مع تسارع وتيرة التطور الذي يشهدها العالم، بما في ذلك سباقات التسلح بين الدول الكبرى، دفع تزايد استخدام الأقمار الصناعية لجمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاع إلى تحويل الفضاء الخارجي لمجال جديد للمنافسة، الأمر الذي بدأ يحول من الفضاء ساحة جديدة للمنافسة.

بشكل مفاجئ وبناء على ذلك، اعتبر “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، الفضاء مجالا خامسا للحروب والعمليات، الأمر الذي دفع في السابع عشر من الشهر الجاري، إطلاق 16 دولة من الدول الأعضاء في الحلف، إلى جانب فنلندا والسويد، مبادرة لجمع البيانات من الفضاء والتحكم في طريقة استخدامها لتحسين العمل الاستخباري للحلف وتوفير الدعم لمهام وعملياته العسكرية.

من وجهة نظر الحلف، يعتبر المشروع مثالا رائعا على التعاون المدني العسكري، كما أنه يوفر رصيدا قويا لمجموعة أدواته الاستخبارية، وفق ما تحدث به نائب الأمين العام لحلف “الناتو” ميرتشا جيوانا، مبينا أن مبادرة الحلف التي يطلق عليها اسم “المراقبة المستمرة للتحالف من الفضاء”، تهدف إلى إنشاء كوكبة افتراضية باسم “أكويلا”، من الأقمار الصناعية والاستفادة من أحدث التطورات في تكنولوجيا الفضاء التجاري، مما سيساعد في تبسيط جمع البيانات ومشاركتها وتحليلها بين حلفاء “الناتو” ومع هيكل قيادة حلف شمال الأطلسي.

“الناتو” والتطلعات إلى الفضاء

في الأساس، أدى استخدام الأقمار الصناعية لجمع المعلومات الاستخبارية، والاستطلاع والملاحة والاتصالات، إلى تحويل الفضاء إلى أحد المجالات الأكثر ازدحاما وعرضة لنشوب النزاعات والعمليات العسكرية، وتصاعد التوترات بين الدول التي تستخدمه. واستجابة لذلك وللتقدم التكنولوجي السريع وتعدد المصالح والجهات التي تعمل في الفضاء، كان حلف الـ “ناتو” قد أصدر عام 2019، سياسة خاصة ترمي إلى تنظيم استخدام الفضاء على نحو مستدام وآمن.

إيضاحا لذلك، شرح مقال نشر حديثا في مجلة “ناشونال إنترست”، أن سياسة “الناتو” الفضائية تعد خطوة أولى أساسية بوضع الحلف في الطليعة من ناحية وضع معايير الأمن المتعلقة بالاستخدام الآمن للفضاء الخارجي، مشيرا إلى أن سياسة الفضاء الجديدة نسبيا التي وضعها الحلف لم تحظ بتغطية تذكر، رغم أنها تسلط الضوء على تفكير الحلف المتطور بشأن الأمن خارج كوكب الأرض والدفاع الجماعي، كما تساعده على تقييم ثغراته المعلوماتية والتقنية.

اقرأ/ي أيضا: “لا جدوى من عزل سوريا”.. خطوة سعودية نحو إعادة العلاقات مع دمشق؟

هذا وكان وزراء دفاع “الناتو”، قد وافقوا على إنشاء “القيادة الجوية للحلفاء” في مدينة رامشتاين بألمانيا عام 2020، و”مركز التميز الفضائي” التابع لحلف “الناتو” في مدينة تولوز بفرنسا عام 2021.

الغاية من ذلك، سيطرة “الناتو” على الفضاء. وتعني أنه من الممكن استخدام الفضاء للأغراض العسكرية والتي تسمى بـ “الاستراتيجية الرابعة”، التي تضاف إلى الاستراتيجيات الثلاث؛ البرية، البحرية، والجوية.

الخبير العسكري علاء النشوع، بيّن أن الفضاء هو حيز مشاع لكل البشرية فهو لا يخضع لحدود جغرافية ومجالات جوية مقسمة ومحدودة، لهذا بدأت القوى الدولية التي تمتلك قدرات تكنولوجية عالية في استخدام الفضاء للأغراض العسكرية والمدنية.

تلك الأغراض، تمخض عنها وضع استراتيجيات جديدة أضيفت إلى الاستراتيجيات العسكرية الأخرى لتكون إحدى أهم وأخطر الاستراتيجيات في العالم، ولتتحول كذلك إلى واحدة من سباقات التسلح الدولي، التي يمكن أن تتيح استخدام أسلحة دفاعية وهجومية فيها؛ أي في المجالات الفضائية، ومن أبرز هذه الأسلحة هي الليزر والتشويش والأسلحة المضادة.

الفضاء وسباقات التسلح

النشوع وفي حديث لموقع “الحل نت”، أوضح أن سباقات التسلح اليوم هي للدول التي تمتلك الأقمار الصناعية التي تستخدم للأغراض العسكرية والمدنية، حيث أصبحت اليوم المؤسسات الفضائية في بعض الدول واحدة من أبرز وأهم المؤسسات، إذ ترتبط ارتباطا وثيقا مع باقي مؤسسات الدولة الأخرى، والتي تكون على رأسها مؤسسات “الأمن القومي”، وذلك سواء كان في السلم أو الحرب، مشيرا إلى أن كثير من هذه المؤسسات باتت معروفة على الصعيد العالمي وأطلقت عليها تسميات كثيرة منها الوكالات والمعاهد والمراكز والمنظمات وتجاوز عددها لأكثر من خمسين مسمى لمختلف دول العالم.

كذلك لفت الخبير العسكري، إلى أن اعتماد المجتمع الدولي على تكنولوجيا الفضاء في هذه المرحلة تزايد بشكل كبير، بخاصة فيما يتعلق بالاستخدامات العسكرية التي باتت تعرف اليوم بـ”عسكرة الفضاء”، مشيرا إلى أن أسباب ذلك كثيرة، ومنها؛ الحد من الهيمنة الدولية على العالم والتي فرضتها القوى الكبرى وتحديدا القوى النووية، الأمر الذي دفع بعض القوى الدولية إلى اللجوء إلى استخدام الفضاء كمجال عسكري جديد، لأن الأسلحة الفضائية وامتلاكها تستطيع تحييد الكثير من الأسلحة الجوية والبرية، خصوصا الأهداف الأرضية التي أصبحت واهنه وضعيفة؛ ولا يمكن حمايتها باعتبار أن الأقمار الصناعية، باتت على مقدرة من تحديدها بدقة متناهية من ناحية الأهمية والتأثير.

اقرأ/ي أيضا: من إفريقيا إلى الخليج.. مهاجرون يغذون الإرهاب ويثقلون الاقتصاد

علاوة على ذلك، فإن المجال الفضائي بات داعما بشكل كبير لكل العمليات العسكرية البرية والجوية والبحرية، إضافة إلى القضايا الاستخباراتية، بما يوفره من إنذارات مبكرة، والاتصالات والتحكم والقيادة والاستشعارات عن بعد، والمراقبة بكل أنواعه.

النشوع في حديثه يؤكد أنه لذلك باتت استخدامات الفضاء اليوم حالة ضرورية وملحة في كثير من الأنظمة العسكرية الدفاعية والهجومية، ومنها أنظمة الصواريخ البالستية وأنظمة الدفاع الجوي والقوة الجوية، وأسلحة المدفعية والدروع، وحتى أسلحة المشاة التي تستخدم نظام إدارة المعركة عبر الشاشات والعارضات التلفزيونية التي تنقلها الأقمار الصناعية.

ذلك من خلال ما توفره الأقمار الصناعية من تقريب ساحات المعارك ووضعها تحت أنظار القيادات دون أن تتعرض هذه القيادات لأي مخاطر ميدانية. أما فيما يتعلق بمخاطر تحويل الفضاء لمجال عسكري، فإن من أهم المخاطر التي يسببها الفضاء عند استخداماته للأغراض العسكرية والحربية، هي؛ التأثيرات الكيمائية والبيولوجية والنووية.

في مقابل ذلك، كانت مجلة “ناشونال إنترست”، قد أشارت في مقالها إلى أن خطوة “الناتو” تنبع من إدراكه لضرورة توقع التهديدات المستقبلية، وأهمية تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق السياسات والأنشطة في مواجهة العسكرة المتزايدة للفضاء، حتى يتمكن من التغلب على نقاط ضعفه، والتقدم خطوة على منافسيه وضمان الاستغلال الأمثل لأصوله الفضائية في مواجهة الصين وروسيا.

الفضاء والسيطرة على النظام العالمي

بيد أن تسليح الفضاء المستمر نجمت عنه توترات جيوسياسية عديدة، إذ بإمكان أسلحة الفضاء الحركية المضادة، وأشعة الليزر، والتشويش الإلكتروني أو انتحال الإشارات أو أنظمة نقل البيانات، ونشر الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية أن تعطل إلى حد كبير عمليات “الناتو”، وتؤثر سلبا على الأصول الفضائية المرصودة للاستخدام المدني والتجاري، وتعيق الأنشطة الاقتصادية على الأرض.

وسط ذلك، يشار إلى أن العديد من أنظمة “الناتو”، تعتمد بشكل كبير على المصادر الفضائية التي توفر معلومات تحديد المواقع والملاحة الأساسية للدول الحليفة وتمكن من توجيه الضربات الدقيقة، ودعم مهام القتال والبحث والإنقاذ، وذلك مثل؛ برنامج الدفاع الصاروخي الباليستي، وأنظمة الإنذار والتحكم المحمولة جوا، ونظام المراقبة الأرضية.

حلف “الناتو” يؤكد على أن سياسته الفضائية تتماشى مع القانون الدولي لتنفيذ التزاماته الدفاعية والرادعة المنصوص عليها في “معاهدة شمال الأطلسي”، في حين يعمل التحالف على تحسين قدراته في مراقبة الفضاء من خلال تطوير تقنيات جديدة وبنى تحتية مرنة يمكن أن تعزز قدرته على مراقبة الأجسام والأنشطة في الفضاء بشكل أفضل وتعزيز توجهه واستجابته للردع.

هذا ومن المقرر أن تعمل الفرق المتعددة الجنسيات من ألمانيا وهولندا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة على تقديم الدعم لـ “القيادة الجوية” و”مركز التميز الفضائي” لضمان قدراتها على اتخاذ القرارات الفعالة، وذلك في الوقت الذي يرد التحالف على أحاديث تشير إلى أن مثل هذه النشاطات من شأنها عسكرة الفضاء الخارجي، بأنه يجب على التحالف توقع التهديدات وتحديدها، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق السياسات، وضمان الاستغلال الأمثل لأصوله الفضائية في مواجهة الصين وروسيا.

في ظل هذا المشهد، فإن من الواضح جدا أن العالم بدأ يأخذ منحى جديد فيما يتعلق باستراتيجيات مواجهة التحديدات العسكرية، بل وفرض النفوذ أيضا بشكل أساسي، الأمر الذي قد يؤشر إلى مرحلة جديدة من سيطرة دول بعينها على النظام العالمي.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.