مع كل إطلالة للأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصرالله، ينكشف المستور، فالمنازلة الكبرى التي تحصل في غزة بين إسرائيل والمعسكر الغربي من جهة و”حماس” و”محور الممانعة” من جهة أخرى، فضحت كل أكاذيب هذا المحور التي خدع بها جمهوره قبل خصومه. 

رمي إسرائيل في البحر، والزحف نحو القدس والصلاة في المسجد الأقصى والحرص على القضية الفلسطينية، كلها كانت كلماتٌ كشفت أن “محور الممانعة” راضخ وضعيف، بدليل أن الأمين العام لـ”حزب الله” في كل إطلالة بعد عملية “طوفان الأقصى” يخرج ليبرر تقاعس مرجعيته الإيرانية وحزبه وكل قوى “الممانعة” التي بنت أساطير وملاحم حول مقارعة إسرائيل وانتظارها يوم المواجهة لتغرقها بصواريخ من كل الأحجام. 

فيما الحقيقة أن الشعب الفلسطيني من أطفال وشيوخ ونساء وحدهم يتعرضون للإبادة، بينما تنهمك إيران وأذرعها العسكرية في تقييم مكاسب الربح والخسارة في عملية “مقاولة” لا ممانعة.

نصرالله يحاول إخفاء الحقيقة

يشعر جمهور “حزب الله” بالخيبة كلّما استمع إلى كلمات نصرالله، وبات هناك عشرات علامات الاستفهام حول الهوّة الكبيرة بين وعود نصرالله وأفعاله، بحيث لم يعد “الوعد الصادق” صادقاً بالفعل.

حضور عائلات قتلى أعضاء حزب الله الذين قتلوا في اشتباكات مع إسرائيل منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر)، حيث ألقى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله خطابًا عبر الفيديو في بيروت، لبنان، في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. (تصوير حسام شبارو/ غيتي)

أما غموض نصرالله فليس عنصر قوة بل دليل إرباك، فإذا تجنّب المواجهة مع إسرائيل سيتّهم بالتخاذل والضعف، وإذا اختار المواجهة من الباب الواسع، فسينُهي نفسه ولبنان ونظامه وما تبقى من دولته، وبالتالي سيخسر ورقة الهيمنة على القرار اللبناني الرسمي، وهو يستثمر هذه الورقة منذ عام 2006. 

واللافت أن سلسلة مَحاور في كلمة نصرالله دفعت مؤيدي “حزب الله” وبيئته الواسعة إلى طرح علامات استفهام.

المحور الأول: تحدث فيه نصر الله أنه تلقّى تهديدات أميركية في حال فتح جبهة ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية، ويبدو أن هذه التهديدات فعلت فعلها، رغم إنكار نصر الله ذلك. إلا أن ما يقوله إعلامياً يبدو استعراضياً وموجّهاً إلى بيئته غير الراضية عن رضوخ “الحزب” وتعامله مع الحرب في إطار قواعد الاشتباك. 

صحيح أن نصرالله قال: “لن يستطيع أحد أن يضغط على حركات المقاومة أن تقف وأن تسكت وأن تصمت وأن تتخلى عن مسؤولياتها على الإطلاق، على الإطلاق، وهذا أيضاً يرتبط بجبهتنا”، لكن بات الجميع يعرف أن بين ما يقوله نصرالله وما يفعله هناك هوة كبيرة.

في الواقع، كان “الحزب” هو البادئ بضرب أهداف إسرائيلية في 8 أكتوبر/تشرين الأول، ولكن ضمن حدود اشتباكٍ لم تتعد أكثر من 5 كيلومترات من الحدود، ما عدا بعض الخروق الظرفية. 

ولا شك في أن قواعد الاشتباك التزم بها “الحزب”؛ بسبب التهديدات الأميركية التي تمثّلت بالحشد العسكري في شرق المتوسط والشرق الأوسط من خلال إرسال واشنطن حاملتي طائرات وسفن حربية ونحو ألفي جندي للمنطقة، وليس سرّاً أن الولايات المتحدة تتحضر بالفعل لضرب “حزب الله” في حال قررت إيران فتح الجبهة الجنوبية للبنان مع إسرائيل، وهذا ما أبلغه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين للمسؤولين اللبنانيين، محذراً أن إسرائيل والولايات المتحدة لن ترحما “الحزب” بتاتاً إذا قرر توسيع الحرب.

وعودٌ بلا أفعال

كل ذلك، جعل نصر الله يستعرض ويتوعّد الأميركيين في كلامه من دون أفعال، بينما مرجعيته الإيرانية تحقّق المكاسب بالسياسة من الأميركيين منذ أشهر، والوقائع كثيرة: صفقة الـ 6 مليارات دولار مقابل إخلاء سبيل الرهائن الأميركيين، السماح لإيران برفع التخصيب من 6 في المئة إلى 30 في المئة، واعتراف نصر الله نفسه أنه لم يكن يعرف بعملية “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

جندي إسرائيلي يشاهد خطابًا متلفزًا لزعيم حركة حزب الله الشيعية حسن نصر الله بالقرب من حدود إسرائيل مع لبنان في 11 نوفمبر 2023، (تصوير جلاء ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

طبقا لهذه السياقات، بدأ يتشكّل قناعة لبيئة “الحزب” ومعظم اللبنانيين بأن نصرالله بات خاضعاً للسياسة الدولية وتهديدات الأميركيين، رغم كل العنتريات في كلامه، وهذا الأمر دفع بعض الظرفاء إلى القول “أن الرجل تحوّل حكواتياً من دون أفعال”!

وكل ما يمكن أن يضرّ مرجعيته الإيرانية يمتنع عن فعله “الحزب”، وربما تكون حسابات إيران بعد القمة العربية مختلفة، إذ شعرت أن مفاتيح اللعبة لم تعد بين يديها، فيما أمسكت السعودية وبعض الدول العربية بزمام المبادرة، وهذا ما يُعتبر مخيّباً لـ”محور الممانعة” الذي يسعى إلى حجز مكانٍ له في المفاوضات والتسوية المنتظرة لدولة فلسطينية. 

بل ربما وجدت إيران نفسها خارج اللعبة وقررت قلب الطاولة بتوسيع الحرب، وخلط الأوراق، وحتماً لـ”الحزب” دورٌ أساسي، فهو الأداة العسكرية الأساسية لإيران، وهذا ما يًبرر التصعيد في الجنوب الذي تجاوز قواعد الاشتباك منذ يومين وقد تكون إشارة لتوسّع الحرب!

نصرالله يتناقض مع نفسه

أما المحور الثاني: تكلّم فيه نصرالله عن سوريا، معتبراً “أن لا أحد يطالب سوريا بفتح جبهة ضد إسرائيل لأنها تحارب الإرهاب على كامل الأراضي السورية، وسوريا دولة منهكة اقتصادية ولا يمكنها تحمّل تبعات حرب خارجية”. 

والدة (في الوسط) الموالي لإيران محمد علي عساف، الذي قُتل مع ستة من رفاقه الآخرين في واحدة من أعلى أعداد القتلى في الحزب في يوم واحد، تبكي أثناء موكب جنازة ابنها في بيروت. (تصوير مروان نعماني/ وكالة الأنباء الألمانية)

هنا يبدو أن هذا الكلام كالمسمار الأخير في نعش معادلة “وحدة الساحات” بحيث لم يعد يفيد أي تبرير لنصر الله بعد اليوم، ويتساءل حتى أنصار “الحزب” ما دور الفصائل الفلسطينية في سوريا إذا لم تقاوم من أجل وطنها؟ وهل بات نصرالله الناطق الرسمي للرئيس السوري بشار الأسد، وحكومة دمشق؟

لطالما اقتات الأسد من القضية الفلسطينية بأنها مركزية ومحورية مفتخراً أن سوريا هي من ضمن ما يسمى “محور المقاومة”، لكن اختفاءه عن الساحة بأي وعيد أو تهديد لإسرائيل، أو إعلان دعم علني للمقاومة الفلسطينية أو مباركة في الأيام الأولى أو حتى الحديث عن إرسال مساعدات لغزة مؤخراً، أثار تساؤلات من الشارع السوري والفلسطيني على حدٍّ سواء. وحتى كلمته في القمة العربية الأخيرة جاءت كرفع عتب!

بعد كلام نصر الله عن سوريا تلاشت آمال شعوب “محور الممانعة” بقدرة هذا المحور على مجابهة إسرائيل ومناصرة القضية الفلسطينية، وحتى لو تدخل المحور اليوم أو غداً فلم يعد ذلك كافياً. 

إسرائيل قتلت 11100 قتيل، بينهم أكثر من 4506 أطفال وقرابة 3027 امرأة و668 مسنّا، فيما أصيب أكثر من 27 ألفا آخرين في غزة، بينما إيران وأذرعها العسكرية لا ترى بذلك تهديداً لمصالحها، بالتالي الفلسطينيون ليسوا من ضمن مصالحها، ومعادلة “وحدة الساحات” والخطابات السابقة كانت عبارة عن أفيون للحاضنات ومبررات لوجودها.

والأغرب من ذلك أن نصرالله اعتبر أن سوريا منهكة اقتصادياً ولا يمكنها تحمّل تبعات حرب، وهو يقوم باستفزاز الإسرائيليين في الجنوب والتلاعب بمصير لبنان المنهار اقتصادياً، والمؤسف أن نصرالله كالعادة آخر همّه لبنان ووضعه الاقتصادي، فيما هو خائف على سوريا!

هل ينتهي عصر نصرالله في لبنان؟

ونصل إلى المحور الثالث: الذي تحدث فيه نصر الله عن “حزب الله”، مؤكداً “أنه حركة مقاومة وليس جيشاً يمكنه خوض حرب مفتوحة”، وهذا الكلام يقصد به أن “المقاومة” ليست جيشاً كلاسيكياً إنما تخوض حرب عصابات ضد العدو، إلا أن هذا الكلام يبدو اعترافاً من نصر الله بعجز حزبه عن منازلة إسرائيل.

نصرالله إسرائيل
جندي إسرائيلي يأخذ استراحة خلال مناورة في مرتفعات الجولان، وسط تزايد التوترات عبر الحدود بين حزب الله وإسرائيل. (تصوير جلاء ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

صحيح أنه يستخدم أساليب “المقاومة” وحرب العصابات إلا أنها تشبه الرسائل خدمة لإيران وليست لحماية لبنان، فـ”الحزب” يعمل في السياسة ويحسب خطواته جيداً كي لا يخسر تفوّقه اللبناني وهيمنته على الدولة، وبالتالي مشروع “الحزب” لم يعد إزالة إسرائيل من الوجود كما كان يروّج له؛ بل الاستفادة من عدائه العلني لإسرائيل كي يبرر للشعب اللبناني احتفاظه بسلاحه. 

كلمة حق تُقال أن عصر “حزب الله” المقاوم انتهى منذ عام 2006، وإذا حصلت أي حرب اليوم بينه وبين إسرائيل ستكون تبعاً لحسابات استراتيجية إيرانية. علماً أن أوضاع لبنان الاقتصادية لا تسمح باندلاع أي حرب، ولا حتى بيئة “الحزب” جاهزة لمثل هذه الحرب، وهو في موقف ضعيف، وأي مغامرة غير محسوبة ستؤدي إلى نهايته، ونصرالله يعرف ذلك. 

وكل غموضه في الكلمات التي يطلّ فيها على اللبنانيين هي موجّهة إلى بيئته الغاضبة أولاً التي ملأ عقولها بوعودٍ ليست سوى أوهام وأكاذيب.

نصرالله مقيّد بمصالح إيران ونظام الملالي، وكل خطوة يقوم بها هي خدمة لهذا المشروع الرجعي الذي لا يقيم أي أهمية لكرامة الإنسان وعيشه الكريم، إنما خوض حروب وقمع وعنف وموت لا أكثر ولا أقل!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة