بينما كان قطاع العقارات في سوريا يشهد اضطرابات جمّة منذ مدة طويلة، أدت كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا في 6 شباط/فبراير الفائت إلى تفاقم كارثة هذا القطاع وجعل حصول المواطن السوري على منزل أمرا مستحيلا بعدما كان حلما قبل الحرب.

فقبل الزلزال، ساد الركود على القطاع العقاري، نتيجة الارتفاع غير المسبوق في الأسعار، والتي وصلت الآن إلى مليار ليرة سورية وأكثر من ذلك في المناطق الراقية، في مقابل انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين، فضلا عن ارتفاع تكاليف الإنشاء ومواده، بصورة كبيرة، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام النقد الأجنبي، غير أن الزلزال المدمّر فاقم من هذه المعضلة وبات سوق العقارات في سوريا بعد الزلزال مختلفا عما قبله.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول أزمة السكن بعد الزلزال، وكيف ارتفعت أسعار الإيجارات إزاءه، وهل يتناسب مع دخل المواطنين، وكيف يتلاعب ويستغل التجار بالأزمات، وسط غياب أي دور حكومي، بالإضافة إلى آثار وتداعيات هذه الأزمة وإذا ما ثمة موجة نزوح وهجرة مرتقبة في مواجهة هذه الظروف البائسة.

أسباب ارتفاع “الإيجارات”

في الإطار، لا يحتاج أصحاب المكاتب العقارية لحجج تُستغل ليسارعوا بإشعال سوق العقارات السكنية منها والتجارية، ولم تشفع كارثة الزلزال للمنكوبين الذين فقدوا منازلهم وأعمالهم، فارتفعت أسعار الإيجارات خاصة بعد أن بدأت مبادرات استئجار المنازل لستة أشهر أو عام كامل.

الإحصاء الكامل للمنازل المتضررة نتيجة الزلزال لم يُنجز بشكل كامل من قبل الجهات الحكومية السورية لوجود أبنية تعرضت للهدم الكامل وأبنية آيلة للسقوط وأبنية متضررة بشكل نسبي ومتفاوت. ولكن تم تقدير متوسط كلفة ترميم المنزل بنحو 150 مليون ليرة سورية، أي حوالي 17 ألف دولار أميركي.

صحيفة “الوطن” المحلية، نقلت عن المكاتب العقارية بدمشق وريفها وضمن مناطق “جرمانا- صحنايا- مزة- حي العرين- برزة- قدسيا”، قولهم إن حال الأسواق لم يتغير ولم يختلف كثيرا عما هو عليه قبل الكارثة، لكن حركة الشراء خفيفة جدا للأسعار المطروحة التي وصفها بـ”الخلبية” أي تفوق قدرة المواطنين السوريين في الداخل، في حين يبقى الطلب متزايد على إيجار العقارات وخاصة السكنية منها.

هذه الزيادة على طلب الإيجارات تأتي في أعقاب الزلزال ونزوح عدد من الوافدين الذين خسروا منزلهم في المناطق المتضررة ونتيجة لارتفاع الأسعار عموما، نظرا لأن الليرة السورية يوما بعد يوم تتراجع أمام الدولار الأميركي، وفق تقدير الخبراء الاقتصاديين.

قد يهمك: تقييم الأضرار وتقدير التكلفة.. بناء المنازل في سوريا بعد الزلزال ضمن الاستطاعة؟

كذلك، حالة الاستغلال من قبل التجار موجودة منذ زمن بعيد في سوريا وتنامت بشكل كبير أثناء الحرب السورية، ولا شك أن كارثة الزلزال ساهمت بشكل كبير في ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات بشكل خاص، وإن كانت الحكومة السورية تدعي بأن هذا الغلاء ليس سببه الزلزال، وفق أحد تقديرات المختصين من الداخل السوري لموقع “الحل نت”.

صحيفة المحلية ادعت نقلا عن لسان أحد الخبراء، أن عدد المساكن في سوريا يستوعب ضعف السكان الموجودين، فلا مبرر للربط بين ارتفاع الأسعار في سوق العقارات وكارثة الزلزال الحاصلة في المناطق المنكوبة، مبينة أن عدد الشقق المتضرر في هذه المناطق لا يستدعي حدوث أزمة سكن.

إلا أن تحليلات المختصين تقول غير ذلك، حيث أشاروا إلى أن قطاع الإيجارات، لا شك أن وضعه ازداد سوءا بعد الزلزال، ذلك لأنه لم يكن هناك منشأ عمراني جديد ومنعش في سوريا منذ سنوات عديدة، واقتصر البناء على المناطق الراقية، وهذا يفوق قدرة معظم السوريين اليوم، غير أنه في المناطق الفقيرة أو حتى في المناطق المتوسطة، فالحركة شبه متوقفة، وبالتالي الإيجارات سترتفع حتما وهذا ما حدث بالفعل.

توقعات سابقة

عقب وقوع الزلزال، أشارت الدلائل إلى ارتفاع جديد بأسعار العقارات وإيجار المنازل بنسبة 30 بالمئة، وذلك بسبب الأزمة الكبيرة التي تواجهها البلاد جراء تأمين سكن بديل للمتضررين.

ذلك على إثر خروج الكثير من الوحدات السكنية عن الخدمة، إضافة إلى استغلال فئة من أصحاب العقارات لزيادة الطلب التي حصلت خلال الأسابيع الماضية لرفع إيجارات منازلهم، فضلا عن أن أسعار العقارات كانت بالأساس ترتفع كل شهر، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية والتي تبرر في الكثير من الأحيان لأصحاب العقارات رفع أجور منازلهم كونها تشكل مصدر دخل لهم.

إن انخفاض سعر الصرف لم يرافقه انخفاض بأسعار السلع والعقارات كون المشكلة اليوم تكمن في انهيار القدرة الشرائية لليرة السورية بغض النظر عن سعر الصرف، فمن غير الممكن تحسين الوضع المعيشي دون تأمين حوامل للطاقة وتخفيض أسعارها، وفي حال عدم تدخل الدولة وتشييدها لمباني سليمة بسرعة لن يكون أمام المواطنين سوى الإعمار بشكل فردي.

على مدى السنوات الماضية، لم يتوقف تجار الحروب والأزمات عن استغلال الظروف المأساوية للناس، وبالتالي لا شك أن قطاع العقارات سيتدهور أكثر مما هو عليه من حيث ارتفاع سقف إيجارات البيوت، والبعض يبدو أنه قام برفع الإيجارات بغية الاستفادة بما يتناسب مع الواقع المعيشي وليس إلا.

سوق العقارات في سوريا، يشهد ركودا كبيرا نظرا لرغبة الكثيرين في بيع عقاراتهم ومغادرة البلاد، وفق ما يفيد خبراء اقتصاديون وعاملون في مكاتبٍ عقارية، والزلزال ساهم في تعميق هذه الفجوة، فالعديد العوائل المقيمة في المناطق القريبة من وقوع الزلزال باتوا يعرضون منازلهم للبيع، خشية من وقوع ضربات أخرى من الزلازل، بينما ينوي البعض الانتقال للعيش في البلدان المجاورة لسوريا، وتأجير منازلهم لأسباب نفسية متعلّقة باهتزاز الثقة بمواصفات ومتانة العمران وقدرته على حماية أرواح قاطنيه في حال حصول زلزال أخرى.

بالتالي فإن مسألة الإيجارات ارتفعت أكثر من حركة البيع والشراء في سوق العقارات بسوريا، كما وبدون شك ترك الزلزال آثارا سلبية كبيرة في نفوس السوريين الذين عانوا الأمرين نتيجة الحرب التي عصفت بالبلاد منذ أكثر من 12 سنة.

حلول فوق قدرة الحكومة؟

الحلول للخروج من أزمة السكن والحاجة العقارية مرتبط بكميات الركام الموجودة في سوريا التي تشكل ثروة مهمة، كما أن تدوير الركام والمواد البيتونية هو علم بحد ذاته، إذ إن كثيرا من مراكز الأبحاث العلمية تعمل على دراسة هذا العلم وخلصت لنتائج جدا مهمة.

هذه الأنقاض لا يمكن فقط تدويرها كحصويات للبيتون بل يمكن تدويرها كحصويات للبيتون الجديد عن طريق تكسيره، كما أن إعادة التدوير لها فوائد عديدة مثل تنظيف البيئة والاستفادة منها كبديل للحصويات في إعادة الإعمار والترميم اليوم.

قد يهمك: بين الفساد والعجز.. لماذا فشلت “التجارة الداخلية” السورية في السيطرة على أسعار السلع؟

كذلك هناك أهمية للحديد الموجود في هذا الركام بعد تذويبه وإعادة صقله في قوالب خاصة كحديد تسليح أو حديد البناء وترميمه، كما كان العمل جاريا في معمل حديد حماة بإعادة تدوير الركام والاستفادة منه. إضافة للاستفادة من البيتونات الكبيرة لرصف الأرصفة والطرق والحدائق وإعادة هيكلة التربة خاصة ترب المناطق الشرقية.

لكن هذا يبقى رهن قدرة الحكومة السورية الشبه منهارة اقتصاديا على القيام بذلك وتأمين السكن للمتضررين أو الحد من أزمة العقارات في البلاد ككل.

كذلك تأمين السكن للمتضررين أو إعادة الإعمار يتطلب مليارات الدولارات، لأن حجم الأضرار كبير، وهذا عبء لا تستطيع حكومة مثل الحكومة السورية المتهالكة على عدة مستويات، من عجز “المصرف المركزي السوري” إلى ندرة الوقود والمواد الغذائية والخبز تحمله أو احتوائه، وبالتالي فإن هذا سيؤدي إلى ارتفاع الإيجارات وتأزيم قطاع العقارات أكثر في الفترات المقبلة.

تأكيدا على هشاشة دمشق أمام الأزمات والكوارث الطبيعية، فإنها منذ وقوع الزلزال خصصت 50 مليار ليرة سورية كمبلغ أولي للاستجابة الطارئة، وهو ما يعادل 6.7 مليون دولار حسب سعر الصرف المتداول. فيما تذهب تقديرات أولية إلى أن قيمة الأضرار تصل إلى 5 مليار دولار.

الآثار والتداعيات

العديد من النشطاء المقيمين في مناطق الحكومة السورية، قالوا إن المساعدات التي وصلت إلى سوريا من عشر دول بعد الزلزال، تُقدر بمئات ملايين الدولارات، لكنها لم توزع للمتضررين حتى اليوم، وإنه تم توزيع مساعدات قديمة ومهترئة على المتضررين. وتاريخ الحكومة السورية مليء بهذا النوع من الاستحواذ على المساعدات الدولية، إذ كشفت العديد من التحقيقات الغربية، كيف تقوم دمشق بسرقة المساعدات الأممية المقدمة للشعب السوري المنكوب.

هذا وتتالت شكاوى السوريين بمناطق سيطرة دمشق خلال الأيام الماضية حول سرقة المساعدات الدولية، وربط توزيع المساعدات بمجموعات تابعة للسلطات. والعديد من المراقبين يقولون إنه طالما هذه الحكومة هي من قامت بقتل وتهجير شعبها، فإنه من الصعب الوثوق بها، وبالتالي لن تتهاون هذه الحكومة في استغلال المساعدات وكل القرارات الأممية لا سيما القرار الأميركي الأخير في صالحها، خاصة وأن هذه الحكومة منهارة اقتصاديا.

تأمين السكن للمتضررين يتطلب مليارات الدولارات، لأن أعداد المتضررين بالآلاف، وهذا عبء لا يستطيع أي طرف أن يتحمله أو يوفّره. وعليه فإن هذا سيغذّي ويؤجج من مستوى المشكلات الاجتماعية وعلى عدة أصعدة في البلاد.

علاوة على ذلك، فإن أزمة العقارات ستزداد تباعا لانخفاض الليرة السورية أمام النقد الأجنبي ولا شك أن مأساة الزلزال فرضت وأفرزت أسوء النتائج على هذا القطاع، ما سيخلّف مشاكل جمّة من نفسية واجتماعية في المجتمع السوري، وغير مستبعد أن تزداد حالات الهجرة والنزوح للمناطق الأخرى الأكثر استقرارا، مثل مناطق “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، كما حدث سابقا.

أيضا غياب أي خطط لدعم وتعويض المتضررين من الزلزال، في مقابل حاجة نحو 100 ألف منزل جديد على الأقل، بتكلفة لا تقل عن 1 مليار دولار على أقل تقدير يصبح المشهد المستقبلي في سوريا غاية في التعقيد والسواد.

عليه، فإن قطاع العقارات في سوريا، يبدو أنه يتجه إلى المزيد من الركود، والغلاء، والعمران العشوائي المنافي للمواصفات الفنية المطلوبة لمقاومة الكوارث الطبيعية من العواصف والهزات الزلزالية سينتشر، وسيزداد مؤشر عدم الثقة بقطاع التشييد بسوريا مما سيؤدي إلى تراجع عددا هائل من المستثمرين المغتربين في هذا القطاع المتداعي أصلا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.