العديد من الزيارات لقادة ووزراء الخارجية جرت بشكل مكثف إلى حد ما لا سيما في الآونة الأخيرة، وذلك على خلفية المتغيرات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى العديد من الأزمات الدولية كأزمة الطاقة العالمية وتراجع العملات المحلية أمام النقد الأجنبي أو أزمات التضخم التي تجتاح العديد من الدول وخاصة دول الشرق الأوسط. كان للعراق نصيب مهم في هذه التحركات الدولية، حيث قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارة العراق مؤخرا، ثم قام وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين بزيارة واشنطن قبل نحو ثلاثة أيام، وتركزت المباحثات بشكل عام على الجانب الاقتصادي مع بغداد، وخاصة الجانب الطاقي، في خضم أزمة تراجع قيمة الدينار العراقي مقابل العملة الصعبة.

وزير الخارجية العراقي، يقول إن هناك تفهّم واضح من الجانب الأميركي للخطوات التي اتخذها العراق من أجل إصلاح الاقتصاد والسياسة النقدية والمالية، وإنه جرت اجتماعات مكثّفة مع المسؤولين الأميركيين على إثر زيارته مؤخرا لواشنطن، وهذه الاجتماعات ركزت على مواضيع متعلقة بالوضع الاقتصادي والطاقة، ومنها قضايا استثمار الغاز، ومسألة مساعدة الحكومة والشركات الأميركية في هذا المجال، بجانب العلاقات الثنائية وسُبل تعزيزها في القطاعات المختلفة، بالاستناد لاتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الجانبين.

هذا الأمر أكده أيضا وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال لقائه مع فؤاد حسين، وقال إن واشنطن تركز على البُعد الاقتصادي لاتفاقية الإطار الاستراتيجي مع العراق، وإن التركيز سيتم بشكل خاص على الطاقة والكهرباء، ويمكن للعراق أن يكون مستقّلا في مجال الطاقة وينبغي أن يكون كذلك.

هذه الزيارة العراقية لواشنطن وتصريحات الوزيرين الأميركي والعراقي، تأتي بعد زيارة وزير الخارجية الروسي للعراق قبل أيام، والتي ركزت أيضا على ملف الاقتصاد وخاصة قطاع الطاقة، الذي يُعد من القطاعات الرئيسية التي تقود العلاقات بين روسيا والعراق، مما يفتح الباب لكثير من التساؤلات، حول دلالات زيارة فؤاد حسين لواشنطن، خاصة في هذا التوقيت، ورسائل هذه الزيارة للجانب الروسي، خاصة تصريحات بلينكن.

هذا بالإضافة إلى التساؤل حول تعاون العراق مع أي من البلدين المتنازعَين بشكل غير مباشر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصة في ظل أزمة الدينار العراقي، وهل ثمة تعاون مزدوج من قبل العراق مع كلٍّ من أميركا وروسيا، وأخيرا، تداعيات هذه الزيارات ككل على روسيا أو العراق وسط عقوبات دولية ضد روسيا.

لمناقشة الملفات المهمة والحساسة

وزير الخارجية العراقي، أكد أن بلاده ستواصل العمل مع واشنطن، على أساس بناء الاقتصاد. وقال في مؤتمر صحفي مشترك بواشنطن مع نظيره الأميركي، يوم الخميس الفائت “نشكر الولايات المتحدة لدعمها العراق في حربه ضد تنظيم داعش”، مضيفا “سنواصل العمل معا على أساس بناء اقتصادنا”، بحسب “وكالة الأنباء العراقية الرسمية” (واع).

كما وصف فؤاد حسين اللقاءات التي جرت في واشنطن مع المسؤولين الأميركيين بأنها مثمرة ومهمة، وتحدث عن وجود دعم أميركي واضح للسياسة الحكومية في مجال الاقتصادي، مشيرا إلى لقاءات جرت مع ممثلين من وزارة الخزانة الأميركية بشأن مجموعة من التفاهمات التي توصّلنا إليها في مجال السياسة النقدية والإصلاح في المجال البنكي والمصرفي وكيفية التعامل مع بعض الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية، وفق تقرير لقناة “الحرة” الأميركية.

بدوره، قال بلينكن إن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز الاقتصاد العراقي وإعادة دمجه بالمنطقة، من خلال اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تربط البلدين، والولايات المتحدة قادرة على الاستمرار في دعم العراق وهي تتحرك في هذا الاتجاه، مؤكدا أن واشنطن تتطلع لتعزيز الشراكة الاستراتيجية التي توحّد جهود العراق والولايات المتحدة في هذا الإطار.

الباحث السياسي والاقتصادي نبيل جبار التميمي، يقول إن زيارة فؤاد حسين، على رأس وفد عراقي رفيع المستوى، تأتي حاملة لقضية أزمة الدينار العراقي الأخيرة أمام الدولار الأميركي، وإمكانية تمرير تحويلات مالية من العراق إلى دول العالم بعد عملية فرض نوع من التقييد على التحويلات من قبل “مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي” (البنك المركزي الأميركي) التي أراد من خلالها أن يطبق العراق المعايير الدولية في إجراء التحويلات وبذل جهود أكبر في مكافحة غسيل وتبييض ونقل الأموال إلى الجهات المعاقبة من قبل الخزينة الأميركية.

قد يهمك: زيارة لافروف للعراق.. حماية للعلاقات الاقتصادية من العقوبات؟

التميمي يرى عدم وجود صلة مباشرة بين زيارة لافروف لبغداد وزيارة فؤاد حسين لواشنطن، وفق حديثه لموقع “الحل نت”، وقال إن الجانب الأميركي وظّف الزيارة بكونها مرتبطة باتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقّعة بين البلدين. كما ركز بلينكن على مجموعة من الملفات المهمة والحساسة، حيث كان التركيز على القضايا الاقتصادية بشكل كبير. وهي محاولة أميركية لإعادة صياغة الاقتصاد العراقي برؤية أميركية، إذ توجب على العراق إنهاء وارداته في مجال الطاقة مع إيران، التي يستورد منها العراق الطاقة الكهربائية والغاز المخصصة لمحطات إنتاج الطاقة الكهربائية.

كما أن هذه الزيارة، بحسب تقدير التميمي، لبحث جهود الجانب الأميركي لربط العراق بشبكة من خدمات نقل الطاقة الكهربائية مع مصر والأردن من جهة، وكذلك مع دول الخليج والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.

الزيارة العراقية لواشنطن كانت من خلال وفد عراقي رفيع، ترأسه وزير الخارجية وتضمن محافظ “البنك المركزي” العراقي علي العلاق، ووزيرة المالية طيف سامي، ومسؤولين في مكتب رئيس الوزراء لشؤون الأمن، يوم الأربعاء الماضي. وكانت السفيرة الأميركية لدى العراق، ألينا رومانوفسكي، قالت إن المناقشات الجارية بين الوفد الوزاري العراقي والمسؤولين الأميركيين في واشنطن تتركز على مساعدة العراق في امتلاك الأدوات اللازمة لمنع غسيل الأموال والتلاعب في البورصة.

هذا ومنذ شهرين، يتأرجح الدينار العراقي بشكل حاد إذ خسر في بعض الأيام 15بالمئة من قيمته مقابل الدولار، ما أشعل مظاهرات متفرقة من قبل العراقيين القلقين من فقدان قوتهم الشرائية.

على إثره قررت السلطات العراقية، مؤخرا، رفع قيمة سعر الصرف الرسمي للدينار مقابل الدولار بنسبة 10 بالمئة، وهو إجراء يهدف إلى مكافحة انخفاض قيمة العملة الذي صاحب اعتماد انظمة أكثر صرامة بشأن التحويلات المالية خارج البلاد. كما أن “الفيدرالي الأميركي” كان قد فرض إجراءات على الحوالات المالية الخارجية من العراق، لضمان عدم وصولها إلى طهران ودمشق المعاقبَتين دوليا.

كيفية دفع المستحقات الروسية والإيرانية؟

ضمن الأسبوع الفائت، أثناء استقبال رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الوزير الروسي، تم مناقشة العديد من القضايا، لا سيما في مجال الاقتصاد والطاقة. و قال حينها فؤاد حسين إن العراق سيناقش مع واشنطن هذا الأسبوع كيفية سداد مستحقات شركات الطاقة الروسية على الرغم من العقوبات، مضيفا خلال مؤتمر صحافي مع لافروف في بغداد “سوف نتطرق إلى هذه المشكلة مع الجانب الأميركي لأن هناك عقوبات؛ وهذه العقوبات يجب ألّا تُفرض على الجانب العراقي لأن التعامل مع الشركات الروسية مستمر والشركات الروسية فعّالة في العراق”.

حينها رأى العديد من المراقبين، أنه على اعتبار أن العلاقات بين جميع الدول تحددها المصالح فقط، وخصوصا الاقتصادية، فإن العراق سيكون في طرف مصالحها فقط. وهو اليوم غير مستعد ليكون طرفا في أي صراع دولي، لكنه يستطيع أن يلعب دور الوسيط في بناء السلام والاستقرار ولا شيء أكثر من ذلك، وبالتالي يسعى العراق إلى أن يكون ضمن النظام الدولي.

المراقبون رجّحوا أن وجود العقوبات الدولية على الجانب الروسي يثير العديد من علامات الاستفهام حول التعاون الطاقي بين موسكو وبغداد، خاصة وأنه لا يمكن للشركات الروسية الدخول للاستثمار في العراق دون موافقة دولية وأيضا بما يتماشى مع العقوبات الدولية.

فيما إذا كانت زيارة فؤاد حسين تحمل رسائل للجانب الروسي، يقول التميمي إنه لا توجد رسائل مباشرة للروس فيما يخص الزيارة العراقية لواشنطن. وسبق أن تعاقدت بغداد مع مجموعة شركات أجنبية منها شركات روسية تعمل في مجال النفط واستخراج النفط العراقي.

التوترات الأخيرة بين روسيا والغرب أدت إلى فرض عقوبات دولية على المؤسسات والشركات الروسية، وبالتالي العراق في وضع حرج إزاء قضية دفع تكاليف وأتعاب الشركات الروسية العاملة في العراق. وتأتي زيارة لافروف لبحث هذه القضايا، وعلى إثره تأتي زيارة الوفد العراقي لواشنطن لبحث آليات دفع مستحقات الروس من جهة والمستحقات الإيرانية من جهة أخرى، وفق تعبير التميمي.

هذا وتُقدر الاستثمارات الروسية في العراق بنحو 14 مليار دولار. وهناك حوالي 50 شركة روسية لديها عقود تطوير حقول النفط وعمليات الاستكشاف والتنقيب في عدة مناطق داخل العراق، طبقا للبيانات التي أعلن عنها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي السفير الروسي لدى بغداد.

طريق وعرة لبغداد؟

التميمي يقول إن الحكومة العراقية تؤمن بالانفتاح بشكل واسع على عدة أطراف دولية في الشرق والغرب، تجاه الصين من جانب وباتجاه الدول الخليجية وأيضا دول الاتحاد الأوروبي، على رأسها فرنسا وألمانيا وكذلك الولايات المتحدة الأميركية من جانب آخر، وتحقيق هذه التوازنات ربما يمثّل التحدي الأبرز لإدارة محمد شياع السوداني، ولذلك قد يكون الطريق وعرة بالنسبة للحكومة العراقية الحالية إزاء ذلك.

قد يهمك: تعديل العراق لأسعار الصرف.. “سويفت” أداة جديدة لدولرة الدينار؟

التميمي يستبعد أن يتمكن العراق من توسيع علاقاته التجارية والاستثمارية مع الشركات الروسية العاملة في مجال النفط في العراق، وقد يحاول العراق إيجاد تفاهمات مع الجانب الأميركي لتمرير مستحقات الشركات الروسية. أما تعاونها مع الولايات المتحدة فقد يقتصر على امتثال العراق للرؤى والسياسات الأميركية ضمن الإطار الاستراتيجي الموقع بين البلدين. وفي المنطقة، لم تتضح حتى اليوم الطموحات التجارية للشركات الأميركية لتنفيذ مشاريع داخل العراق.

بحسب تقدير التميمي، فإن الوفد العراقي خلال زيارته لواشنطن ركز على أزمة الدولار التي عصفت بالعراق نتيجة ما أحدثته من ارتباك واضح في الأسواق العراقية وتسبب في ارتفاع أسعار الصرف. وقد يهيأ هذا الوفد الذي زار واشنطن مؤخرا الطريق للملفات الاقتصادية والسياسية أكبر قدر من الاهتمام والمخصص لزيارة شياع السوداني لواشنطن، وهي إحدى الزيارات المتوقعة في الشهر أو الشهرين المقبلين.

بخصوص قضية الغاز، أوضح فؤاد حسين أن اللقاءات شهدت نقاشا عن مساعدة الشركات الأميركية والحكومة الأميركية للعراق في هذا المجال، مشيرا إلى أن التواصل مع “البنك الدولي” و”صندوق النقد” مستمر. وأن هناك خطة للحكومة لتنويع مصادر الدخل وتنويع الاقتصاد العراقي لتشجيع القطاع الخاص وقطاعات أخرى مثل الزراعة، بالإضافة إلى بناء قطاع السياحة، بجانب تناول التغيرات المناخية وكيفية التعامل في هذا المجال، وأن ثمة تقديم مشاريع مختلفة ستتم دراستها، وفق الوزير العراقي.

في العموم، يبدو جليا أن العراق يحاول خلق حالة من التوازن في علاقاته مع الدول، خاصة في الجانب الاقتصادي لما له من أهمية في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية بشكل عام والعراق بشكل خاص، من حيث مجال التنمية الاقتصادية للعراق إلى جانب مجالات الاستثمار الطاقي والغاز الطبيعي وتوفير الطاقة الكهربائية.

إلا أن التعاون الاستراتيجي مع الجانب الأميركي يظل مسألة أبعد وأعمق، حيث أولت الولايات المتحدة أهمية كبيرة للعراق منذ عدة سنوات، وهي تكافح مع “التحالف الدولي” من أجل حماية البلاد من خطر الإرهاب والتطرف منذ سنوات طويلة. وبالتالي فإن توجه العراق للجانب الأميركي سيكون مثمرا وأكبر نفعا من أي طرف آخر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.