في خضم المتغيرات الدولية والأزمات المتعددة، لا سيما أزمة الطاقة العالمية، تجري العديد من التحركات الدولية على مستوى القادة والوزراء خاصة خلال الأشهر الماضية. وكان آخر هذه التحركات زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى العراق، والتي لا بد أنها تحمل العديد من الرسائل والدلالات، في وقت تتكاثف فيه جهود القوى الدولية لجذب بغداد نحوها، لا سيما في ظل الحرب الأوكرانية الملتهبة والتي تقترب من اكتمال عام كامل.

صحيح أن روسيا تسعى بكل قوتها لضمان اصطفاف الدول معها فيما يتعلق بغزوها لأوكرانيا، لكن هذه الزيارة ركزت بشكل كبير على قطاع الطاقة، الذي يُعد من القطاعات الرئيسية التي تقود العلاقات بين روسيا والعراق.

لذلك تبرز عدة تساؤلات حول هذه الزيارة الروسية للعراق، وهي تتمحور حول دلالة ورسائل زيارة لافروف لبغداد في هذا التوقيت، والعوامل التي تدفع العلاقات إلى التطوير والتنشيط بينهما وخاصة على مستوى قطاع الطاقة، وما إذا سيكون هناك تعاون كبير في مجال النفط والغاز، وخاصة توسّع الشركات الاستثمارية الروسية، وأخيرا تبعات تفعيل وتوسيع هذه العلاقات على المستوى الطاقي، وسط وجود العقوبات الدولية.

أجندة موسكو المعلنة

سيرغي لافروف وصل يوم الأحد الماضي، في زيارة رسمية إلى العاصمة العراقية بغداد وهي المحطة الأولى في جولته الخارجية، ومن المقرر أن يزور مالي وموريتانيا والسودان. واستقبل رئيس الجمهورية العراقية عبد اللطيف جمال رشيد، يوم الإثنين الماضي، في قصر بغداد، لافروف والوفد المرافق له.

هذا وجرى خلال اللقاء بحث سُبل تعزيز العلاقات الثنائية وآفاق التعاون بين البلدين الصديقين، إضافة إلى استعراض مستجدات الأحداث الإقليمية والدولية، إذ أشار رشيد إلى ضرورة تدعيم وتطوير العلاقات في المجالات ذات الطابع الاستراتيجي والحيوي، وأهمية ترسيخ الاستقرار عبر الحلول السلمية والحوار البنّاء.

رشيد تطرق أيضا إلى أهمية الارتقاء بالتعاون الاقتصادي بين البلدين، لافتا إلى ضرورة التنسيق والتشاور في شأن القضايا ذات الاهتمام المشترك لتعزيز الأمن والسلام في المنطقة والعالم، كما أشاد بمواقف روسيا الداعمة للعراق في حربه ضد الإرهاب وجهوده لحماية أمنه، وأكد في هذا السياق عمق العلاقات بين البلدين، مضيفا أن العراقيين عانوا من الحروب والعنف طيلة العقود الماضية، وحاليا الوضع آمن ومستقر في جميع المدن العراقية، وهناك ترحيب ودعم من المجتمع الدولي للحكومة في سعيها إلى ترسيخ الأمن والنهوض بالواقع الخدمي.

الرئيس العراقي شدد على أن بغداد تسعى إلى بناء علاقات متوازنة مع جميع دول العالم بما يحقق المصالح المشتركة، لافتا إلى أن البرنامج الحكومي يشجع على مد جسور التعاون والعلاقات مع الجميع. في حين ثمّن لافروف موقف العراق الداعي إلى الحوار وتجنب الأزمات وتغليب خيارات السلام بدل الحروب. وأكد دعم بلاده للعراق، ورغبتها الجادة في تعزيز العلاقات بين البلدين، وتوسيع أطر التعاون في المجالات الاقتصادية والعسكرية وتأهيل البنى التحتية.

قد يهمك: أزمة الدولار في العراق.. خطوة أخرى نحو إعادة ترتيب المنطقة أم مقدمة اضطراب؟

إلى جانب ذلك، استقبل رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الوزير الروسي. وتم مناقشة العديد من القضايا، لا سيما في مجال الاقتصاد والقضايا الدولية والإقليمية. وأعرب خلال اللقاء عن حرص العراق على إدامة العلاقات مع الأصدقاء، وبيّن أن الحكومة تتحرك في مجال العلاقات الخارجية من منطلق المصالح المتبادلة والشراكات المستدامة.

ضمن هذا الإطار يرى المحلل والخبير الاقتصادي العراقي، علاء الفهد، أن اليوم العالم منقسم إلى قسمين؛ الأول هو الجانب الأوروبي والذي يقف ضد روسيا، والجانب الثاني هو الروسي والذي يقف ضد الأولى، وعلى اعتبار أن العلاقات بين جميع الدول تحددها المصالح فقط لا سيما الاقتصادية، فإن العراق سيكون في طرف مصالحها وفقط.

الفهد أضاف لموقع “الحل نت”، أن العراق اليوم غير مستعد ليكون طرفا في أي صراع دولي، لكنه يستطيع أن يلعب دور الوسيط في بناء السلام والاستقرار ولا شيء أكثر من ذلك، وبالتالي يسعى العراق إلى أن يكون ضمن النظام الدولي.

الفهد يرى أن روسيا تسعى أيضا من خلال مساعيها الدبلوماسية للتعاون مع الدول القريبة منها سياسيا، والعراق أحدها، من أجل الاستثمار في مجال الطاقة من النفط والغاز وكذلك تبادل الاستثمارات والخبراء، معتبرا أن هناك توجها عراقيا في الوقت الحاضر نحو المحور الغربي لاستثمار الطاقة وبناء محطات كهربائية نظيفة.

موسكو تبحث عن بدائل؟

بحسب تقدير الفهد، فإن هذا المسعى الروسي هو لإيجاد بدائل على الرغم من أن هناك قيود وعقوبات دولية على روسيا، وبالتالي فإن موسكو تبحث عن أسواق جديدة من جهة، لا سيما بعد احتمالية دخول بغداد سوق الطاقة العالمية. وتبحث أيضا في جوانب الاستثمار في مجال الطاقة من خلال التوسع والتعاون مع العراق في إطار التوسع في الشركات الاستثمارية الروسية في البلاد من جهة أخرى.

مع ذلك، فإن وجود عقوبات دولية يثير العديد من علامات الاستفهام حول ما إذا كان هذا التعاون سيكون مثمرا للعراق أم أنه بطاقة ادخار للجانب الروسي، وبالتالي لا يمكن للشركات الروسية الدخول للاستثمار في العراق دون موافقة دولية وأيضا بما يتماشى مع العقوبات، وفق اعتقاد الفهد.

في الأثناء، قال فؤاد حسين وزير الخارجية العراقي، يوم الإثنين الماضي، إن العراق سيناقش مع واشنطن هذا الأسبوع كيفية سداد مستحقات شركات الطاقة الروسية على الرغم من العقوبات، مضيفا خلال مؤتمر صحافي مع لافروف في بغداد “سوف نتطرق إلى هذه المشكلة مع الجانب الأميركي لأن هناك عقوبات وهذه العقوبات يجب ألّا تُفرض على الجانب العراقي لأن التعامل مع الشركات الروسية مستمر والشركات الروسية فعّالة في العراق”.

هذا وتقدر الاستثمارات الروسية في العراق بنحو 14 مليار دولار. وهناك حوالي 50 شركة روسية لديها عقود تطوير حقول النفط وعمليات الاستكشاف والتنقيب في عدة مناطق داخل العراق، طبقا للبيانات التي أُعلن عنها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي السفير الروسي لدى بغداد.

الفهد يقول إنه كان هناك في السابق تحالف روسي عراقي، وكانت العلاقات جيدة أيضا من الناحية الدبلوماسية، وعلى إثره يمكن لهذه العلاقات أن تتوسع في الوقت الراهن، خاصة في الجانب الطاقي، ولكن ليس على حسابات أخرى، بمعنى أن العراق لا يمكن أن يخسر في هذه المرحلة، في وقت يسعى فيه إلى إنشاء الدور التوازني وتحقيق التنمية الاقتصادية للبلاد، حيث يعاني من عدة مشاكل في مجالات الاستثمار في الطاقة والغاز الطبيعي وتوفير الطاقة الكهربائية، وفق اعتقاده.

الزيارة تأتي في سياق تأكيد انفتاح العراق على جميع شركائه، وأهمية العلاقات الاستراتيجية مع الجانب الروسي في ظل تعزيز الجذب الاستثماري والاقتصادي، خاصة ما يتعلق بملفات الطاقة. كما وترأس لافروف وفدا رفيع المستوى دبلوماسيا اقتصاديا استثماريا، ويضم شركات متعددة عاملة في قطاع النفط والغاز، إضافة إلى شركات في مختلف القطاعات، وفق “وكالة الأنباء العراقية” (واع).

كما ويسعى البلدان لتفعيل 14 مذكرة تفاهم تم الاتفاق عليها في العام 2020 تتضمن مجالات مختلفة لا تقتصر على حدود التعاون في قطاعي النفط والغاز وكذلك التعاون العسكري، إنما تمتد أيضا إلى قطاعات أخرى مثل التعليم والصحة والنقل.

إغراءات روسية للعراق؟

وزير الخارجية العراقي قال أيضا إن موقف العراق واضح من الحروب، مشيرا إلى أن هناك علاقات تاريخية مع روسيا، مضيفا أن “موقف العراق واضح من الحروب، لذلك ندعو لوقف إطلاق النار في الحرب الروسية – الأوكرانية، وإنهاء الأزمة عبر الحوار”.

قد يهمك: جولة بلينكن إلى الشرق الأوسط.. تحالف جديد ضد إيران؟

أحد التقارير تقول إن زيارة لافروف إلى بغداد والتركيز على مجال الطاقة من النفط والغاز، هي محاولة لقطع الطريق أمام مساعي قطر للاستحواذ على حصة تبلغ نحو 30 بالمئة من مشاريع شركة “توتال إينرجيز” الفرنسية في العراق بعد الخلافات الأخيرة مع وزارة النفط بشأن نسبة الاستثمار بمشاريع تطوير حقول الغاز.

التقرير ذاته عزا ذلك بأن الزيارة الروسية تحمل في طياتها إغراءات للعراق من بينها صفقات تسليح جديدة، بينما رجّح الخبراء في هذا الإطار إلى أن العراق اليوم بحاجة إلى تنويع مصادر تسليحه، سيما أن السلاح الروسي أقل كلفة من بقية الأسلحة الغربية، وروسيا اليوم تحتاج إلى تصدير جزء منه لتغطية نفقات الصراع الدائر على حدودها الغربية، ويجب على العراق استثمار تلك العروض لتوفير نفقات يتم استخدامها في مجالات أخرى.

زيارة لافروف مع الوفد الكبير المرافق له يأتي في وقت شديد الأهمية بالنسبة للبلدين؛ حيث العراق الباحث عن فرصٍ استثمارية يجابه من خلالها التحديات الاقتصادية وضغط أزمة الدولار، مستغلا ما لديه من موارد، وروسيا الباحثة عن منافذ مختلفة تواجه من خلالها العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب بعد غزوها لأوكرانيا، وفق مراقبين.

مما لا شك فيه أن هذه الزيارة ليست خالية من أهداف سياسية أخرى، مثل استمالة أطراف دولية وإقليمية لصالح غزوها لجارتها الغربية أوكرانيا، وإن كانت تحمل صفة اقتصادية بحتة، لا سيما وأن الوفد كان يضم فريقا واسعا من المستثمرين وممثلي شركات النفط والغاز، إلى جانب مسؤولين دبلوماسيين وعسكريين، بالتالي فهي دلالات بأن الزيارة تستهدف جملة من الأهداف؛ اقتصادية بالدرجة الأولى ومن ثم ديبلوماسية سياسية، وأن موسكو بالفعل تستهدف إلى توسيع المشاريع والاستثمارات الروسية في العراق وتحديدا في مجال الطاقة من النفط والغاز.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.