على الرغم من الطبيعة المتوترة للعلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا والتي تدهورت بشكل خاص منذ عام 2019، عندما حصلت أنقرة على أنظمة دفاع صاروخي روسية، زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن تركيا، يوم الأحد الماضي، في زيارة رسمية ناقش خلالها كيفية تقديم واشنطن مزيدا من المساعدة لأنقرة، في الوقت الذي تكافح فيه الأخيرة آثار الزلزال المدمّر الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص.

هذا الزلزال الذي ضرب بقوة 7.8 درجة جنوب شرقي تركيا وسوريا المجاورة في 6 من شباط/فبراير الجاري، أسفر عن مقتل أكثر من 45 ألف شخص، وتشريد أكثر من مليون شخص، إلى جانب تكلفة اقتصادية من المتوقع أن تصل إلى مليارات الدولارات، في وقت تعاني فيها أنقرة من أزمة اقتصادية.

على طرف آخر، ناقش بلينكن مع الجانب التركي قضية السويد وفنلندا للانضمام لـ”حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، التي ترفض تركيا حتى الآن، التصديق عليها، قائلة إن ستوكهولم على وجه الخصوص تؤوي من تصفهم أنقرة بأعضاء في جماعات إرهابية.

بالنظر إلى أن تركيا أشارت في الآونة الأخيرة، إلى أنها ستوافق فقط على انضمام فنلندا للحلف، وفي خضم كل هذه الأحداث والتطورات، فإن هذا الأمر يفتح الباب أمام تساؤلات جمّة حول فُرص موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا لـ”الناتو”، ولا سيما بعد كارثة الزلزال وانعقاد “مؤتمر ميونخ” للأمن والتركيز على أهمية انضمام الدولتين الاسكندنافيّتين للحلف الأطلسي، بجانب أن هذه هي الزيارة الأولى لبلينكن إلى تركيا كوزير للخارجية، حيث أنها تأتي بعد عامين من توليه منصبه في تناقض واضح مع بعض وزراء الخارجية السابقين، بمن فيهم هيلاري كلينتون وريكس تيلرسون، الذين قاموا بالزيارة في غضون أول 3 أشهر من توليهم مناصبهم. كذلك، ثمة تساؤلات حول مساعي واشنطن لإقناع أنقرة بالموافقة على انضمام البلدين للتحالف، وما إذا كانت مأساة الزلزال يمكن أن تكون حافزا لمراجعة أنقرة سياساتها حيال ذلك.

أسباب زيارة بلينكن

وزير الخارجية الأميركي، حطّت طائرته في قاعدة “إنجرليك” الجوية في جنوب شرق تركيا، يوم الأحد الماضي، ووصل إلى البلاد وافدا من ألمانيا حيث شارك في “مؤتمر ميونخ” للأمن، في زيارة يسعى من خلالها لتأكيد دعم الولايات المتحدة لحليفتها التي دمّرها زلزال شباط/فبراير الجاري.

بلينكن وصل لأنقرة لتفقد أعمال الإغاثة وتقديم المساعدات للمتضررين من الزلازل والتي يقوم بها أكثر من مئتي فرد من فرق الرد والمساعدة على الكوارث وفرق من “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية”، إضافة إلى القوات والطوافات الأميركية الموجودة في القاعدة. كما أن البحرية الأميركية حرّكت قِطعا حربية في شرق المتوسط لتقديم مساعدات لوجستية للحكومة التركية، بحسب تقرير لقناة “الحرة” الأميركية.

بلينكن جال برفقة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في طوافة عسكرية تابعة للجيش الأميركي فوق المناطق التي تعرضت للدمار جراء الزلازل للاطلاع على حجم الأضرار. وأعلن بلينكن عن مساعدات جديدة بقيمة 100 مليون دولار للمتضررين من الزلزال بعدما قدمت الولايات المتحدة 85 مليون دولار من المساعدات الإنسانية حين وقوع الزلزال.

بعد هذه الجولة توجه وزير الخارجية الأميركي مساء أمس الإثنين إلى العاصمة أنقرة وعقد لقاءات مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجاويش أوغلو، وذلك لمناقشة عدة ملفات، منها تداعيات الزلزال وتأكيد واشنطن على دعمها وتضامنها، فضلا عن ملف انضمام السويد وفنلندا لـ”الناتو”.

ضمن هذا الإطار يرى الباحث السياسي والمتخصص بالشأن التركي، فراس رضوان أوغلو، أن أسباب زيارة بلينكن عديدة، ولعل السبب الأول هو إظهار الدعم الأميركي الكامل لتركيا نتيجة الزلزال الذي دمّر مناطق واسعة من تركيا. والسبب الثاني بطبيعة الحال هو تخوف واشنطن من أن يؤثر هذا الزلزال على الاقتصاد التركي، ما يعني أن هذا سيغير الكثير من المسارات السياسية الاستراتيجية لتركيا ما لم تحصل على دعم، سواء من قبل الولايات المتحدة أو حلفائها.

قد يهمك: زلزال الأناضول.. كيف سيؤثر على النظام والقرار السياسي في تركيا؟

حيث إنه إذا لم تتلقَ تركيا الدعم، فستتجه نحو من يقدم لها الدعم ويد العون، كي لا تغرق في الأزمة الاقتصادية التي تلوح في الأفق جرّاء كارثة الزلزال هذه، وفق تقدير رضوان أوغلو لموقع “الحل نت”. وتتواجد الصين وروسيا على مسارات الدعم، وعلى اعتبار أن أنقرة في حاجة ماسة إلى الدعم المالي، لذا فإن القضية مهمة وحساسة. وبالنظر إلى أنها الزيارة الأولى لبلينكن لتركيا، تبدو زيارة مهمة في خضم التطورات الحالية، وربما هذه الزيارة ومن ثم الدعم الأميركي من شأنه ترميم العلاقات المتوترة بين البلدين وإن كان بشكل محدود.

جهود واشنطن لإرساء الاستقرار

في السياق، تقدمت السويد وفنلندا العام الماضي، بطلب للانضمام إلى “الناتو” بعد غزو روسيا لأوكرانيا، لكنهما واجهتا اعتراضات غير متوقعة من تركيا، وسعتا منذ ذلك الحين لكسب دعمها. وتريد أنقرة من هلسنكي وستوكهولم بشكل خاص، اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد “حزب العمال الكردستاني” (بي كي كي)، الذي تعدّه تركيا جماعة إرهابية. وقال أردوغان في كانون الثاني/يناير الماضي، إنه مستعد للتصديق على طلب هلسنكي فقط.

منتصف الشهر الفائت، إبراهيم كالن، المتحدث باسم الرئيس التركي، قال إن بلاده ليست في موقع يسمح لها بالتصديق الآن على عضوية السويد في “الناتو”، مضيفا في مؤتمر صحفي آنذاك في إسطنبول “لسنا في موقع يسمح لنا بإرسال قانون التصديق إلى البرلمان، لدينا مشكلة حقيقية في هذا الموضوع”، مشيرا إلى أن النواب قد يرفضونه.

كالن تابع حديثه بالقول “ستوكهولم ملتزمة تماما بتنفيذ الاتفاقية التي جرى توقيعها العام الماضي في مدريد، لكن البلاد تحتاج إلى 6 أشهر أخرى لصياغة قوانين جديدة من شأنها أن تسمح للنظام القضائي بتطبيق التفسيرات الجديدة للإرهاب”. وإلى جانب فنلندا، وقّعت السويد اتفاقية مع تركيا العام الماضي تهدف إلى التغلب على اعتراضات أنقرة على طلبَي الانضمام إلى “الناتو” اللذين تم تقديمهما في أيار/مايو 2022، ويتطلبان موافقة جميع الدول الأعضاء الـ 30 في الحلف.

“مؤتمر ميونخ” للأمن الذي انعقد قبل أيام معدودة، على الرغم من أنه ركز بشكل أساسي على الحرب في أوكرانيا، إلا أن المشاركينَ في المؤتمر ناقشوا العديد من القضايا، وذلك بغية معالجة التوترات الإقليمية والدولية، وكانت مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى “الناتو” على طاولة تلك المباحثات، وزيارة بلينكن لتركيا بشكل مباشر من “مؤتمر ميونخ” يدلل إلى سعي واشنطن الحثيث لحل هذه القضية، التي من شأنها أن تؤمن الأمن والاستقرار لدول “الاتحاد الأوروبي”.

بالنظر إلى أن العلاقات الأميركية التركية تمر بمرحلة شديدة التعقيد في ظل حرص الجانبين على إبقاء قنوات التواصل الدبلوماسية قائمة، فإن فرص نجاح انضمام السويد وفنلندا لـ”الناتو”، اليوم أكبر من أي وقت مضى، وإن كان هذا الموضوع يُعتبر شائكا جدا، وفق تقدير رضوان أوغلو.

قد يهمك: الزيارات العربية إلى سوريا.. دلالات سياسية أم تكنيك دبلوماسي؟

رضوان أوغلو يقول بالنسبة لانضمام فنلندا لا توجد مشكلة مع أنقرة، لكن لديها مشكلة دولة السويد، وربما تأتي زيارة بلينكن بشكل كبير لحل هذا الملف، ومن المرجّح أو ربما تطلب واشنطن من أنقرة التساهل مع دولة السويد في تعاملها مع الجماعات التي تعتبرها تركيا إنهم إرهابيون، ولكن حتى الآن يبدو أن هناك تمسكا تركياً بشروطها فيما يتعلق بتعامل السويد مع الـ “بي كي كي” والمعارضة التركية هناك، وقد أكده ذلك جاويش أوغلو حين قال إن القضية ستتم الموافقة عليها عندما تلتزم السويد فعّليا بالاتفاقية الثلاثية.

الزلزال يغير الاستراتيجيات السياسية؟

حيال حديث أنقرة حول الموافقة على انضمام فنلندا لـ”الناتو”، دون السويد، أعلن رئيس الوزراء السويدي أن تركيا دفعت بمطالب لا تستطيع السويد ولا يمكن قبولها. وقال أولف كريسترسون “تركيا تؤكد أننا نفذنا ما تعهدنا القيام به، لكنها تريد أمورا لا نستطيع ولا نريد تلبيتها”.

هذا وأعلنت أنقرة أن السويد بحاجة إلى اتخاذ موقف أكثر وضوحا ضد من تصنّفهم تركيا إرهابيين، ومعظمهم من الـ “بي كي كي” وحركة “فتح الله غولن” التي تحمّلها تركيا مسؤولية محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. ويتعيّن على البرلمان التركي التصديق على قرار أنقرة بشأن عضوية الدولتين الاسكندنافيّتين، مع توقّع التصويت على كليهما في الوقت ذاته.

رضوان أوغلو يرجح بأن حادثة الزلزال يمكن أن تقرّب وجهات النظر، وهذا ما ألمحه جاويش أوغلو، حيث قال “ربما المساعدات الإنسانية الدولية من شأنها تغيير الكثير من الرؤى التركية، حيث سنشكر الدول وبعد ذلك سيكون هناك تعاون”، وبالتالي يعتقد رضوان أوغلو أن الأمور في قضية انضمام السويد وفنلندا إلى “الناتو”، سيتحسّن ولكنه سيبقى رهن الموافقة على الشروط التركية فيما يتعلق بدعم السويد للجماعات التي تعتبرها أنقرة إرهابية.

إجمالا، الزلزال في تركيا ستكون له جملة تداعيات سياسية بعضها يتصل بالوضع المحلي والآخر مرتبط بالسياسة الخارجية التركية، فهذا الزلزال يؤثر أو بالأحرى يضغط على البيئة السياسية المحلية وارتباطاتها بالانتخابات الرئاسية التركية القادمة، والتي ما تزال أمام احتمالية التأجيل في ظل حسابات عديدة.

إذاً الرئيس التركي الذي يقع تحت ضغط ووطأة الشأن الداخلي، سيسعى إلى الحصول على دعم اقتصادي خارجي وسيتّجه إلى تسكين الملفات المرتبطة بالسياسة الخارجية ومنها انضمام السويد وفنلندا لـ”الناتو”، ثم الصراع مع اليونان في بحر إيجة، وخطط إعادة توطين اللاجئين السوريين في شمال سوريا، ومع التأكيد على أن الحسابات الجيوسياسية لا يمكن أن تكون بعيدة عن تقديرات أي طرف.

بالتالي، فإن تركيا تلمس من التضامن والدعم الدولي الأوروبي والأميركي، رسالة سياسية تتصل بعضها بملف عضوية السويد لـ”الناتو”، ومن ثم فإن حل هذه القضية باتت مرجحة أكثر، ولا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التركية وآثار الزلزال المدمّر الذي يلوح في الأفق، وسط سياسة أنقرة بما يتماشى مع مصالح بلادها فقط، إذ تستغل كل الظروف لجهة مصالحها وتعزيز نفوذها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.