تسيطر لسنوات طويلة على القرار العراقي لاسيما بعد العام 2011، عندما انسحبت القوات الأميركية تاركة خلفها فارغا أمنيا واستراتيجيا واسعا، استغلته طهران وعزلت بغداد على إثره عن محيطه العربي، الذي عاد ليدعمه مؤخرا بشكل ملحوظ.

مراحل الانفتاح العربي على العراق

العديد من القوى العربية في الشرق الأوسط مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن، بادرت في الثلث الأخير من العام 2020 والثلث الأول من عام 2021، بالانفتاح على بغداد، ما انعكس في انعقاد قمم على مستوى القيادات السياسية العليا بين البلدان، وتنظيم زيارات متبادلة لتدعيم العلاقات الأمنية والمصالح الاقتصادية والتفاهمات في مجال الطاقة، وهو ما توازى معه اهتمام من قبل القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا بما يجري في العراق، داخليا وخارجيا. الأمر الذي شكل محورا أساسيا في رسم السياسات الخارجية للقوى الإقليمية والدولية.

مشهد رسم خيارات عدة، احتكم لها الانفتاح العربي على العراق. الخيار الأول يتعلق بالدول العربية ذاتها، التي تحاول تصحيح وضع الاختلال الاستراتيجي لمرحلة ما بعد الإطاحة بنظام صدام حسين من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عام 2003.

اقرأ/ي أيضا: عودة ملف المفقودين الأردنيين في سوريا إلى الواجهة.. هل يفرق الجارتين؟

مرحلة استغلتها إيران حينها بملء الفراغ الناتج عن غياب الدول العربية عن التفاعلات الجارية على الساحة العراقية، ما أسهم في تمدد طهران على مدى العقدَين الماضيين بقدر لم تعد تنافسه قوى إقليمية أخرى. ومن ثم مساعي الدول العربية الرئيسية إلى موازنة نسبية لنفوذ طهران، والتخفيف من الاعتماد على الأخيرة عبر تدعيم المصالح المشتركة مع بغداد حيث يُعتبر العراق بمنزلة الشريان الاقتصادي لإيران، والذي باتت مسألة قطعه ضرورة ملحّة بالنسبة للمحيط العربي الذي بات يرزح تحت صواريخ أذرع “الحرس الثوري” الإيراني.

إضافة إلى ذلك، تركز الدول العربية في ضخ استثمارات عربية في شرايين الاقتصاد العراقي بعد الدمار الذي تعرض له، وخاصة في المناطق التي خضعت لتنظيم “داعش”، بمحاولةٍ لوضع حدّ للطريق الذي تستثمر فيه إيران بتكريس وجودها عَبر دعاية إعادة الإعمار التي تحملها أذرعها في الداخل العراقي والمسيطرة على القرار السياسي. 

 الجانب الذي يحتّم الإسراع في زيادة الدعم العربي لمشروعات إعادة إعمار العراق عبر شركات المقاولات التي لديها خبرة في هذا المجال بما يؤدي إلى عودة النازحين إلى مناطق إقامتهم من ناحية، والمساعدة في مطاردة فلول “داعش” التي تسعى إلى معاودة عملياتها الإرهابية مرة أخرى، وتستغلها إيران مجددا لاستدامة وجودها.

 هذا ناهيك عن ما يوفّره العراق من صندوق أسرار معلومات لأجهزة الأمن في المنطقة، ووفقا لذلك، فإن وجود قنوات اتصال مفتوحة بين أجهزة الأمن العربية ونظيرتها العراقية، يعزز قدرات الدول العربية في مواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، ولعل إطلاق القاهرة لـ “المنتدى العربي الاستخباري” يصب في هذا الإطار.

دوافع الانفتاح العربي 

الخيار الثاني يتمثل في العراق ذاته، حيث بات يتطلع للانفتاح أكثر على محيطه العربي، انطلاقا من إدراك أهمية الهوية العربية التي يحملها، وهو ما برز إبان عهد حكومة مصطفى الكاظمي التي بدأت منذ أيار/مايو 2020 وإلى أواخر 2022، الفترة التي شهد خلالها المزاج الشعبي العراقي شبه نفور عام إزاء التدخلات الإيرانية.

بغداد تسعى إلى إعادة التوازن في علاقاتها الخارجية لا سيما مع المحيط العربي، علاوة على احتياج الحكومة العراقية إلى مساعدات واستثمارات عربية لإحلال الاستقرار في البلاد، فضلا عن الدخول في ترتيبات جديدة مع دول عربية مثل مشروع “الشام الجديد” أو “المشرق الجديد” الذي يضم العراق والأردن ومصر، ويهدف إلى زيادة التعاون الاقتصادي وخاصة في الطاقة والكهرباء.

اقرأ/ي أيضا: زيارات أميركية إيرانية لبغداد.. تحوط استراتيجي في سياسة طهران تجاه واشنطن؟

الخيار الثالث والأخير يخص السياقات الإقليمية والدولية التي يغلب عليها التأزم والتعقيد، وتتطلب تعاونا وتنسيقا مشتركا في مواجهة تحديات ضاغطة سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو صحية، ولعل ذلك يفسّر إرسال مساعدات طبية من قبل بعض الدول العربية مثل الإمارات ومصر إلى العراق في إطار تصاعد ما يطلق عليه “دبلوماسية الصحة” التي أفرزتها أزمة “كوفيد-19”.

 التعاون العربي العراقي يُسهم في الحد من تدخلات القوى الإقليمية، وخاصة النفوذ التركي في شمال العراق، وكذلك فإن تعزيز العلاقات العربية بالعراق يؤدي بدرجة ما إلى إخراجه من معادلة التوتر بين واشنطن وطهران في الإقليم بدلا من أن يكون ساحة للمواجهة، كما تفرز الساحة العراقية أمام القوى الدولية والإقليمية التي تتصارع على مستوى بُقع عديدة حول العالم، والتي منها العراق، وفقا لمركز “إنتررجيونال” للدراسات.

في السياق، تسعى القوى الغربية والعربية الاستثمار في علاقاتها وتحالفاتهما لضبط الصراع العالمي، إذ بات النفوذ الإيراني في العراق يشكل نافذة إلى قوى دولية مثل الصين وروسيا، حيث تحاول موسكو وبكين الدفع بحليفتهما طهران إلى الاستثمار في وجودها داخل العراق لتمهيد أرضية مناسبة لهما، بهدف التوسع في استثمارات الطاقة وخلق غطاء أمنيٍّ للضغط من خلاله على مصالح القوى المنافسة لهما، مقابل إتاحة مساحة حيوية لإيران تمارس فيها نشاطاتها الاقتصادية، والتمدد من خلالها إلى الخليج العربي.

الأمر الذي لم يضع أمام الدول العربية سوى تشبيك علاقاتها مجددا، وتحديد مصالحها وتجاوز خلافاتها حفاظا على صالح المنطقة التي باتت إيران تقضم فيها شيئا فشيء، والوقوف أمام تحالفات الشرق الأوروبي الآسيوي الأوسطي، لترسيم خارطة تحالفات جديدة تقوم على أساس اقتصادي وأمني، وهو ما أكدت عليه كل المؤتمرات والقمم والاتفاقات الدولية التي عملت عليها الدول العربية بمعية العراق تحديدا، فلماذا العراق.

العراق وما يمثله في دائرة الانفتاح العربي

يمتلك العراق موارد اقتصادية كبيرة يمكنها دعم الدول الفقيرة من المحيط العربي، كما يُعد موقعه مفتاحا لمنطقة الخليج العربي والشام، ليجعل منه العنصر الأساسي في تطلعات المنطقة التي تعمل على تعزيز تحالفاتها وفقا لما تتطلبه الساحة الدولية ومتغيراتها وما يتوافق مع مصالحها وحاجاتها، فضلا عن تحديد أولوياتها من الدول الكبرى. هذا وبغض النظر عن محاذاته لتركيا التي تحاول هي الأخرى فرض نفوذها على المنطقة، ما يستدعي تعزيز الموقف العراقي أمامها، لا أن يبقى أرضية هشة تخدم الأجندة التوسعية التي تسعى لها أنقرة وطهران حليفتها الظاهرية.

في المقابل، لم تدّخر بغداد في شأن التقارب بين العراق والدول العربية من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، حيث عقد “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” منذ العام 2008، بغية إرساء علاقة الصداقة والتعاون وفق أسس تعاون مشترك طويلة المدى وتشمل سبعة مجالات رئيسية هي السياسة والدبلوماسية، الدفاع والأمن، الثقافة، الاقتصاد والطاقة، الصحة والبيئة، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، تطبيق القانون والقضاء.

اقرأ/ي أيضا: الغزو الروسي لأوكرانيا.. نظرة في أهداف إيران الاستراتيجية

في الأثناء، شكّل العراق والسعودية “المجلس التنسيقي المشترك”، بهدف الارتقاء بالعلاقات الثنائية بين البلدين في كل المجالات وتنسيق الجهود لتنمية الشراكة الاستراتيجية بينهما. وعقد “المجلس التنسيقي” السعودي العراقي اجتماعه الأول مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2017، برعاية العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، ورئيس وزراء العراق آنذاك حيدر العبادي، ووزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون.

كما وقّعت الحكومة العراقية سلسلة اتفاقيات مع شركات أميركية للطاقة المستدامة، فضلا عن مذكرات تفاهم لإقامة شركة جديدة للطاقة في محافظة ذي قار جنوبي البلاد. وتتضمن أيضا إدارة ملف الطاقة بالكامل في المحافظة القريبة من الحدود الإيرانية، ووفقا لبيان وزارة الطاقة الأميركية، بلغ إجمالي قيمة الاتفاقيات الموقّعة 8 مليارات دولار.

كذلك في إطار التعاون والتنسيق مع دول الخليج العربي، كان رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي قد وجّه في 13 تموز/يوليو من عام 2020، بإعادة تشكيل الوفد العراقي في “المجلس التنسيقي” السعودي العراقي برئاسة وزير المالية، نائب رئيس الوزراء علي علاوي. وفي 20 تموز/يوليو الماضي، وقّع الوفد العراقي برئاسة علاوي، مجموعة اتفاقيات ومذكّرات ضمن “المجلس التنسيقي” في المجالات الاستثمارية والتعليمية والرياضية والطاقة وغيرها.

بالمحصلة، تشير صحيفة “اندبندنت عربية” البريطانية إلى أن هذه التعاون العربي الأميركي مع العراق، لم يشكل أخبارا سارة بالنسبة لإيران التي هيمنت الجماعات الموالية لها على غالبية المفاصل الاقتصادية والسياسية للبلاد، واستفادت طهران من تلك المعادلة في جعل العراق معزولا عن محيطه الإقليمي والمجتمع الدولي، الأمر الذي وفّر لها ولحلفائها مساحة لجعل العراق رئة اقتصادية رئيسة تجعلها قادرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية، فضلا عن ما يمثله ذلك في سياق التضيق داخل ساحات النفوذ.

خلاصة واستنتاجات

هناك مصلحة عربية تتعلق بتعافي العراق من الأزمات الداخلية والخارجية التي واجهته طوال الفترة الماضية، فمثلما كان العراق مصدر تهديد للدول العربية خلال حكم صدام حسين، صار أكثر تهديدا للأمن الوطني وللأمن القومي العربي في مرحلة النفوذ الإيراني، وهو ما أدركته الدول العربية بضرورة إدماج العراق في المنظومة العربية.

يضاف إلى ذلك تعزيز مؤشرات استقراره وانفتاحه على دول جواره، وفقا لمنافع مشتركة متمثلة أساسا في درء تهديدات الأمن وزيادة شبكات الاقتصاد، وخاصة تنويع طرق تصدير نفطه تجنّبا للتهديدات التي أثارتها التوترات بين واشنطن وطهران على خلفية “استهداف الناقلات” والمصالح الأجنبية في العراق.

بيد أن هذا الانفتاح العربي على العراق يواجه عقبات، منها هشاشة التركيبة السياسية داخل العراق التي تُضعف التوافق بشأن السياسة الخارجية، مثلما هو الحال بالنسبة إلى القضايا الداخلية، في الوقت الذي تحظى فيه الكتل الموالية لإيران بنصيب كبير داخل البرلمان، بما يدفعها إلى عرقلة أي اتفاقيات أو تفاهمات تبرمها الحكومة العراقية مع الدول العربية إذا شعرت أن هذه الاتفاقيات يمكن أن تخصم من رصيدها، أو من المكاسب الاقتصادية لإيران في العراق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.