الإضراب، أحد الأسلحة الهامة لمواجهة الاستعباد أو الاستبداد، فبالرغم من سلميته وسلبيته؛ كونه قائم على الامتناع عن الفعل، إلا أنه ذو تأثير عنيف يؤدي لشل الحركة الاقتصادية والسياسية بالتالي، ما يؤدي إلى هزّ النظام الحاكم وإسقاطه.

عالمة الاجتماع الاشتراكية روزا لوكسمبورغ، تعتقد أن العلاقة بين المطالب الاقتصادية والسياسية ذات اتجاهين. وبالتالي يمكن أن تصبح المطالب الاقتصادية مطالب سياسية، وبالعكس. فبعد كلِّ عمل سياسي عظيم، تبقى بقايا مميزة، تنبت منها فروعا للنضال الاقتصادي، تخشى الطبقة الحاكمة هذه النتيجة، ولهذا تردد ألسنتها بأن هذا “المشاكل التي يعاني منها المجتمع، مثل ارتفاع معدل التضخم، ليس لها سبب سياسي وهي مجرد ظاهرة”، وفقا لما أورده موقع “إيران إنترناشيونال”.

الإضراب توأم الاحتجاجات الإيرانية

قياسا على تاريخ الحركات السياسية الكبرى في إيران، يحتاج الحراك الراهن لعبور أربع مراحل مهمة ومصيرية، بحسب المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة”.

الاحتجاجات العامة بمشاركة الجامعات والمدارس ومظاهرات الشارع، والإضرابات العامة أي البازار وكبار القطاعات الخدمية والصناعية، وأيضا انضمام الموظفين ورجال الدين البارزين للاحتجاجات، إضافة إلى الانشقاقات العسكرية.

الحراك الثوري الحالي تجاوز المرحلتين الأوليتين بنجاح كبير، وفقا لـ”رصانة”. حيث استقطب قطّاعا واسعا من رجال الدّين “السنة”. أما على صعيد انضمام الموظفين، ظلت مشاركتهم حتى الآن دون المأمول نظرا للصفة المحافظة التي يتصف بها هؤلاء. لكن ارتفاع منسوب القمع، سيُؤدي لدخول هذا القطاع إلى قائمة المحتجين بشكل أكبر.

قد يهمك: الاحتجاجات الإيرانية تُقلق نظام خامنئي

في تقرير سابق، اعتبرت الكاتبة السياسية، عالية منصور، أن إضراب التجار أضفى تأثيره على العجلة الاقتصادية شبه المعطلة أصلا. وهو ما دعا الإعلام الرسمي الإيراني لتصوير البازار إلى جانبها وغير مشارك بالإضراب، وإنما يتم إرغام التّجار على إغلاق محالهم من قبل المنتفضين.

في حديثه لـ”الحل نت” يلحظ الباحث في الشأن الإيراني، سعيد ريزوندي، أن معظم الأكاديميين والمثقفين يربطون استمرار حياة الجمهورية “الإسلامية” الإيرانية، وسيطرتها على البنية الاجتماعية والاستراتيجية للبلد، بالعامل الاقتصادي ارتباطا وثيقا.

 حيث يمكن القول، إن “سياسة شراء ذمم المفكرين وأصحاب الفكر والرأي عبر منظومة الاقتصاد الريعي الراهن في إيران، والتحالف مع هؤلاء لتأسيس بنية نظرية لمنظومة القمع الموجودة، والتي لم يكن لها أن تتحقق إلا عبر العامل الاقتصادي، الذي يُعتبر من أهم المحفّزات والعوامل المؤثّرة والأساسية على مدى مشاركة مختلف شرائح المجتمع في الحياة السياسية والنشاطات الأيديولوجية التي يحددها النظام ويشجع عليها”.

الانفتاح الاقتصادي، بحسب ريزوندي، يُعتبر أحد أهم القواعد الأساسية للأنظمة الديكتاتورية. وفيما يتعلق بالنظام الإيراني، وتأثير الإضرابات عليه، ينبغي الإشارة إلى علاقة الاقتصاد والحكم الشمولي بشكل عام، ومدى إمكانية تحول الإضرابات كعامل مكمل أو مساعد إلى جانب الاحتجاجات العامة في الشوارع، إلى تحد كبير وجدي للنظام الحاكم، وفق تعبيره.

من البازار إلى الجامعة

أفق الثورة والإضرابات العامة، قد يبدو بعيد المنال بالنسبة لغالبية العمال الذين يخوضون معارك صغيرة في أماكن عملهم، لكن حتى أصغر الإضرابات تعزز ثقتهم، ويزيد التشاور بين العمال ونقاباتهم من احتمالية الانتصار، بحسب لوكسمبورغ. وعليه، شددت على استمرار الإضرابات حتى تتمكن الثورة من سحق الحكومة، وتحقيق المطالب السياسية والاقتصادية وتحويلها إلى واقع. فإضرابات الطبقة العاملة هي “السلاح الأكثر فاعلية، في النضال من أجل الحرية والتحرير، لأنها تجمع بين التأثير الاقتصادي على الطبقة الحاكمة والمطالب السياسية، على نطاق واسع، وهذا فعّال في خلق مجتمع أفضل”، وفق تعبيرها.

استجابة لدعوة من مجموعة تطلق على نفسها “الشباب الثوار في إيران” و”مركز تعاون الأحزاب الكردية في إيران” أغلقت العديد من المحلات والأعمال التجارية، في عموم إيران، بحسب موقع “الشفافية نيوز”. وواصل أصحاب المتاجر في جوانرود غرب إيران، إضرابهم رغم الأجواء الأمنية بالمدينة، في تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، احتجاجا على قمع المتظاهرين. انضمت مدن سميرم بأصفهان، وبوكان في أذربيجان الغربية إلى الإضراب. كما أعلن عمال شركة “نيرو محركة” في قزوين الإضراب عن العمل وشهدت مدينة “أورومية”، إضرابا واسعا في المدينة، بدت خلاله الشوارع فارغة.

مدير مركز “نورس” للدراسات، إياد حمود. يذكر بالأثر الكبير لإضراب عمال النفط عام 1978 على نظام الشاه، والذي كان له دور كبير في نجاح الثورة حينها، عندما أمر الشــيخ محمــد طاهــر الخاقاني عـمال الحقـول النفطيـة في عبادان والمحمرة، بالتوقف عـن العمل تضامنـا مـع الثـورة.

 مصير الشيخ الخاقاني، الذي احتُجز ضريرا في منزله بالمحمرة، وتوفي لاحقا تحت الإقامة الجبرية في مدينة قم، بالإضافة لمطالب الأحوازيين، التي لا تلقى آذان صاغية لدى تيارات المعارضة الإيرانية، مع تعطش الملالي لدماء الشعوب غير الفارسية، واستخدام حراكها المدني كورقة تخويف من الانفصالية، أخّر تكرار إضراب مؤثر في منشآت النفط، الموجود أغلبها في إقليم الأحواز. بحسب حمود، وفي حال توافق تيارات المعارضة الإيرانية على صيغة معينة لشكل دولة ما بعد الملالي، يضمن حقوق متساوية لجميع الإيرانيين، حينها سنشهد خنق النظام الإيراني من الرئة النفطية التي تمده بالحياة، على حد تعبيره. 

 اقرأ أيضا: إدارة الاحتجاجات الاجتماعية في إيران.. اللاقيادة تجعل القمع صعبا

 أهم البازارات في طهران، “البازار الكبير” و”لاله زار” وحديقة “سبهسالار” و”بازار تجريش” و”بازار شيراز”، أغلقوا متاجرهم مثلما فعل تجار إقليم كوردستان. وقام حوالي 4000 عامل في بوشهر للبتروكيماويات ودماوند للبتروكيماويات وهنجام للبتروكيماويات، المتعاقدة في مجمع “عسلوية” للبتروكيماويات، أحد أكبر هذه المجمعات في العالم، بإضراب إلى أجل غير مسمى.

 تحسبا للإضراب، تم إغلاق شركة “صدرا” للبتروكيماويات بشكل استباقي، مع رفع شعاري “الموت لخامنئي”، و”لا تسموها احتجاجا، إنها ثورة”. خرج على إثرهم عمال مجمع “بارس” الجنوبي للإضراب “مجمع ضخم للبتروكيماويات” ومصفاة نفط عبادان “المركز التاريخي للإضراب العام الذي مهّد للإطاحة بالشاه عام 1979″، وبحسب موقع “ماركسيم”، فإن دخول الطبقة العاملة، لاسيما عمال النفط، إلى الاحتجاجات بطريقة منظمة، لاسيما صناعة النفط، يعتبر نقطة تحول حاسمة. ويدرك النظام الإيراني هذه الحقيقة. لذا، فرض سياسة عدم التسامح مع هذا النشاط العمالي في الصناعات الرئيسية.

طلاب جامعة أصفهان، أصدروا بيانا اعتبر الإضرابات الوطنية والعامة، تٌشعر مجموعات الاحتجاج في الشوارع بمزيد من الدعم. وعندما تصل الإضرابات إلى مراكز العمل والنقل والصناعات الأم، فإن عجلة القمع الحكومية ستتوقف عمليا. إذ لا يمكن لأي فيلق أو جيش البقاء على قيد الحياة دون نفقات عسكرية يتم تمويلها مباشرة من هذه الصناعات، بحسب موقع “ماركسيم”.

وفقا لريزوندي، يعتمد النظام الإيراني اعتمادا كليا على مصدرين رئيسيين للاقتصاد، الثروات الطبيعية كالنفط والغاز وغيرهما من الموارد الطبيعية، بالإضافة للموارد الناتجة عن القوى العاملة والسوق. وعليه، فإن أي نوع من الاضرابات أو أي حدث يؤثر سلبا على هذين المصدرَين لدخل النظام، قد يشكل خطرا كبيرا وحقيقيا على بقاء النظام. لذلك، يمكن للإضرابات أن تلعب دورا مهما وفعّالا ومكملا في إنهاء حياة الجمهورية “الإسلامية”، نظرا لأن الأخيرة تستطيع أن تحافظ على نفسها عبر تحقيق نوع من الرفاهية الاقتصادية نسبيا، وتحسين الظروف المعيشية للطبقة الوسطى والطبقة العاملة، التي تشكل معظم سكان إيران. ومن ثم تقليص فرص نجاح الثورة أو تحجيمها في إطار محدد. فالتحديات الاقتصادية المؤلمة التي تواجه النظام حاليا، مثل سعر الصرف المتزايد للدولار، وغلاء أسعار السلع المعيشية وغيرها يمكن قراءتها في هذا الإطار.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، كتبت مجموعة من طلاب جامعة بهشتي “نبلغ سلطات الجامعة والقوى القمعية للنظام الغاشم بأننا سنواصل احتجاجنا وإضرابنا وكذلك مقاطعة الصفوف الدراسية، ما دام أصدقاؤنا موجودين في السجن” وفقا لموقع “مصر اليوم”.

 بالتزامن معه أصدر طلاب جامعة العلوم والثقافة بيانا جاء فيه، “في أعقاب الهجمات المستمرة لقوات الأمن على الجامعات، وقتل واعتقال الأشخاص والطلاب المعترضين، سنستمر في تعطيل الصفوف الدراسية حتى إطلاق سراح صنّاع المستقبل”. مطالبين أساتذة الجامعة أن يكونوا معهم “على طريق الحرية والشرف”.

من ساحة الجامعات إلى زنزانة السجن

 القمع العنيف الذي يتّبعه الأمن الإيراني أثار ردة فعل عنيفة والدخول في إضراب عام ثوري، حسب وكالة “أسوشتيد برس”، نقلا عن صحيفة “الدستور”. حيث انضم الشباب في الشوارع وفي حرم الجامعات وتجار البازار، بالإضافة إلى طبقات مهمة من الطبقة العاملة. كان الأهم فيها، سلسلة الإضرابات في قطاع النفط والبتروكيماويات، قلب الاقتصاد الإيراني.

اللافت في الإضرابات التي شهدتها الساحة الإيرانية، وصولها لنزلاء السجون، الذين لم يتخلفوا عن المشاركة في الإضرابات. حيث أقدمت 15 سجينة سياسية على الإضراب عن الطعام، وأعلن محمد مهدي كرمي، المحكوم عليه بالإعدام على خلفية التظاهرات الأخيرة، عن دخوله في إضراب عن الطعام احتجاجا على تأييد حكم إعدامه، حسب موقع “الكويت برس”.

الإضراب العام نبض الثورة وأقوى محرك لها، بحسب روزا لوكسمبورغ، وهي القوة الدافعة للثورة، من خلال خلق أفكار مختلفة بين العمال، تمنحهم الثقة بالنفس، للنضال أكثر وهي أفضل أداة للتعليم.

الوسائل المَدنية للتعبير عن المقاومة والرفض للنظام الحاكم، يُعتبر تكاتفها ضرورة من ضرورات أي حراك مدني. ومع الأهمية الكبيرة لانتفاضة الشارع، فإن الإضراب العام والإضرابات الجزئية، تتساوى بأهميتها مع الاحتجاجات. فإن كانت الأولى تستهلك النظام أمنيا، فإن الثانية تستهلكه اقتصاديا وسياسيا. ويتكاتف العاملان المذكوران مع سواهما في إسقاطه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.