الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يبدو أنه يتخذ خطوات لضمان استعداد بلاده لصراع طويل، مع التركيز على الاستدامة والدفاع على المدى الطويل. في الأسابيع الأخيرة، أمر بتشكيل حرس وطني جديد، وعزز العلاقات بين أجهزة المخابرات في الداخل والخارج، وأنشأ المنطقة العسكرية الجنوبية أكبر قيادة عسكرية في روسيا منذ الحقبة السوفيتية. 

كما قام بزيادة رواتب أفراد القوات المسلحة، وبنى البنية التحتية العسكرية بالقرب من النقاط الإستراتيجية الرئيسية مثل أوكرانيا، وأرسل مستشارين إلى سوريا لإعداد قواتها المسلحة للحرب. تُظهر هذه الإجراءات أن بوتين يعد روسيا لخوض صراع طويل ضد التهديدات الخارجية.

أزمة الطاقة العالمية والمواجهات المتعلقة بالنفط بين روسيا والغرب، تمهد على ما يبدو لحرب اقتصادية طويلة الأمد، خسرت فيها روسيا بدرجات كبيرة على مستوى الاقتصاد، فانكمش الاقتصاد وتراجع النمو، لكن بوتين يبحث ربما عن توجهات جديدة لخوض الحرب الاقتصادية.

في مؤشر على اعترافه بتأثير العقوبات الغربية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب الاتحاد السنوي، أن الاقتصاد الروسي انكمش 2.1 بالمئة في 2022، منذ بدء غزو الأراضي الأوكرانية، ليبدأ إجراءات من شأنها زيادة أزمة الطاقة العالمية، فما هو التوجه الجديد لروسيا لمواجهة الغرب والخروج من تأثير العقوبات.

حرب الطاقة

فيما يتعلق بحرب الطاقة، قررت روسيا الكشف عن خطط متعلقة بخفض كبير في إنتاجها النفط، ما قد يؤثر على الكميات المعروضة في السوق العالمية وبالتالي زيادة التأثير السلبي على أزمة الطاقة، وخاصة وأن العالم يعيش منذ أشهر أزمة طاقة غير مسبوقة، وبشكل خاص الدول الأوروبية التي تسعى لإيجاد أمنها الطاقوي بعيدا عن هيمنة روسيا.

خفض الإنتاج بحسب تصريحات قالها نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك قبل أيام، سيشمل مقدار 500 ألف برميل يوميا أو حوالي 5 بالمءة في آذار/مارس القادم، إذ تحاول موسكو الرد على العقوبات الغربية والإجراءات المتعلقة بوضع سقف لأسعار النفط الروسي، التي بدورها تسببت بخسائر عديدة في الاقتصاد الروسي ليس أبرزها العجز نحو 147 مليار دولار في الموازنة الروسية، بحسب إعلان موسكو مطلع العام الجاري نتيجة الانخفاض في صادرات النفط.

وبعيدا عن ملف الطاقة، فإن الحصار الاقتصادي والعزلة الدولية التي تعاني منها موسكو من قبل الغرب، جعل بوتين يفكر بسياسة التوجه نحو الشرق باتجاه دول آسيا الشرقية في التعاملات الاقتصادية، في محاولة لانتشال الاقتصاد الروسي والهرب من تأثير العقوبات ومحاولات حصار الصادرات النفطية.

التوجه نحو الشرق

رغم اعترافه بانكماش اقتصاد بلاده بنسبة 2.1 بالمئة خلال العام 2022، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب الاتحاد السنوي الثلاثاء، أنه يتوقع زيادة التعاون مع دول الهند وإيران وباكستان، لا سيما على المساوى الاقتصاد، ذلك ما يعني أن بوتين قرر خوض الحرب الاقتصادية مع الغرب، عبر التخلي عن السوق الاقتصادية في أوروبا والتوجه نحو الشرق في آسيا.

الخبير في اقتصادات الطاقة حسام الشاغل رأى أن موسكو تسعى حاليا لرفع أسعار النفط في السوق الدولية عبر تخفيض الكمية المعروضة، أما توجه بوتين نحو الشرق، فأشار إلى أنه يواجه العديد من العقبات ليس أبرزها اضطرار روسيا إلى بيع النفط بأسعار أقل حتى من السقف الذي أقرته الدول الأوروبية.

الشاغل قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “قرار وضع سقف لأسعار النفط الروسي أدى لأن يكون السعر لا يتجاوز 60 دولار للبرميل، روسيا تسعى لخفض الكمية المعروضة في السوق وبالتالي ارتفاع الأسعار. تسعى كذلك إلى التوجه نحو الشرق في قطاع الطاقة وغيرها، لكن ذلك كان له أضرار اقتصادية كبيرة”.

منذ أن بدأت روسيا ببيع النفط إلى الهند بعد الربع الأول من العام الفائت، وهي تضطر لتقديم خصومات كبيرة لنيودلهي لإغرائها بطلب المزيد من الشحنات، إذ يباع برميل النفط الروسي إلى الهند بسعر لا يتجاوز 35 دولار.

من ملامح التوجه الروسي نحو الشرق، ما تسعى إليه موسكو بالتعاون مع إيران بتشييد طريق تجاري جديد عابر للقارات باستثمارات تزيد عن 20 مليار دولار، حيث يمتد من الحافة الشرقية لأوروبا إلى المحيط الهندي، بطول 3 آلاف كيلومتر.

كذلك تريد روسيا السيطرة على رؤوس الأموال والشركات في البلاد، لدفعها نحو التعامل التجاري مع دول الشرق والاستغناء عن التعامل الاقتصادي مع أوروبا، وتسعى أيضا إلى تسليم الشحنات على طول الأنهار والسكك الحديدية المرتبطة ببحر قزوين وتصل روسيا بالهند مرورا بالأراضي الإيرانية، وبالتالي زيادة حجم التجارة الخارجية. 

هل تنجح روسيا؟

يمكن لهذه الخطوات فعلا أن تزيد من حجم التدفقات التجاري مع دول الشرق، في حال نجحت مع إيران من ربط مجمع ميناء تشابهار غير المكتمل والذي تأخر كثيرا على المحيط الهندي، لكن وبحسب مختصين فإن روسيا لا يمكن لها استبدال هذا السوق بالدول الأوروبية، بسبب جودة الأخيرة، فهي لن تستطيع البيع في دول آسيا بنفس الأسعار، فضلا عن التكلفة العالية لنقل البضائع والشحنات.

ما زالت التساؤلات حول قدرة الاقتصاد الروسي على مواصلة مواجهة العقوبات الغربية وتداعيات الحرب مع أوكرانيا قائمة، مع دخول المواجهة الاقتصادية عامها الثاني، حيث شن الغرب أعنف هجوم اقتصادي على موسكو، على خلفية غزو القوات الروسية لأوكرانيا.

من جانبها كذلك، يبدو أن أوروبا استعدت لهذه الحرب الاقتصادية جيدا، فبدأ منذ أشهر خطوات الاستغناء بشكل تدريجي عن الطاقة التي مصدرها روسيا، رغم أن ذلك كلفها الكثير من الشاريع الجديد، ودفع تكاليف عالية للحصول على الغاز من الولايات المتحدة الأميركية، لكن التحولات والتحالفات الجديدة فرضت اصطفافات جديدة في العلم.

أشبه بلعبة عض الأصابع بين روسيا التي تبحث عن سوق جديد وتحالفات بعيدة عن أوروبا، وبين الغرب الذي يسعى لكبح جماح الغزو الروسي والاستغناء عن مصدر الطاقة والغاز الروسيين بأقل الخسائر، يحاول الطرفان البحث عن أدوات جديدة بعيدا عن الآخر، لعدم الاضطرار للاستسلام في هذه الحرب.

روسيا تكبدت خلال العام الماضي خسائر فادحة من تأثير العقوبات الغربية، حيث واجهت موسكو مجموعة من القيود التجارية والمالية التي هدفت إلى شلل الاقتصاد وعزل روسيا عالميا وجعلها دولة منبوذة، لكن على الرغم من ذلك فإن زيادة تجارتها مع دول كالصين والهند، سمح لبعض التكنولوجيا المحظورة مثلا بالتسلل إليها.

رغم أن هذه العقوبات لم تجبر القوات الروسية على إيقاف الغزو على مدار الأشهر الماضي، إلا أن تقارير لخبراء اقتصاديين، أشارت إلى أن الوقت ينفد بالنسبة لبوتين، مع بدء الغرب فرض لعدد من القيود الصارمة على صادرات الطاقة الروسية، وهي خطوة رفضها الغرب في البداية خشية حدوث انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي.

مع وضوح التوجهات الروسية نحو الشرق، بدأت تتضح معالم المواجهة الاقتصادية القادمة بين روسيا والغرب، في حين لم تتخذ حتى الآن الدول الغربية موقفا من الدول الآسيوية التي قد تواجه اتهامات بالتواطئ مع روسيا ومساعدتها بشكل غير مباشر في غزوها الأراضي الأوكرانية، فهل تستطيع روسيا مواجهة العزلة الدولية عبر تحالفاتها الجديد وتوجهها نحو الشرق الآسيوي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.