لم يكد يمضي وقت طويل على حادثة الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وعدة مدن شمالي سوريا في السادس من شباط/فبراير الماضي، حتى ارتفعت أسعار معظم مواد البناء والإكساء وأجور العمال بنسب قياسية؛ مفاقمة بذلك معاناة السوريين المتضررين من هذه الكارثة.

حديث متعهد بناء ومدير ورشة مؤلفة من ” 40 عاملا”، نسيم إبراهيم عن أن تكلفة إكساء المتر الواحد لشقة سكنية بمساحة 100 متر كانت قبل الزلزال تتراوح بين 800 ألف إلى مليون و200 ألف ليرة سورية، أما اليوم أصبحت تكلفة إكساء شقة مساحتها 100 متر تتراوح بين 200 إلى 300 مليون ليرة، للبناء على الهيكل، يظهر مدى ارتفاع الأسعار إلى جانب غياب الدور الرقابي لهذا الارتفاع غير المنطقي. فإذا كان هذا الغلاء تبريره انخفاض الليرة السورية، فهذا غير صحيح، ذلك لأن الليرة لم تنخفض منذ شهرين إلى هذا المستوى الكبير أمام الدولار الأميركي.

لذلك لا بد من طرح بعض التساؤلات حول هذا الموضوع، وإذا ما كانت الزيادة في مواد البناء منطقية في ظل الزيادة العامة للأسعار في سوريا، أم أن ثمة تلاعبا وانتهازية للوضع المأساوي من قبل التجار ومتحكّمي مواد البناء، بالإضافة إلى التساؤل الأهم وهو دور الحكومة وقيمة القروض السكنية التي منحتها مؤخرا، والتفاوت الكبير بين مبلغ القرض وتكلفة البناء الحالية.

أرقام “خيالية”

في حين تتجه الأنظار بعد كارثة الزلزال، نحو الترميم والبناء، مع التفكير بتكاليف البناء قياسا بأسعار مواده، المتعهد نسيم إبراهيم بيّن في تصريح لصحيفة “الوطن” المحلية اليوم الأربعاء، أن مخصصات ورش البناء والإكساء من الإسمنت المدعوم مع احتساب أجرة النقل تصل إلى 515 ألف ليرة للطن الواحد، بكميات 15 طنا على دفعتين كل شهر، مضيفا أن هذه المخصصات لا تكفي لبناء ملحق واحد، ما يدفعهم لشراء الإسمنت بالسعر الحُر كي لا تتوقف ورشهم عن العمل.

سعر طن الإسمنت الحُر كان 550 ألف ليرة، واليوم وصل إلى 850 ألف ليرة، وقد يصل لمليون ليرة أحيانا، وفق إبراهيم الذي أشار أيضا إلى أن اعتمادهم على شراء الإسمنت الحر سيرفع بشكل أو بأخر أسعار العقار مع ارتفاع تكاليف مواد بنائه. هذا فضلا عن أن سعر متر البحص والرمل كان قبل الزلزال 45 ألف ليرة سورية، واليوم أصبح 62 ألف ليرة، لافتا قيام معامل الرخام والدهان برفع أسعارها وفقا لسعر الصرف، إضافة لحساباتهم التجارية بالتنبؤ بالأسعار ما يجعلهم يحددون أسعار المبيع من دون التقيد بالنشرات النظامية.

المراقبون يرجعون سبب هذا الارتفاع إلى زيادة الطلب الكبير على مواد البناء بعد الزلزال والهزات الارتدادية المرافقة له، وهو ما أدى إلى ارتفاعها لمستويات قياسية، ووسط غياب أي رقابة حكومية فإن هذا عزز من تلاعب التجار بالأسعار، مستغلين بذلك حاجة المتضررين من الزلزال.

أسباب الارتفاع

أحد المختصين المعماريين من الداخل السوري أكّد لموقع “الحل نت”، أن كلفة بناء بيت بمساحة بين 100 متر مربع و 120 مترا مربعا تبلغ قرابة  100 مليون ليرة سورية وسطيا، علما أنه يكون مشيّدا علميا بحيث يكون مقاوما للزلازل إلى درجات عليا، بشكل تمتص الأساسات الصدمة ويبقى المنزل صامدا.

قد يهمك: تقييم الأضرار وتقدير التكلفة.. بناء المنازل في سوريا بعد الزلزال ضمن الاستطاعة؟ – الحل نت

المصدر ذاته يوضّح أن قول المقاولين بأن تكلفة إكساء شقة مساحتها 100 متر تتراوح بين 200 إلى 300 مليون ليرة، للبناء على الهيكل فإن هذا استغلال، بل وسرقة لجيوب المواطنين، وغياب الرقابة الحكومية يشجع هؤلاء على رفع الأسعار على أهوائهم.

هذا بالإضافة إلى قيام شركات البناء الخاصة برفع أسعار المواد بشكل كبير بذريعة التضخم، وبالتالي لجأ نسبة كبيرة من المتضررين إلى استئجار منازل بدلا من ترميم وتكسية منازلهم المتصدعة، وهذا بشكل عام أثّر على عمليات الإكساء وشراء العقارات وبيعها في سوريا، وهذا يؤثر على المواطنين عامة وليس فقط المتضررين من الزلزال.

أسباب الفرق بين البناء وإعادة الإعمار

في السياق، أوضح إبراهيم أن فرق السعر بين تكاليف البناء وإعادة الإعمار هو أن كسوة منزل جديد أرخص بكثير من إعادة إعماره، لأن الترميم والتعمير يتطلبان هدما وبالتالي ثمة مصاريف إضافية دون الحديث عن البناء والتدعيم.

إضافة لتكاليف أجرة اليد العاملة التي تضاعفت بعد كارثة الزلزال، فقد كانت أجرة اليد العاملة بين 2-30 ألف لليوم الواحد أما اليوم العامل لا يقبل بأقل من 50 ألفا في اليوم الواحد. وحتما هذا يعود لغياب الجهات المعنية والرقابية، فليس من المعقول أن يقوم كل فرد أو جهة يعمل بالقطاع الخاص برفع أجور أتعابه، في حين أن رواتب الموظفين في القطاعين؛ العام والخاص ثابتٌ ولا يتغير.

حركة سوق العقارات في تراجع من حيث المبيع، وخاصة بعد كارثة الزلزال، فأصبح سعر المتر الواحد على الهيكل يتراوح بين مليونين و800 ألف وحتى 4 ملايين.

بدوره الخبير في الاقتصاد الهندسي الدكتور محمد الجلالي أوضح أن أسعار العقارات ليست مرتفعة، لكن المشكلة تكمن في الرواتب والأجور، مبينا “أننا دوما عندما نوصف مشكلة بشكل غير صحيح ستقودنا لمحاولات غير صحيحة للحل”، وفقا للصحيفة المحلية.

جلالي أردف أن السعر في الاقتصاد يحكمه عاملان العرض والطلب، العرض تحكمه الكلفة التي لا يمكن تخفيضها لارتباطها بالأسعار العالمية، فإن أردنا اليوم مثلا تخفيض تكلفة طن الحديد فإننا لن نستطيع لأن سعره العالمي 6 ملايين تقريبا، كما أن صناعة الإسمنت يحتاج إنتاجها إلى وجود طاقة كبيرة، أي مازوت وفيول، بالتالي فإن أسعار مكوناته لا يمكن التحكم بها.

هذا يقود بالحديث إلى أن المشكلة تكمن في دخل المواطن، فلا يمكن القول إن المشكلة ارتفاع الأسعار والوقوف عندها، ولا بد من مقارنة ارتفاع الأسعار بتراجع الدخل، وإذا قورنت أسعار العقارات بدخل الفرد، وقورنت أيضا بعام 2011، يلاحظ أن أسعار العقارات بالليرة الثابتة لعام 2011 هي أقل من العام الحالي، وقد تراجعت 20-30 بالمئة، في حين المداخيل يعجز عن احتساب تراجعها بين العامين 2011-2023، كما أصبح من المستحيل لمداخيل السوريين المقيمين في الداخل العاملين في القطاعين العام والخاص أن تؤمن لهم امتلاك عقار.

بالاستناد إلى موازنة الأسعار، فراتب الموظف سابقا كان يساوي نصف طن حديد، وعليه يجب أن يكون راتب الموظف حاليا 3 ملايين، وبالتالي فإن الحديث عن ارتفاع أسعار العقارات أمر غير مجد وسيشكّل ضغطا على مستثمري العقارات الذين هم فعليا غادروا هذا الاستثمار، فأسعار العقارات قياسا بتكاليف أسعار المواد ليست مرتفعة والحل هو رفع مستوى الدخل.

بعض الآراء الأخرى تتفق مع هذا التحليل ولكن يقولون إنه لا يمكن الإغفال عن الدور الحكومي الصفري حيال هذا الارتفاع، فضلا عن استغلال التجار ومكاتب العقارات بالأسعار. أما في إطار الحلول الممكنة فبين بعض خبراء البيتون أن عدم حل هذه المشكلة سيضع الناس أمام خيارين أحلاهما مر؛ اللجوء إلى طرق ترميم غير صحيحة لترميم بيوتهم بأرخص المواد والخبرات، وتخفيض التكلفة وبالتالي لن يكون الترميم  ناجحا وصحيحا.

أو إذا كان الترميم سيتم وفق المواصفات والدراسات المطلوبة، فليست التكاليف بمتناول الأغلبية من الناس، وبالتالي هم في موقع وحالة عدم الأمان والخطر، خاصة للمنشآت الساحلية لاقترابها من مركز الزلزال وبنفس الوقت التأثير الملحوظ  للرطوبة الذي يضاعف عليها السلبيات.

فيما قدّر “البنك الدولي” مؤخرا أضرار الزلزال في سوريا بنحو 5.1 مليار دولار. طرحت الحكومة السورية نتيجة الزلزال قروضا لترميم المنازل المتضررة، بقيمة 18 مليون ليرة أي نحو 2500 دولار على فترة 6 سنوات تُسدد على دفعات شهرية بقيمة 250 ألف ليرة كل شهر، بينما لا يتجاوز دخل المستفيد قيمة الدفعة الشهرية. وتتضح المشكلة في أن من يحتاج القرض فعليا لا يمكنه الحصول عليه. ووصف الخبير الاقتصادي هذه القروض بأنها عاجزة عن تأدية مهامها ولا تناسب ظروف المواطن المعيشية والغلاء الحاصل.

كما أن القروض الشخصية التي تبلغ مليون ونصف المليون ليرة، لا تكفي للطعام، وسط هذا الغلاء الفاحش وارتفاع أسعار الإكساء لمستويات كبيرة، فكيف يمكن استخدامها للترميم، وبالتالي فإن هذه القروض غير مجدية ولن تشكل إلا مزيدا من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد، منها ارتفاع نسبة التضخم بالسوق نتيجة طرح كتلة نقدية كبيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات