الاحتجاجات الشعبية في إيران لم تتوقف على مدار العقود الماضية؛ إذ إن نظام “الجمهورية الإسلامية” قد وقع تحت وطأة احتجاجات جمّة في فترات متفاوتة، بعضها اجتماعي ومرتبط بقضايا حقوقية وفئوية، والبعض الآخر سياسي، كما كان الحال في احتجاجات الحركة الخضراء عام 2009 والتي اندلعت على خلفية رفض نتائج الانتخابات المزورة التي فاز بها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، أو احتجاجات رفع أسعار الوقود بين عامي 2018-2019.

لكن إيران، ما بعد مقتل مهسا أميني “جينا أميني”، في أيلول/ سبتمبر العام الماضي، تواجه لحظة قصوى من الاحتجاجات التي عمدت إلى رفع شعارات مناهضة لإلزامية الحجاب ورفض ممارسات أفراد دورية “شرطة الأخلاق” والمتسببة في مقتل الفتاة الكُردية الإيرانية بعد زعمها ارتداء “حجاب سيء” على حد تعبير السلطات الإيرانية، ثم ما لبثت أن تطورت هذه التظاهرات في جانبها الاجتماعي والفئوي وحمولاتها الحقوقية لتصل إلى رفض النظام السياسي لـ”الجمهورية الإسلامية”، برمته.

بينما امتدت التظاهرات إلى كافة المدن والأقاليم الإيرانية، حاملة معاناة النساء والمعلمين والعمال والفئات المختلفة تحت وطأة الممارسات السياسية القمعية والمعاناة الاقتصادية والقبضة الأمنية الشديدة لحكومة طهران، فضلا عن مساحات التهميش والقمع التي طالت عديد القوميات، ولم يسلم منها حتى المواطن الإيراني العادي من القومية الفارسية. ومن بين التحديات التي تواجه السلطات الأمنية في إيران هي عدم وجود تمثيل سياسي محدد أو تنظيم وكيان يقود هذه التظاهرات.

عفوية الاحتجاجات التي تضم في سيولة واضحة قطاعات عديدة، طلبة ومهنيين وتجار، تضع النظام في مأزق شديد لإنهاء الوضع الاحتجاجي بالقمع أو تصفيته أو حتى تشتيت جهوده. كما قالت العالمة الإيرانية فاطمة شمس، “الناس في الشوارع لا ينتظرون أن يأتي أحد ليأخذ زمام المبادرة. إنهم قادة الثورة.. لقد جعلوا الأمر صعبا للغاية على قوات الأمن والحكومة لقمع هذه الحركة بالفعل”.

فيما يبدو أن عملية الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية والزخم المحيط بهما، مرشحا للتصاعد وربما التكرار، وقد بات يركز على إسقاط حكم الملالي، وليس فقط التنديد بمقتل أميني، الذي بات جليا أن إيران تعاني من أزمة كبيرة، وسط عجزها في إخماد أصوات الشعب الإيراني، رغم ممارستها لأدوات القمع واعتقال آلاف المتظاهرين، بجانب إصدار قرار حل “شرطة الأخلاق”، إلا أن هذا الأمر ككل يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول ديناميكية تلك التعبئة وسياقها، وأيضا محركات تلك الاحتجاجات، وسماتها، وما تحمله من دلالات، وصولا إلى مستقبلها في ظل تطورات على الصعيد الداخلي وبنية النظام السياسي الإيراني، “الذي يحمل وجه ثيوقراطي يتمثل في ولاية الفقيه، ووجه آخر يتسم بالتشوه المؤسسي الوظيفي”، وفق دراسات.

أيضا، تساؤل حول النموذج المناسب لإدارة الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في إيران. في المقابل، ترتفع وتيرة الاحتجاجات بإيران المندلعة منذ وفاة أميني، بالتزامن مع ذكرى إسقاط الطائرة الأوكرانية، فكيف ستنعكس آثارها على النظام هناك، خاصة وأنه في هذه الذكرى اعترف “الحرس الثوري” الإيراني بمسؤوليته، وأخيرا موقف الغرب من تجاوزت وخروقات طهران، لا سيما أن المصادفة كشفت عن اصطفاف الأخيرة مع روسيا ضد أوكرانيا في الحرب وكذلك دعم موسكو بالمسيّرات الإيرانية.

قوة “عفوية” الاحتجاجات

قبل أشهر قليلة، كانت أميني، البالغة من العمر 22 عاما، تزور عائلتها في العاصمة الإيرانية طهران عندما تم القبض عليها لارتدائها الحجاب “بشكل غير لائق” بحسب زعمهم. واقتيدت إلى مركز لإعادة التأهيل حيث ورد أنها تعرضت للضرب على أيدي “شرطة الأخلاق” في البلاد، وبعد ثلاثة أيام ماتت.

وفاة أو بالأحرى مقتل أميني، أثارت غضبا عالميا، مما دفع النساء إلى النزول إلى شوارع إيران وإضرام النار في حجابهن. وسرعان ما تطور ما بدأ كاحتجاج على وفاة أميني إلى حركة أوسع بكثير ضد النظام الملالي الذي يحكم إيران منذ أكثر من 40 عاما. ولكن بينما كانت هناك العديد من الاحتجاجات في البلاد على مرّ السنين، فإن ما يجعل هذا الاحتجاج مختلفا، وربما قويا جدا، هو أنه لم يتم تحديده أو تحفيزه من قِبل قيادة أو رئيس صوري واحد.

ضمن هذا الإطار، يعتقد وجدان عبدالرحمن، الخبير في الشؤون الإيرانية، أن اللاقيادة فيما يتعلق بالاحتجاجات الإيرانية هو أفضل سبيل للاحتجاجات، وهو ما يحدث الآن تقريبا، لأن الاحتجاجات كلما كانت عفوية بلا قيادة، كلما توسعت في مختلف المحافظات والمدن الإيرانية، وتضغط بشكل أكبر على النظام الإيراني.

عبد الرحمن استدرك ذلك أثناء حديثه لموقع “الحل نت”، بالقول “شوهد هذا الأمر خلال الأعوام 2017-2019، والتي انطلقت من مدينة ومن ثم اتسعت بكل الجغرافية الإيرانية، إثر الاحتجاجات التي كانت تطالب بتحسين الواقع المعيشي بشكل عام، من تخفيض أسعار المحروقات ورفع قيمة الرواتب. وكيف صُعب على النظام السيطرة عليها حينها، لحين إصدار الخامنئي فتواه بقمع هذه الاحتجاجات بقوة، وهو ما تم بالفعل من قبل الحرس الثوري، الذي تسبب بمقتل أكثر من 1500 متظاهر في ذلك الوقت، وبالتالي كلما كانت الاحتجاجات عفوية دون قيادة وغير منسقة، كلما كانت أقوى”.

نماذج إدارة الاحتجاجات الفئوية

بطبيعة الحال، بالنسبة للكثيرين، فإن الطبيعة اللامركزية لهذه الاحتجاجات هي أيضا طريقة للبقاء، لا سيما في مواجهة مثل هذه القوات الأمنية القوية لنظام طهران.

بحسب تقدير عبد الرحمن، فإن الاحتجاجات المنسقة محدودة القوة، فعلى سبيل المثال، الاحتجاجات النقابية التي حدثت في مصنع السكر في الأحواز، أو نقابة المعلمين والأطباء سابقا، كانت احتجاجات محدودة التأثير.

قد يهمك: طهران والتقارب التركي السوري.. تخوف أم مصلحة إيرانية؟

لكن في نهاية المطاف، يعتقد عبد الرحمن، إذا ما رفعت هذه الاحتجاجات مطالبهم إلى “مطالب سياسية”، كما يحدث الآن في إيران، فلا بد من وجود قيادة لها، وأن لا تقتصر هذه القيادة على “جماعة معينة”، بالنظر إلى أن طبيعة جغرافية إيران متنوعة، من الفرس والأكراد والتركمان والبلوش واللور والعرب الأحواز، مما يعني أنه يجب أن تكون هناك “قيادة مشتركة” لإدارة الاحتجاجات، وفي تقدير عبد الرحمن أن هذا الأمر “جار الآن” في الاحتجاجات الإيرانية القائمة حاليا.

إيران في “زاوية ضيقة”

في المقابل، عشية الذكرى الثالثة لإطلاق “الحرس الثوري الإيراني” الصواريخ عمدا على طائرة “البوينغ” الأوكرانية، دعت جمعية أهالي ضحايا الرحلة، الناس في جميع أنحاء العالم للانضمام إلى التجمعات التي ستُعقد بهذه المناسبة. وكتبت الجمعية على منصة “تويتر”، “العدل سينتصر في الذكرى الثالثة لإسقاط الرحلة “بي إس 752″ وتضامنا مع الثورة الإيرانية، انضموا إلى التجمعات حول العالم في 8 كانون الثاني/يناير الجاري”.

الدعوة التي نشرت تحت عنوان “الوقت ليس وقت حداد بل وقت الغضب”، هذا العام نقترب من 8 كانون الثاني/يناير الجاري، في حين كان شعار الشعب قبل 3 سنوات، في شوارع المدن والجامعات، ضد وجود “الجمهورية الإسلامية” برمتها، حسبما نقله موقع “إيران إنترناشيونال“.

وفقا لهذه الدعوة، من المقرر أن يتم يوم الأحد القادم، تنظيم إضراب هادف واحتجاجي للنقابات المختلفة من الصباح حتى وقت الظهيرة، وفي نفس الوقت يقوم التلاميذ وطلاب الجامعات بأداء احتجاجي، وكتابة شعارات، واعتصام، وإضراب في إيران.

كذلك، اعتبارا من الساعة الرابعة عصرا، من المتوقع أن تسير جميع المجموعات، بما في ذلك الطلاب والنساء والمعلمين والعاملين والطاقم الطبي وقطاعات المجتمع المختلفة، إلى الساحات والمراكز الرئيسية في المدن وتنظم احتجاجات على مستوى البلاد.

بالعودة إلى الخبير في الشأن الإيراني، عبد الرحمن، قال إن كل مناسبة عادة ما تجعل هناك مبررا أكبر للخروج إلى الشارع ونسبة المشاركة تكون أكبر، بينما يتبنى النظام الإيراني أسلوب القمع ضد المحتجين، وبالتالي فإن الاحتجاجات سواء داخل إيران أو في الدول الغربية على إثر ذكرى إسقاط الطائرة الأوكرانية بالتزامن مع الاحتجاجات الشعبية الإيرانية سيكون لها تأثير كبير على النظام الإيراني، وهناك تحرك كبير من جانب كندا، حيث أنها تعمل على “نقل هذا الملف إلى لاهاي لمحاكمة طهران”. إذن هذا ضغط كبير؛ سياسي واقتصادي ومدني داخل إيران.

أما عن اعتراف “الحرس الثوري” الإيراني، بإسقاط الطائرة الأوكرانية، فمن المعروف أن مثل هذه الأوامر تأتي من القيادات العليا، وحاليا هناك محادثات تفيد بأنه هناك إجراءات لمحاسبة المسؤولين عن هذا الأمر، ولكن حتى لو قامت إيران بمحاسبة بعض الأفراد وإن كان على مستوى القيادات، وفق عبد الرحمن، فإن المساءلة ستكون “صورية” فقط، وذلك لتمرير هذه الجريمة أمام المجتمع الدولي، لكن هذا مستبعد، لأن الأخير يعرف بالضبط من يقف وراء مثل هذه الممارسات، خاصة وأن عددا كبيرا من الأشخاص قتلوا في هذه الطائرة.

أربع دول بقيادة كندا، أعلنت اليوم الأربعاء، أنها طالبت طهران بإجراء تحكيم ملزم من أجل “محاسبة إيران” على إسقاط طائرة “البوينغ” الأوكرانية بعد نحو ثلاث سنوات من الكارثة. وارتكزت كندا وأوكرانيا والسويد وبريطانيا في طلب التحكيم، على اتفاقية مونتريال لعام 1971 التي تنظم تسوية الجرائم ضد الطيران المدني.

الاتفاقية تنصّ على أنه إذا لم يتفق الطرفان على تنظيم تحكيم مستقل في غضون ستة أشهر، يمكن رفع النزاع إلى محكمة العدل الدولية، وهي أعلى محكمة في “الأمم المتحدة” ومقرها لاهاي، بحسب ما نقلته “الشرق الأوسط“.

في 8 كانون الثاني/يناير 2020، أسقطت القوات المسلحة الإيرانية طائرة “بوينغ” تابعة للخطوط الجوية الأوكرانية تربط طهران بكييف، ما تسبب في مقتل 176 راكبا، معظمهم إيرانيون وكنديون. ولم تقرّ السلطات إلا بعد ثلاثة أيام بأنها أسقطت الطائرة “عن طريق الخطأ”.

هذا وتتهم الدول “الحرس الثوري” الإيراني بإطلاق صاروخين أرض – جو على الطائرة بشكل “غير قانوني ومتعمّد”. وتتفاوض الدول مع إيران منذ فترة طويلة لصرف تعويضات لأسر الضحايا.

عليه، يبدو أن الاحتجاجات الشعبية الإيرانية اللاقيادية، تحتاج إلى الكثير من الوقت حتى يصل الوضع إلى الإصلاح وتحقيق الأهداف المرجوة من تغيير لبنية النظام الحاكم هناك، لا سيما أن طهران لا تنفك عن استخدام أساليب القمع والترهيب. من جانب آخر، فإن أخطر ما فعلته طهران هو الانغماس في الحرب الأوكرانية بالانحياز إلى جانب موسكو، ويُعتقد أن الأخيرة ورطت الأولى في معركتها مع الغرب، ذلك لأن لروسيا تأثير كبير في القيادات الأصولية في إيران، خاصة “الحرس الثوري” الإيراني، وهذا التدخل الإيراني وتزويد موسكو بطائرات مسيّرة من أخطر ما قامت به طهران وتعتبر من “الخطوط الحمراء” بالنسبة للغرب وتحديدا “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، وبالتالي خسرت طهران فرصة أيضا فيما يتعلق بالملف النووي، وبالتالي باتت إيران أمام ضغط كبير سواء من الداخل أو الخارج، وكله على إثر سياساتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة