على مدار السنوات القليلة الماضية، عمدت حكومة دمشق إلى دفع وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لتكون وجها لوجه أمام المواطن السوري والتاجر، وذلك في صراع ارتفاع أسعار السلع والخدمات المتواصل في البلاد، في وقت تشهد فيه المواد الأولية ارتفاعا هي الأخرى، فيما يبقى متوسط الأجور عاجزا عن اللحاق بهذه القيم.

هذا الدفع من قبل الحكومة كان متعمَّدا، فالقيادة المركزية في دمشق، تدرك أنها لن تتمكن من تحقيق استقرار في أسعار السلع الأساسية والخدمات للسوريين، وأرادت أن تكون هناك جهة تتحمل عبء الانتقادات والفشل الحكومي في ضبط الأسعار، فكانت هي بالطبع وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، والوزراء الذين تعاقبوا على إدارتها، فضلا عن مختلف المؤسسات والمديريات التابعة لها.

“حماية المستهلك” في الواجهة

خلال السنوات القليلة الماضية، تصدّرت حماية المستهلك أو كما تعرف محلّيا بـ”وزارة التموين” المشهد في الأسواق، وأصبحت تصدر بشكل يومي لوائح لأسعار أهم السلع الغذائية والخدمات، وتهدد بمعاقبة المخالفين من تجار الجملة وأصحاب متاجر البيع بالتجزئة، لكن هل تملك الوزارة فعلا الأدوات لضبط الأسعار، ولماذا فشلت في تأمين السلع الأساسية بأسعار مناسبة للسوريين.

منتجات الدواجن على سبيل المثال، كرست لها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك جهودا غير مسبوقة لضبط أسعارها، وأصدرت خلال العام الماضي فقط ما لا يقل عن مئة قرار يتعلق بأسعار البيض ولحم الدجاج، بررت خلالها الارتفاع وهددت التجار، ومع ذلك استمر ارتفاع الأسعار، وفي كثير من الأوقات فقدان هذه المنتجات بشكل شبه كامل من الأسواق، الأمر الذي هدد خطوط الإنتاج وأدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني.

 الوزارة أصدرت أيضا خلال الأيام القليلة الماضية آخر قرار حددت فيه أسعار مبيع مادة الفروج بمختلف أنواعه، محذّرة الباعة المخالفين من تجاوز التسعيرة الجديدة، حيث تم تحديد سعر مبيع كيلو الفروج (الريش) للمستهلك بـ 16 ألف ليرة سورية، وسعر كيلو الفروج المذبوح والمنظف بـ22 ألفا و500 ليرة، وسعر كيلو الشاورما بـ 59 ألف ليرة، والفروج المشوي بـ 48 ألف والبروستد والمسحّب بـ 49 ألف، وسط احتجاجات واسعة على هذه اللوائح.

الحلقة المفرغة تكمن بالطبع في رفض الحكومة المركزية الاعتراف بالفشل والعجز عن تأمين متطلبات السوريين، ما يجعلها تدفع بالمؤسسات والوزارات إلى واجهة المشهد، بالتالي فإن أي تقصير أو عجز يتم نسبه لوزير أو مدير، وحين تتصاعد الانتقادات تتم عملية استقالة أو إقالة هذا الوزير “بسبب فشله في إدارة مهامه الوظيفية”.

من يتحمل مسؤولية الفشل؟

 الحقيقة هي أن هذا الوزير ووزارته لا يملكون الأدوات الأساسية لأداء وظيفتهم، فكيف يمكن إصدار قرار بيع طبق البيض بسبعة آلاف ليرة سورية، وتكلفته على المنتج أكثر من ذلك، تريد الحكومة تصدير نفسها أنها تقوم بواجبها إزاء المواطن، وتصدّر لوائح أسعار مناسبة لدخله، لكن تطبيق هذا القرار يعني خسارة للمنتج بالتالي توقفه عن الإنتاج ودخول الأسواق في حلقة مفرغة.

كذلك فإن الفساد المنتشر في مؤسسات الحكومة، ساهم أيضا بدفع وزارة التموين إلى الفشل، فقد كشفت العديد من التقارير المحلية، عن فساد في دوريات حماية المستهلك التي تتجول بالأسواق، كذلك دخول مواد منتهية الصلاحية بكميات كبيرة بعيدا عن الرقابة التي بقيت الوزارة تتغنى بها، كأبرز الجهود المبذولة خلال الفترة الماضية.

الخبير الاقتصادي رضوان الدبس، أوضح من جانبه أن موضوع دور وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، مرتبط بعوامل كثيرة بينها القوانين الداخلية للحكومة، ومدى قدرة الحكومة بكامل وزاراتها على تأمين ما يمكّن وزارة التموين من ممارسة دورها الطبيعي، مشيرا إلى أن فشل هذه الوزارة لا يعبّر عن فشلها كمؤسسة، بل يعبّر عن فشل كامل لهيكل الحكومة والإدارة المركزية للبلاد.

الدبس قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “ما فائدة وزارة التجارة الداخلية والبنك المركزي يكاد يكون مفلسا، بالتأكيد هذا يعيق عمل الوزارة، فضلا عن إدارة الجمارك، ووجود الحواجز الأمنية التي ما زالت إلى الآن تجمع إتاوات من التجار أثناء نقلهم لبضائعهم، بالطبع هذا يرفع من تكلفة الإنتاج، ولا دور أبدا لوزارة التموين هنا، نحن نتحدث عن فشل مترابط لمعظم مفاصل الدولة”.

قد يهمك:  الغموض النووي يغذي العداء الإسرائيلي تجاه إيران.. النتائج والتوقعات

قرارات حماية المستهلك فيما يتعلق بالأسواق السورية، يراها البعض أنها ساهمت بتفاقم معاناة المواطن، خاصة وأنها جعلت التجار والمنتجين خصما لها في كثير من الأحيان، فساهمت بخروج العديد من المنتجين من السوق، وبالتالي ندرة المنتجات التي كانوا يضخونها سابقا، وقد جرّبت عشرات الآليات المتعلقة بضبط الأسعار، ولم يكن لأي منها آثار إيجابية ملموسة.

صحيح أن حماية المستهلك تصدرت مشهد تأمين السلع الأساسية للمستهلك وبأسعار بسيطة، لكن الدبس أكد أن الوزارة ليست الجهة الفاعلة، وأردف قائلا “توجد وزارة لتأمين السلع، والمنتجون لا يجدون المواد الأولية والنفط. القيادة المركزية تسعى فقط للحفاظ على الهيكل الوزاري، بالتالي الدولة ما زالت قائمة، لكن الحقيقة تقول إن هذه الوزارات لا تملك أية أدوات مادية أو إدارية، من شأنها أن تسمح لها بممارسة دورها الطبيعي”.

ملامح فشل الحكومة

الخبير الاقتصادي اعتبر أن فشل حماية المستهلك بممارسة دورها الطبيعي، ناتج عن العديد من الأخطاء المركبة، وبالتالي هذا الفشل تتحمله الحكومة بأكملها، وليس الوزير أو مؤسسات الوزارة، خاصة وأن عمل الوزارة مرتبط بالعديد من العوامل التي هي من مسؤولية وزارات مختلفة.

حول ذلك أضاف، “التموين لا تملك جميع الأدوات، بعض التجار والمتنفذين يمكن أن يؤثروا أكثر من الوزارة. الأخطاء مركّبة وتتحملها الحكومة بأكملها، وهي تسعى لتصدير بعض الوزارات والشخصيات بالواجهة، لكي تحمّلهم نتيجة الأخطاء والثغرات التي ستظهر لاحقا، وتقيل وزير من هنا ومدير من هناك، وتنتهي المشكلة”.

بالطبع فإن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، لا تملك على سبيل المثال أدوات تأمين البنى التحتية للمساعدة في دفع عمليات الإنتاج والتصنيع، كذلك فإن تأمين المواد النفطية ليس من مسؤوليتها، لكننا نرى دائما الحكومة تحمّل مسؤولية أي فشل في ضبط الأسواق لهذه الوزارة، التي لا حول لها ولا قوة، وذلك للهروب من المسؤولية، وتقديم التبريرات للمواطنين التي قد تبدو مقنعة في بعض الأحيان.

في خضم هذا الفشل التي عانت منه وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك خلال السنوات الماضية، فإن الحكومة المركزية ترفض بالطبع الإعلان عن عجزها في القيام بتأمين المواد الأساسية وضبط الأسعار، ودائما ما كانت تحمّل المسؤولية للعقوبات الاقتصادية أو قانون “قيصر”، وأحيانا لجشع التجار وفي أفضل الأحوال يتم تحميل المسؤولية لوزارة التموين ويتم إقالة الوزير.

فدمشق مصرّة على القول إن الدولة ما زالت قائمة، بحكومتها ووزاراتها التي تقدم الخدمات للمواطنين، وهنا أكد الدبس أن “دمشق تسعى للمحافظة على الهيكل الخارجي للدولة، لكن فعليا هذا الهيكل متآكل من الداخل، والحكومة لا تملك أصلا ما تقدمه للمواطنين، فضلا عن الفساد المنتشر فيها، هذا الهيكل معرّض في أية لحظة للانهيار لأنه فارغ من الداخل”.

الحكومة في دمشق تقف عاجزة أمام انهيار قيمة الرواتب والأجور أمام المواد الغذائية والسلع الأساسية للأسر السورية، فضلا عن انهيار العملة المحلية، الذي أفقد الرواتب في سوريا نسبة كبيرة من قيمتها، وهذا ما دفع المئات من موظفي المؤسسات الحكومية السورية إلى الاستقالة مؤخرا.

في الوقت الذي لا يتجاوز فيه راتب الموظف الحكومي 300 ألف ليرة سوريا “35 دولار أميركي”، فإن أحدث الدراسات تشير إلى أن متوسط تكاليف معيشة الأسرة السورية، يصل مليونين ليرة على أقل تقدير، بالتالي فإن الحكومة بالتأكيد لا يمكنها تحديد أسعار تناسب أصحاب الدخل المحدود، ولا يمكنها أيضا الاعتراف بعجزها عن القيام بهذا الدور.

أسباب فشل وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بالطبع لا تتحملها الوزارة نفسها، وهي التي لا تملك الأدوات لتأمين المواد الأساسية للمحافظة على خط إنتاج السلع الأساسية، بالتالي يمكن استنتاج أن الهدف الرئيسي من دفع الوزارة لتتصدر المشهد، هو لجعلها “شمّاعة” وتحميلها مسؤولية الفشل الحكومي الكامل عن تأمين السلع الأساسية للسوريين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.